رياض المسيبلي / صنعاء
لكنّه من الحق أنّ نلحظ أنّ القصيبي لم يصنع تجربة زائفة، بل استخدم تجربته بشكل ذكي، ، وكان الأدب عنده محاولة للخروج من سجن السياسة التي رأى فيها الكثير ممّا يزعج مثقفاً مثله، فكانت مشاريعه الأدبية المتعدّدة نوافذ للخروج من مأزق، أو ربما محاولة الصراخ في وجه قيود كبّلته عن أحلامه وآماله..
أتذكّر غازي القصيبي كاتباً أولعت به قراءة، وحالي هنا ليس سوى قارئ ربط الحرف قلبه وعقله بقلم رفيع كقلم القصيبي.
فلست هنا ممّن يريد وضع مسيرة القصيبي على طاولة التشريح الفكري أو السياسي أو غيره، أو لوضع التيجان على مسيرته الممتدة في هذا الكوكب.
إنما أتذكّر القصيبي كأحد قرّائه لا غير، وصلة الحرف عندي أوثق من صلة الدماء، وأنثر هنا انطباعاتي /ذكرياتي عندما أمسكت بجل كتبه ورحلت مع القصيبي في عالمه القصصي الغريب، وشعره الذي جعل من اللغة شذى و روحاً تسري في الأوصال، وأسلوبه العجيب الذي يأسر بعين قارئه فلا يستطيع وضع الكتاب حتى يصل إلى الضفة الأخرى!
كان من أوائل كتب القصيبي التي رحلت معها كتابه الجميل (حياة في الإدارة) وما زلت أتذكّر ضحكاتي الهستيرية من المواقف الطريفة التي بثّها القصيبي في سطور الكتاب بأسلوب شيّق وطريف.ولعل من أطرف تلكم المواقف رحلته والملك خالد إلى ليبيا.
وأنا هنا أجهد بالإمساك بتلابيب ذاكرة مجهدة، لكن يبدو أنّ القصيبي قد حفر كلماته حفراً لا يأبه بعدها بما تجلبه الأيّام لقارئه من نصوص تمر كالمواسم سرعان ما تبرح المكان لموسم آخر.
كان لـ(العصفورية) جنون كجوها الغريب، و(أبوشلاخ البرماني) يصرخ بصوت ساخر أسمعه من بين السطور، ولـ(شقة الحرية) جو آسر لا تريد أن تبرحها ولو إلى أروع القصور، و(سبعة) أصوات تسافر بك إلى عوالم مختلفة وعجيبة، فروايات القصيبي غريبة وملآ بالسحر واللامعقول وكأنّه يقول للعالم، كما لاحظ أديب ذكي وأحسبه الشاعر علي الدميني، أنّ الحياة اليوم لا تستقيم لنا إلا إذا طرحنا عقولنا جانباً، فهذا العالم تحوّل إلى( عصفورية) عملاقة ولكن بلا علاج!
كان نجاح القصيبي روائياً مشهداً يصعب إنكاره، فأسلوبه السردي الفريد وتجربته لأدوات سردية مختلفة، وذكاؤه في طريقة إيصال ما يريد دون المباشرة القاتلة للنص؛ إذ أنّ القصيبي جعل من الكثير من شخصيّاته غرباء الأطوار في عالم أكثر غرابة، كل ذلك ساعد في جعل القصيبي صاحب تجربة روائية فريدة يصعب تجاهلها.
وسرد القصيبي ضارب بجذوره في ثقافتنا العربية، فقد تقمّص طرق( حكي) الأجداد والجدّات، والمبالغات والتهويلات التي تجعل منها متعة، لينسج قصصاً متماسكة البناء، عميقة الفكرة بشكل رائع.
ولقد ساعد القصيبي في عالمه الأدبي الثروة الثقافية الهائلة، فهو قارئ من الطراز الرفيع، جمع في قراءته بين ثقافته العربية والثقافة الغربية، وبخلاف الكثير ممّن ملأوا الساحة الأدبية اليوم، كان القصيبي على صلة وثيقة بثقافتنا العربية، وإلمام بروائعها نثراً وشعراً.
وبقدر ما أفادته ثقافته فربّما أضرّت مشروعه الروائي نوعا ما؛ إذ لطالما أطلّ الكاتب برأسه من بين سطور قصصه أحياناً، ممّا يكسر السرد ، ويحدث فوضى داخل النص كان بالإمكان تجنّبها.
