مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الديني و الثقافي: الجدل المستمر
مصطفى بوكرن
قد أجازف في البدء إن قلت أن’’ عربنة الإسلام ’’ من أخطر الأسقام على الأفهام في زمن الثورة الإعلامية و المعلوماتية، أعني أن يتخيل المسلم بطريقة لا شعورية العالم المترامي الأطراف و المتعدد الألسن و الثقافات و الحضارات كأنه ’’شبه جزيرة العرب ’’، فيسقط واقع الزمان و المكان العربيين على بيئة ثقافية لا علاقة لها بالعرب، و يريد أن يمتثل تعاليم الإسلام بتفسيرات الإنسان العربي المرتبطة بسياقاتها الثقافية و الحضارية، دون أن يدرك أن النص الديني الإسلامي عطاءاته تتجدد بتغير الزمان و المكان، و أن امتدادات هذا النص عصية عن الحجر و الحجز في الزمان و المكان العربي، بل هي ممتدة؛ تحلق في آفاق الإنسانية لتعانق الفطرة السوية، فتتعدد التجارب الحضارية القارئة للنص الديني ) عبد الكريم سروش(، و قد يكون من إعجاز النص القرآني أنه يجمع بين التعالى عن الشرط الثقافي و المحايثة لسيروة الإنسان في التاريخ؛ فمتنه زاخر بمفردات البيئة العربية ) النخيل، العرجون القديم، الإبل، الحور المقطورات في الخيام...( إلا أن خطابه عالمي يرتكز على قاسم الفطرة المشترك بين كل التجارب الإنسانية) علي حب الله( ، وهذا يبين خاصية الإسلام المنفتحة على الواقع و المتجاوزة له وفق مرجعيته التوحيدية، فكما أن الإسلام استوعب التجربة العربية بمعتقداتها وعاداتها و لسانها، فاحتضنها و أعاد تركيبها، فكلمة الله كانت منتشرة في الجاهلية قبل الإسلام، فاحتضنها النص القرآني و أعاد صياغتها مفهوميا وفق الحقل الدلالي القرآني ) إيزوتسو توشيهيكو( .

إن ’’عربنة الإسلام’’ تسلب الوحي امتداداته المتعالية عن الشروط و الظروف، وتفقده فعاليته الإصلاحية المتجاوزة، وفي هذا السياق يمكن أن نقدم تجربة مفكر أمريكي مسلم عانى معاناة شديدة مع التيار الجارف في أمريكا الذي يبشر ’’ بالإسلام الخليجي السلفي’’، و من شدة إيمانه بأفكاره، لم يغير اسمه حين إسلامه مخالفا لكل من أسلم من الغربيين، الذين يحرصون على التسمي بأسماء العرب، فأبقى على اسم ’’ جيفري لا نغ’’، ففي كتابيه ’’الصراع من أجل الإيمان و حتى الملائكة تسأل’’ ، يقص حكايات كثيرة عن المسلم الجديد في أمريكا، مسلم إذا نظرت إليه لا تميزه إلا بزرقة العينين و حمرة الوجنتين أو بسواد بشرته، و يتماهي بلباسه مع الإنسان الخليجي، كما أنه يبذل مجهودا للحديث باللغة العربية ليثبت إسلاميته، ويعيد ترتيب علاقته الأسرية مع أصدقائه و عائلته، فحين يحل الضيوف عنده تختفي النساء في بيت منعزل ..، إلى غير ذلك من الحكايات الكثيرة، فجفري مهموم بإشكالية جدل الدين و الثقافة، حيث يتساءل بلغة داخلية كيف يصبح ما هو ثقافي مقدسا؟، بل إن جفري من شدة إدراكه للمسألة، له رأي في الأكل باليمنى، حيث أشار إلى أن الأكل باليد اليمنى ما هو إلا سلوك ثقافي ، فمعاشرة النبي صلى الله عليه وسلم للعرب في جميع أحوالهم و عاداتهم، أظهر له أن ’’الاستنجاء’’ عند الإنسان العربي يكون بيده اليسرى، و بمنطق البداهة أن الأكل سيكون باليمنى ، لأن اليسرى لامست الأخبثين، فعزز النبي صلى الله عليه وسلم هذا السلوك بالدعوة إلى الأكل باليمنى.

