مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
وأغمد السيف اليماني
لم يدرْ في خلد الدكتور محمد عبده يماني، وزير الإعلام السعودي الأسبق، أنّه بعد ما يقرب من شهر من كتابته نعي الأستاذ عبد الرزاق بليلة، رمز الثقافة والإعلام والرائد في العمل الخيري، أنَّه سيُكتب نعيه، في نفس المكان، ويدفن بجواره، في مقبرة المعلاة بمكة المكرمة!
وكان الفقيد قد كتب: ’’رحل أستاذنا الشيخ المربي الإنسان والرجل الفاضل عفيف اللسان والقلم، طيب القلب، كبير العزيمة الأستاذ عبد الرزاق بليلة، رحل عن هذه الدنيا الفانية بعد أن ترك بصمات واضحة، وسجل مواقف تربوية كبيرة شهد له بها إخوانه، وطلابه، وكل من عاشره من جيل الرواد’’، وها نحن اليوم نقف موقفه، وشتان بين موقف وموقف، فهو رجلٌ استمرت رحلة عطائه 70 عامًا، قضاها بين مجالات الإعلام والثقافة والأدب وأعمال البر والخير والإصلاح، خلفت له أثرًا طيبًا، وسيرة عطرة تناقلها الناس خلال العقود الماضية حتى بات من الشخصيات التي اتفق عليها خلق كثير.
والدكتور يماني من مواليد مكة المكرمة في العام 1359هـ، وحاصل على شهادة الدكتوراه في الجيولوجيا من إحدى الجامعات الأمريكية، وعمل محاضرًا بعددٍ من الجامعات السعودية، ثم مديرًا لجامعة الملك عبد العزيز، ووزيرًا للإعلام من 1395 إلى 1403هـ.
الحج
وكان من آخر ما كتبه الدكتور يماني – رحمة الله عليه – مقاله الذي وافق فيه الدكتور سلمان العودة (المشرف العام على مؤسسة الإسلام اليوم)، والذي نوّه فيه إلى أنَّ ’’وجود العسكريين بملابس عسكرية أمام الحجرة الشريفة في المسجد النبوي غير ضروري.. لكن من الممكن توحيد الزي -كما كان في عهد الملك عبد العزيز- بشكل يتفق مع المظهر المطلوب للواجهة الشريفة’’.
وقال فيما قال: ’’فرحتُ بحديث العالِم الشيخ الدكتور سلمان العودة عن المسجد النبوي الشريف، وأهمية أن لا يقف أمام الحجرة الشريفة رجال بملابس عسكرية.. ولا مرشدون بملابس غير لائقة.. لأنّ هذا المكان يضم ثرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وتعلّمنا أنه مكان كريم على الله، ومن هنا فإني أرى أن الدكتور سلمان العودة قد أصاب كبد الحقيقة، عندما نبّه إلى هذا الأمر.. وأرجو من معالي الأخ الشيخ صالح الحصيّن أن يأخذ هذا الأمر في الاعتبار.. وكذلك معالي الأخ الدكتور عبد العزيز خوجة’’.
وتأتي سلسلة الحج التي كتبها الدكتور يماني في صحيفة المدينة المنورة كواحدة من الأعمال الصالحة التي خُتم له بها حياته، حيث تناول فيها ’’وجوب تعليم فضائل مكة المكرمة للحجاج، والمدينة المنورة، وكيفية الرقي بالوطن والاستفادة من موسم الحج’’، وكما ختم حياته بكتابة الكلم الطيب، ختمها بالعمل الصالح، حيث أُصيب بجلطة وهو يدافع عن جمعيات تحفيظ القرآن، أدت لوفاته يوم الاثنين الثالث من ذي الحجة، الموافق التاسع من نوفمبر الجاري.
وللراحل أكثر من 35 مؤلفًا باللغتين العربية والإنجليزية في جميع المجالات الدينية والثقافية والعلمية، وقد حصل على عدة أوسمة وميداليات تكريمية، منها: وشاح الملك عبد العزيز، والميدالية التقديرية من حكومة أبو ظبي، ووسام رفيع من فرنسا، ووسام الكوكب الأردني، الذي منحه إياه الملك الراحل الحسين بن طلال.