فتجد في ثنايا الروايات آراءً لغوية وفلسفية، وتجد أحكاماً عن بعض الكتب ، وأخرى عن بعض الكتّاب، والإشكالية أنّها قد لا تتناسب مع السياق العام لبعض الشخصيات، ولا شكّ أنّ لحياة القصيبي السياسية دور كبير في ذلك، فصِلته الحقيقية بواقع الشعوب لم يكن سوى في مقتبل حياته، أما بعدها فقد غرق في حياة إدارية وسياسية ربما نفعت مشروعه في جوانب لكن أضرّته في أخَر.
لكنّه من الحق أنّ نلحظ أنّ القصيبي لم يصنع تجربة زائفة، بل استخدم تجربته بشكل ذكي، ، وكان الأدب عنده محاولة للخروج من سجن السياسة التي رأى فيها الكثير ممّا يزعج مثقفاً مثله، فكانت مشاريعه الأدبية المتعدّدة نوافذ للخروج من مأزق، أو ربما محاولة الصراخ في وجه قيود كبّلته عن أحلامه وآماله.
إنّ محاولة إيجاد تسويغات لاندراج (المثقف) في منظومات سياسية كحكوماتنا العربية، أو سبل للهجوم عليه للسبب ذاته، تكاد تكون محاولات بعيدة عن الأسباب الحقيقية وراء ذلك، والسؤال الحقيقي الذي ينبغي معالجته هو عمّا قدمه هذا المثقف لإصلاح مجتمعه أو العكس.
وهذه المسألة بالذات يعرف فيها دور المثقف عن طريق حجم الخلاف حوله ودوره الثقافي، ولا شك أنّ القصيبي عاش بين آراء تتناوله ذات اليمين وذات الشمال، ولو اختار القصيبي الصمت أو السير مع التيارات السائدة لكانت مكانته بعيداً عن كل هذا الشغب والقلق.
إنّ رحيل مثقفين بحجم القصيبي يعتبر ـ في رأي صاحب المقال ـ صدعاً ثقافيّاً، بعيداً عن آراء الناس حوله، فالعظماء يحزن لرحيلهم أعداؤهم قبل أصدقائهم، وسنعرف قدرهم حين نبتلى بأقزام يملأون ساحاتنا الثقافية غثّاً وبلاءً.....وكأنّي قلت..حين!!
رحم الله الغازي.
*مجلة العصر
لكنّه من الحق أنّ نلحظ أنّ القصيبي لم يصنع تجربة زائفة، بل استخدم تجربته بشكل ذكي، ، وكان الأدب عنده محاولة للخروج من سجن السياسة التي رأى فيها الكثير ممّا يزعج مثقفاً مثله، فكانت مشاريعه الأدبية المتعدّدة نوافذ للخروج من مأزق، أو ربما محاولة الصراخ في وجه قيود كبّلته عن أحلامه وآماله..
أتذكّر غازي القصيبي كاتباً أولعت به قراءة، وحالي هنا ليس سوى قارئ ربط الحرف قلبه وعقله بقلم رفيع كقلم القصيبي.
فلست هنا ممّن يريد وضع مسيرة القصيبي على طاولة التشريح الفكري أو السياسي أو غيره، أو لوضع التيجان على مسيرته الممتدة في هذا الكوكب.
إنما أتذكّر القصيبي كأحد قرّائه لا غير، وصلة الحرف عندي أوثق من صلة الدماء، وأنثر هنا انطباعاتي /ذكرياتي عندما أمسكت بجل كتبه ورحلت مع القصيبي في عالمه القصصي الغريب، وشعره الذي جعل من اللغة شذى و روحاً تسري في الأوصال، وأسلوبه العجيب الذي يأسر بعين قارئه فلا يستطيع وضع الكتاب حتى يصل إلى الضفة الأخرى!
كان من أوائل كتب القصيبي التي رحلت معها كتابه الجميل (حياة في الإدارة) وما زلت أتذكّر ضحكاتي الهستيرية من المواقف الطريفة التي بثّها القصيبي في سطور الكتاب بأسلوب شيّق وطريف.ولعل من أطرف تلكم المواقف رحلته والملك خالد إلى ليبيا.
وأنا هنا أجهد بالإمساك بتلابيب ذاكرة مجهدة، لكن يبدو أنّ القصيبي قد حفر كلماته حفراً لا يأبه بعدها بما تجلبه الأيّام لقارئه من نصوص تمر كالمواسم سرعان ما تبرح المكان لموسم آخر.