إن هذه المعاناة الفكرية في التمييز بين ما هو ثقافي و ديني يكاد يكون حالة عند مجموعة من المفكرين منهم مثلا المفكر الفرنسي المسلم روجي غارودي، ففي إحدى حواراته يفصح على أنه من خلال اطلاعه على كتب السنة وجدها حسب رأيه تهتم ’’باليومي’’ ) اللباس، الأكل، المشي..( ويشير إلى أن ما يريده هو فلسفة الإسلام في نظرته للكون و الإنسان و الحياة و الوجود وهذا موجود في القرآن، و كلامه هذا يشعرك أن هناك تغايرا بين السنة القرآن، وهذا نفسه يصرح به جفري لانغ في آخر كتابه الصراع من اجل الإيمان أن صورة محمد في القرآن تختلف عن صورته في السيرة، ويمكن أن نشير أيضا؛ إلى المفكر البوسني عزت بغوفيتش رئيس البوسنة و الهرسك رحمه الله، حيث يتساءل؛ كيف تتحول العادة إلى شيء مقدس؟ وعرج على مثال الفصل بين الجنسين، وبين أن هذا السلوك الثقافي لا علاقة له بالإسلام، إنما هي عادة دخلية على المسلمين من حضارة أخرى.

إن هذه المنهجية في التمييز بين الثقافي و الديني يشترك فيها كل مفكر استوعب روح الإسلام وقاصده الإنسانية الفطرية، سواء أكان أصله أوروبيا أو أمريكا أو عربيا، وهنا نستدعي الشيخ محمد الغزالي رحمه الذي كان يشن حربا على ما يسميه ’’ الفقه البدوي للإسلام’’ فقه بدو جزيرة العرب، ويدعو إلى الإسلام المنفتح على الأفاق الفطرية الرحبة، ويحكي أن شخصا أتاه وقال له: لقد جاء في السنن استحباب الصلاة في النعال فلماذا تتركون هذه السنن؟ فأجابه الغزالي : قد أصلي في النعل وأنا في الحقل أو في طريق أما في المسجد فلا لأن المسجد مفروش بالسجاد و النعل قد تعلق به وساخة، و مسجد الصحابة غير مفروش، لأن البيئة الرملية في أصلها نظيفة.

بالتأمل في هذه الحكاية تبين كيف أن بعض المسلمين يريدون إلحاق الإنسان المسلم المعاصر بالقرن الهجري الأول في جزيرة العرب ثقافيا، بإلغاء كل معطياته الواقعية، و لا يدرك أن مقاصد الإسلام الفطرية الكبرى )طاهر بن عاشور( هي البوصلة الحاكمة لكل مستجد ونازلة، فالبيئة مختلفة / رمال نظيفة؛ صلاة بنعال/ مسجد مفروش صلاة بدون نعال ، كلا الصورتان مختلفتان لكن النموذج الكامن فيهما أو المقصد الفطري المؤطر لهما هو النظافة، و هذا ما لا يدركه بعض المسلمين لأنهم يفكرون’’ بعقل فوطوغرافي ’’دون أن يرتقوا إلى ’’العقل التجريدي’’ ) عبد الوهاب المسيري( .

مما لا يخفى على الباحث في النص القرآني، أن إشكالية الديني و الثقافي لها صلة بنقاش شائق و شائك، يتعلق بموضوع ’’ القرآن و التاريخ’’ ) تيودور نولدكه( أو بلغة علوم القرآن تفسير الآي بحسب نزولها) محمد عابد الجابري(، و يهدف هذا النقاش إلى التأكيد على ’’ تاريخية النص القرآني’’، وهو في العمق يزحزح بنية المتن القرآني ) رضوان السيد(، ويدخلنا في إشكالية كلامية قديمة تطاحن حولها المعتزلة و الحنابلة ’’خلق القرآن’’.

يبدو للباحث، أن مسألة مراعاة النص القرآني للواقع الذي نزل فيه حقيقة ساطعة لا مراء حولها، و القضية الأساس هي العمل على اكتشاف’’ قوانين القرآن و منهجياته’’ في تعاطيه مع الإنسان و الطبيعة و الغيب) أبو القاسم الحاج حمد(، ثم العمل على إخراج هذه الإشكالية من دائرة الجدل الكلامي إلى دائرة ’’ السياقات الثقافية و التاريخية’’ و أهميتها في تنزيل قيم و مبادئ و أحكام الوحي.
*الملتقى الفكري
أضافة تعليق