من أرجاء القلب
صلى عليه خلقٌ كثير، كان في مقدمتهم صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة، وتوافد المصلون على المعزى من شتى مدن المملكة، واستمرت مراسم العزاء على القبر ساعات، وكان ممن واسى أسرة الراحل، وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبد العزيز خوجة، الذي كان وكيلاً ليماني في فترة وزارته لوزارة الثقافة والإعلام، حيث عبر عن بالغ حزنه وأسفه لرحيل رجل صاحب معروف، يسعى دائمًا في قضاء الحوائج، وقال: ’’كان منزله مفتوح على مدار الساعة، صاحب فكر عظيم، أديب ورجل في أمة، بل عدة رجال، كان مخلصًا لدينه ومليكه ووطنه، وعاش طوال حياته على هذه المبادئ، ولا أستطيع إلا أن أقول أسال الله له الغفران والعفو، وعزاء لكل من عرف الدكتور الراحل وأسرته وجميع من أحبوه، فهو خسارة كبيرة للوطن، سنفقده كثيرًا’’.
وقال صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن سلطان أمير منطقة تبوك: ’’فقدت المملكة برحيله أحد أبنائها المخلصين، حيث كرّس جل حياته في خدمة دينه ثم مليكه ووطنه، تفانى وقدم بالفكر والجهد أروع الأعمال وأصدقها في العديد من المجالات التعليمية والإعلامية والاجتماعية والفكرية، وترك بصمات جليلة تمثلت في نتاجه الفكري في العديد من المجالات، منها التعليمية والإسلامية والاجتماعية والإعلامية والأدبية’’.
كما قال رئيس مجلس القضاء الأعلى الدكتور صالح بن حميد: ’’أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان، وأن يعوّض المسلمين خيرًا، وأن يعوّض البلاد؛ فهو رجل من رجالات البلاد المعروفين له آثاره وبصماته في كل المواقع التي شغلها، سواء في الجامعة أو في التعليم العالي أو في الإعلام، فقد كان كاتبًا وكان مبدعًا، فضلاً عن نشاطه في الجمعيات الخيرية والنشاط الخيري، واهتمامه بهذه الأمور واهتمامه بالقرآن الكريم، ونسأل الله أن يجعل هذه الأعمال في ميزان حسناته وأن يعوض المسلمين خيرًا وأنّ يخلفه في أهله’’.
وقد اعتبر الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي البروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلو أنّ ’’الأمة الإسلامية فقدت رجلاً من كبار رجالاتها، رجل مبادرات خير، رجل قلبه اتسع لهموم الأمة ولآمالها، وخدم في كافة المجالات ولم يدخر وقته وطاقته في سبيل خدمة هذه الأمة.. وبيني وبين الدكتور محمد عبده يماني صداقة لما يقرب من ثلاثين عامًا لم أر فيه إلا كل خير، فقد كان صاحب خلق رفيع وهمة عالية رحمه الله’’.
أما وكيل وزارة الحج حاتم قاضي فأشار إلى أنّ وفاة الدكتور محمد عبده يماني خسارة كبيرة للوطن، فاليوم نذرف دمعة حزن على هذا الرجل الشهم النبيل، الذي نذر نفسه لخدمة السنّة النبوية المطهرة وفي خدمة طلبة العلم وخدمة كثير من الفقراء والمساكين.. فقد ترك حزنًا كبيرًا في قلوب محبيه.. نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينزله منازل الأبرار والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يرزق أبناءه السير على منوال أبيهم، فالفقيد تربى على أيدي علماء هذه البلاد الطيبة، واقتبس منهم الشيء الكثير، وكان مخلصًا في عمله.
وتواجد مدير عام الدفاع المدني الفريق سعد التويجري بالمقبرة، وقال: ’’إنّ الفقيد هو فقيد الوطن، له مآثر كثيرة ومحبوب لدى المجتمع، وهو رجل إعلام من الدرجة الأولى، وخدم وطنه بكل أمانة وإخلاص واستطاع أن يؤدي رسالته المطلوبة منه كما هو واجب عليه، وأنا تربطني به علاقة شخصية بحكم تدخله في بعض الأعمال الخيرية، ولاشك أنه من الرجال الأوفياء لأصدقائه ولمحبيه ولكل الناس، فاليوم الموقف مؤلم لكل من يحب هذا الرجل.. وأنا لمعرفتي به منذ زمن طويل أستطيع القول بأنّه رجل خير له إسهامات كثيرة في خدمة وطنه’’.
