مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
شهود الزور.. والعملاء ايضا
عبد الباري عطوان

ان يكلف مجلس الوزراء اللبناني وزير العدل باعداد ملف عن شهود الزور في قضية اغتيال المرحوم رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني الراحل، تلبية لطلب السيد حسن نصر الله، زعيم المقاومة الاسلامية اللبنانية، فهذا قد يعني ان ’السحر انقلب على الساحر’، وان المحكمة الدولية المكلفة بالتحقيق، واصدار القرار الظني، باتهام جهات لبنانية بالوقوف خلف عملية الاغتيال هذه، باتت اي المحكمة هي المتهمة رسميا، وعمليا، بعدم مصداقيتها.
خطاب السيد حسن نصر الله الاخير الذي قدم فيه ادلة وقرائن لا تستبعد تورط اسرائيل في عملية الاغتيال هذه، بدأ يعطي مفعوله، من حيث قلب المعادلات السابقة، واجبار المحكمة القضائية على اعادة النظر في نهجها، وفضح القصور الكبير في اجراءات تحقيقاتها.
بمعنى آخر، نجح السيد نصر الله من خلال هذا الخطاب الذي وصفه الاسرائيليون، وبعض الدافعين ببراءتهم، من سياسيين واعلاميين عرب، في التشكيك، وبشكل مسبق ومدروس في اي قرار ظني يمكن ان يصدر عن هذه المحكمة، وبالتالي تأجيله الى اجل غير مسمى، الامر الذي يشي بان هناك اتفاقا جرى التوصل اليه في هذا الصدد، بين قوى اقليمية ودولية، على اطالة امد التهدئة الى اطول فترة ممكنة.
ويمكن رصد هذه المحصلة وتداعياتها من خلال تطورين رئيسيين حدثا على الساحة اللبنانية، وبشكل مفاجئ مما يؤكد اتساع دائرة التفاهمات وعدم اقتصارها فقط على المحكمة وقرارها:
الاول: اصدار مجلس النواب اللبناني (البرلمان) قرارا برفع الحظر المفروض على عمل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وبالاجماع تقريبا، مع تأجيل البحث في بعض الحقوق المدنية الاخرى مثل حق التملك وممارسة الاعمال الحرة الى فترة لاحقة.
الثاني: الموافقة على ملاحقة شهود الزور الذين بنت المحكمة اتهاماتها التي وجهتها الى اجهزة امنية سورية بالوقوف خلف عملية الاغتيال بناء على افاداتهم.
هذان القراران يعكسان تفاهمات لبنانية، املتها عملية التهدئة التي ترتبت على الزيارة المشتركة للعاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز والرئيس السوري بشار الاسد الى بيروت. والا لماذا يتم الغاء ’الفيتو’ المفروض على عمل الفلسطينيين في هذا الوقت بالذات، وبعد اكثر من ستين عاما من الالتزام به. ولماذا يتم فتح ملف شهود الزور هؤلاء بعد اكثر من خمس سنوات فجأة، وبعد ان وصل الوضع اللبناني الى حافة الانفجار قبل التهدئة؟
’ ’ ’
ولعل السؤال الآخر المشروع الذي لا يقل اهمية هو المتعلق بالعملاء الآخرين المتعاونين مع اجهزة الامن الاسرائيلية الذين يصل عددهم المعلن الى اكثر من 180 شخصا حتى الآن، ولا يمر اسبوع تقريبا دون ان يتم الكشف عن شبكات جديدة متورطة. فهل ستلجأ المحكمة الى سلطاتها وتفويضاتها الدولية بالتحقيق مع هؤلاء، وخاصة الذين ذكرهم السيد نصر الله في خطابه الاخير، ومن بينهم غسان الجد الذي تواجد في مسرح الاغتيال قبل يوم واحد من تنفيذ الجريمة؟
المحكمة استخدمت صلاحياتها الدولية لاستجواب العديد من القادة الامنيين السوريين الكبار، عندما استدعتهم فرادى وجماعات الى فيينا لهذا الغرض، كما انها ارسلت من يلتقي بالرئيس السوري بشار الاسد نفسه بطريقة مغمغمة استنادا الى الشهادات المزورة نفسها التي تزامنت مع حملات ترهيب مدروسة، ومدعومة امريكيا، وفرنسيا، واسرائيليا، لسورية وحلفائها في لبنان. فلماذا لا تستخدم المحكمة الصلاحيات نفسها لاستجواب عملاء اسرائيل، بل وقادة الاجهزة الامنية الاسرائيلية انفسهم، على قدم المساواة مع نظرائهم السوريين واللبنانيين (اربعة منهم اعتقلوا لأربع سنوات) حتى تؤكد انها محكمة محايدة، غير منحازة وغير مسيسة؟
فتح ملف شهود الزور اهم خطوة تتخذها الحكومة اللبنانية في هذا المضمار، رغم اننا نستغرب تلكؤها طوال السنوات الماضية عن ملاحقتهم قانونيا، خاصة ان احدهم ويدعى زهير الصديق جرى اعتقاله في فرنسا الام الحنون للبنان، ويقبع حاليا في احد سجون دولة الامارات العربية المتحدة بتهمة دخول البلاد بطريقة غير مشروعة، اي بجواز سفر مزور. فمن سهل له السفر اليها وكيف دخلها وهل دخلها بتأشيرة دخول وعلى اي جواز سفر؟
مثول زهير الصديق امام المحاكم اللبنانية، بل والمحكمة الدولية نفسها يجب ان يكون احد الاعمدة الرئيسية لتحقيقات المحكمة، وصياغة قرارها النهائي، لان شهادته لم تؤد فقط الى اخراج القوات السورية من لبنان بشكل مهين (تبين لاحقا انه انسحاب لصالح سورية)، بل ايضا الى ادانة اناس ابرياء وتشويه سمعتهم، ابتداء من قادة الاجهزة الامنية الاربعة وانتهاء بنظرائهم السوريين.