كان لـ(العصفورية) جنون كجوها الغريب، و(أبوشلاخ البرماني) يصرخ بصوت ساخر أسمعه من بين السطور، ولـ(شقة الحرية) جو آسر لا تريد أن تبرحها ولو إلى أروع القصور، و(سبعة) أصوات تسافر بك إلى عوالم مختلفة وعجيبة، فروايات القصيبي غريبة وملآ بالسحر واللامعقول وكأنّه يقول للعالم، كما لاحظ أديب ذكي وأحسبه الشاعر علي الدميني، أنّ الحياة اليوم لا تستقيم لنا إلا إذا طرحنا عقولنا جانباً، فهذا العالم تحوّل إلى( عصفورية) عملاقة ولكن بلا علاج!
كان نجاح القصيبي روائياً مشهداً يصعب إنكاره، فأسلوبه السردي الفريد وتجربته لأدوات سردية مختلفة، وذكاؤه في طريقة إيصال ما يريد دون المباشرة القاتلة للنص؛ إذ أنّ القصيبي جعل من الكثير من شخصيّاته غرباء الأطوار في عالم أكثر غرابة، كل ذلك ساعد في جعل القصيبي صاحب تجربة روائية فريدة يصعب تجاهلها.
وسرد القصيبي ضارب بجذوره في ثقافتنا العربية، فقد تقمّص طرق( حكي) الأجداد والجدّات، والمبالغات والتهويلات التي تجعل منها متعة، لينسج قصصاً متماسكة البناء، عميقة الفكرة بشكل رائع.
ولقد ساعد القصيبي في عالمه الأدبي الثروة الثقافية الهائلة، فهو قارئ من الطراز الرفيع، جمع في قراءته بين ثقافته العربية والثقافة الغربية، وبخلاف الكثير ممّن ملأوا الساحة الأدبية اليوم، كان القصيبي على صلة وثيقة بثقافتنا العربية، وإلمام بروائعها نثراً وشعراً.
وبقدر ما أفادته ثقافته فربّما أضرّت مشروعه الروائي نوعا ما؛ إذ لطالما أطلّ الكاتب برأسه من بين سطور قصصه أحياناً، ممّا يكسر السرد ، ويحدث فوضى داخل النص كان بالإمكان تجنّبها.
فتجد في ثنايا الروايات آراءً لغوية وفلسفية، وتجد أحكاماً عن بعض الكتب ، وأخرى عن بعض الكتّاب، والإشكالية أنّها قد لا تتناسب مع السياق العام لبعض الشخصيات، ولا شكّ أنّ لحياة القصيبي السياسية دور كبير في ذلك، فصِلته الحقيقية بواقع الشعوب لم يكن سوى في مقتبل حياته، أما بعدها فقد غرق في حياة إدارية وسياسية ربما نفعت مشروعه في جوانب لكن أضرّته في أخَر.
لكنّه من الحق أنّ نلحظ أنّ القصيبي لم يصنع تجربة زائفة، بل استخدم تجربته بشكل ذكي، ، وكان الأدب عنده محاولة للخروج من سجن السياسة التي رأى فيها الكثير ممّا يزعج مثقفاً مثله، فكانت مشاريعه الأدبية المتعدّدة نوافذ للخروج من مأزق، أو ربما محاولة الصراخ في وجه قيود كبّلته عن أحلامه وآماله.
إنّ محاولة إيجاد تسويغات لاندراج (المثقف) في منظومات سياسية كحكوماتنا العربية، أو سبل للهجوم عليه للسبب ذاته، تكاد تكون محاولات بعيدة عن الأسباب الحقيقية وراء ذلك، والسؤال الحقيقي الذي ينبغي معالجته هو عمّا قدمه هذا المثقف لإصلاح مجتمعه أو العكس.
وهذه المسألة بالذات يعرف فيها دور المثقف عن طريق حجم الخلاف حوله ودوره الثقافي، ولا شك أنّ القصيبي عاش بين آراء تتناوله ذات اليمين وذات الشمال، ولو اختار القصيبي الصمت أو السير مع التيارات السائدة لكانت مكانته بعيداً عن كل هذا الشغب والقلق.
إنّ رحيل مثقفين بحجم القصيبي يعتبر ـ في رأي صاحب المقال ـ صدعاً ثقافيّاً، بعيداً عن آراء الناس حوله، فالعظماء يحزن لرحيلهم أعداؤهم قبل أصدقائهم، وسنعرف قدرهم حين نبتلى بأقزام يملأون ساحاتنا الثقافية غثّاً وبلاءً.....وكأنّي قلت..حين!!
رحم الله الغازي.
*مجلة العصر