فيما أشار الدكتور بكري بن معتوق عساس، مدير جامعة أم القرى، إلى أنّ ’’الراحل كان محورًا هامًا وعلمًا من أعلام مكة المكرمة، الذين يُعرف عنهم التفاني في خدمة الإسلام والمسلمين والوطن. وما تركه من تراث أكاديمي وعلمي سيكون حجر الزاوية في انطلاق مجموعة من الأبحاث والدراسات العلمية والإنسانية، التي ستضيء مسالك العديد من الباحثين والمهتمين والدارسين في جامعات المملكة، ولعل ذلك يجعلني أطالب تلاميذ الدكتور محمد عبده أن يقدموا كرسي علمي، من خلال جامعة أم القرى ليفيد في نتائجه وتوصياته بعد الانتهاء من دراساته المجتمع المكي، وأتمنى من تلاميذه جمع كل ما يتعلق بحياة الراحل ووضعه في كتاب علمي، لتكون دروسًا للأجيال القادمة’’.
حجة له
وقد أعلن رئيس منظمة ’’فور شباب’’ الدكتور علي العمري، عن نيته أداء فريضة حج هذا العام عن الدكتور يماني، وقال عبر صفحته في الفيس بوك: ’’سأنوي بإذن الله الحج هذا العام عن فقيد القرآن د. محمد عبده يماني- رحمه الله-، فقد زرته مرات ومرات ما كان في واحد منها شيء للدنيا، إنما للشفاعة في شباب يحتاجون ومؤسسات تدعو للخير’’.
وهذا ليس مستغربًا، حيث شمل فضل الدكتور يماني، وتشجيعه، وحمايته، أبناء المجال الإعلامي والثقافي، يعتذر عنهم، وينصح لهم، يفعل كل ذلك في صمت ومحبة وتقدير، دون منّة أو أذى، كان محمد عبده يماني أبًا وأخًا وزميلاً للجميع، يشهد بفضله وإخلاصه حتّى الذين اختلفوا معه.
لذلك فقد رثاه الكاتب عبد الله العمري في صحيفة المدينة بمقالة ’’ستظل حيا وإن متَّ..’’، قال فيها: ’’رحل عالِم الدِّين والدنيا.. من عالم أحبّه، لعالم أحبّه لأجله، تاركًا وراءه ما يمكن أن يمثّل القدوة في عالم كاد أن يفتقد مرحليات أعمال، {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}، وهو من أولئك القلة الذين أدركوا أهمية أن يبحث كيف يسلك طريقًا، يجعل الحياة الدنيا وسيلة إلى غاية عظمى هي حياة الآخرة’’.
واعتبر عضو مجلس إدارة النادي الأدبي في جدة الدكتور يوسف العارف، الراحل أباً ثقافيًا مميزًا، بعدة مزايا في الأدب والفكر والدعوة، ’’وهو رمز من رموز الثقافة في بلادنا، وكان تواجده دائمًا في مختلف المحافل الأدبية والثقافية، وكنت آخر مرة التقيته في حفلة تدشين كتاب الدكتور فهد العرابي الحارثي الجديد قبل أسبوع، فالدكتور يماني قاد مرحلة إعلامية في وقت مضى، وشهد له العديد بالقدرات الكبيرة التي يمتلكها حتى آخر لحظة في حياته وندعو له بالرحمة والمغفرة’’.
وأكّد مدير جمعية الثقافة والفنون في جدة عبدالله باحطاب أنّ الراحل كان يحرص على أن يكون متواجدًا في مختلف المحافل الثقافية والأدبية، ’’وأتذكر أننا دعوناه في مناسبات عدة، وكان أول الحضور على الرغم من كبر سنه واعتلال صحته، وهذه الشخصية يجب أن ننظر لها من زوايا عدة فهو رجل الدولة وهو الكاتب والمثقف، وهو المفكر والداعية، وأياديه بيضاء ويشهد له الجميع داخل وخارج المملكة’’.
وأكَّد الأديب محمد سعيد طيب على أن رحيل يماني خسارة فادحة، ’’فهو شخصية تجتمع فيه شخصيات عدة. إنّ أفعاله النبيلة وأخلاقه الرفيعة جعلت منه واحدًا من الأدباء والمثقفين السعوديين، الذين شكلوا ظاهرة مختلفة داخل وخارج السعودية، وبفقد الدكتور محمد خسر الوطن الرجل الإصلاحي والتربوي ورجل الدولة والمجتمع، وهو من أبرز من كان يدعو إلى الوحدة الوطنية’’.
ووصف الشيخ أحمد حسن فتيحي فقدان يماني بالخسارة، وقال إنّ ’’الكلمات لا تكفي، فمناقب الفقيد لا تُعد ولا تُحصي ولا تكفيها الكلمات لتعبر عنها، وأسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته ويجازيه على ما قدمه لخدمة دينه ووطنه ومليكه الجنة’’.
من جانبه قال الشيخ رشاد علي زبيدي، أحد رفقاء الدرب: ’’إنّ بوفاة صديقي الحبيب محمد عبده يماني، فقدنا علمًا من أعلام المملكة ونبعًا من نبع الخير، ومساعدة المحتاجين والوقوف بالكلمة الصادقة المعبرة عن معاناة فئة الفقراء والمساكين والمحتاجين، رحمك الله أولاد يماني يستقبلون المعزين يا أبا ياسر فكنت ونعم الوزير والأخ والصديق لكل من دق بابك يريد المساعدة، فكنت لا ترد طالب المساعدة وتوصي له خيرًا. رحمه الله كان رمزًا من رموز العمل في الخدمة الإنسانية، وكان خير جليس. وقد كان يهاتفني ويسأل عني وعن صحتي رغم ارتباطاته’’.

علَّم وأغاث
طوال حياته الوظيفية من الجامعة أستاذًا ومديرًا، إلى الوزارة وزيرًا للإعلام، كانت حياة الفقيد سجلاً حافلاً للخدمة العامة بعضويته، ورئاسته للكثير من جمعيات البر، وهيئات الإغاثة، وسعيه الحثيث للإصلاح بين الناس، تلجأ إلى مكتبه، ومنزله، الأرملة والمسكينة، وكل ذي مظلمة أو حاجة.
قال عنه الدكتور عبد الله عمر نصيف، نائب رئيس مجلس إدارة جمعية تحفيظ القرآن الكريم بمنطقة مكة المكرمة: ’’أدعو الله سبحانه وتعالى أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته، ويجزيه خير الجزاء على ما قدمه من خدمات للإسلام والمسلمين وخدمه القرآن الكريم’’، مشيرًا إلى أنّ الفقيد ’’كان عضوًا في مجلس إدارة جمعية تحفيظ القرآن الكريم بمنطقة مكة المكرمة، وكانت له جهودًا ملموسة رحمه الله، وكان يقدم العون المادي والمعنوي لحلقات القرآن الكريم، كما كان له جهود ملموسة مع الجالية البرماوية التي تتذكره بكل إخلاص، فقد كان ينفق من حسابه الخاص على مدارس تحفيظ القرآن الكريم للجاليات البرماوية وحلقاتهم، وغير ذلك من الاعتمال الخيرية، نسأل الله أن يجعل هذه الأعمال في صفحات حسناته، وأنّ يغفر له ما تقدم وما تأخر من ذنبه’’.
وكما كان الفقيد الكريم بعد الوزارة، الأقرب للناس، والأحب إليهم، والأكثر انشغالاً بشئونهم، فإن فقده، أظهر حب الناس له، وتعلّقهم به، وامتنانهم لأفضاله وعونه الشيء الكثير، وقليل هم الذين راح الناس يعزّون بعضهم البعض في وفاتهم، وقليل هم من تسمع بعد وفاتهم دعاءً غامرًا من الناس، وذكرًا طيبًا، وترحمًا متواصلاً، حتى من الذين لم تقدر لهم معرفة الفقيد، أو الصلة به، وإنّما يسمعون عن سيرته العطرة، ومحبته للناس، وخدمته للجميع، ويكفي له أن مات، في شهر من أفضل الشهور، وعشر من أفضل أيام الدنيا، مات وهو يبذل قصارى جهده لخدمة القرآن لكريم، واختيار أفضل الطرق لتحفيظه، ونصح القائمين عليه، فرحمة الله عليه!
( الإسلام اليوم )
أضافة تعليق