من حق اللبنانيين، والسوريين، بل والمجتمع الدولي بأسره، ان يعرف من الذي جند هؤلاء ولقنهم، وهربهم الى خارج لبنان، وزودهم بجوازات السفر الحقيقية او المزورة، التي تحركوا، ويتحركون بها ومن وفر لهم الحماية طوال هذه الفترة، وأمدهم بالاموال والمصاريف وتذاكر السفر.
وزير العدل اللبناني يجب ان يتقدم الى المحكمة الدولية، التي تشكلت بطلب من حكومته، بتسليم هؤلاء الى العدالة للتحقيق معهم، ووضع حصيلة هذه التحقيقات امام المحكمة الدولية هذه، حتى تكون جزءا اساسيا من وثائقها، اذا كانت فعلا محكمة عادلة ومستقلة.
’ ’ ’
واذا كانت فرنسا، او غيرها من الدول الاوروبية، ترفض تسليم هؤلاء، تحت ذريعة الخوف من اصدار احكام بالاعدام بحقهم وتنفيذها، لتعارض هذا مع القوانين الفرنسية، ومواثيق حقوق الانسان الاوروبية (عقوبة الاعدام ملغاة)، فان الحكومة اللبنانية مطالبة، وبصفة استثنائية، بتقديم ضمانات بعدم اعدام هؤلاء، من اجل الوصول الى الحقيقة، اذا كانت فعلا حريصة عليها، ونعتقد انها كذلك.
من المؤكد ان شهود الزور هؤلاء هم مجرد قمة جبل ثلج كبير يضم الكثير من الرؤوس اللبنانية الكبيرة التي تورطت في فبركة الشهادات هذه، من اجل تجريم جهات معينة، ثبتت براءتها لاحقا، ومن حق اللبنانيين والعرب جميعا ان يعرفوا هوية هؤلاء جميعا كبارا كانوا او صغارا، وتقديمهم الى العدالة، لتجريمهم او تبرئتهم.
يجب الاعتراف بان السيد حسن نصر الله ادار الأزمة بشكل متميز، تماما مثلما ادار المواجهة مع العدوان الاسرائيلي قبل اربع سنوات، لانه يملك اسباب القوة العسكرية المنظمة والضاربة، مدعومة بالمؤسسات المدنية والبحثية الحافلة بالعقول المتخصصة، ويقف على ارضية وطنية صلبة في مواجهة اسرائيل، ويستند الى تراث مشرف في المقاومة، عنوانه تحرير الاراضي اللبنانية بالقوة عام 2000. وهي مجموعة من الانجازات تفتقدها حكومات عربية عديدة وليس خصوم الحزب فقط.
المحكمة الدولية جرى توظيفها بنجاح كبير لاخراج القوات السورية من لبنان في المرة الاولى، وكاد الذين يقفون خلفها ينجحون بتوظيفها لاخراج حزب الله من لبنان، من خلال تجريمه وتصويره كمجموعة من القتلة باصدار قرار ظني باتهامه باغتيال الرئيس الحريري وباقي السياسيين والاعلاميين الآخرين بالتالي، ولكن يبدو النجاح في الهدف الثاني في قمة الصعوبة في الوقت الراهن على الاقل، علاوة على كونه باهظ التكاليف للبنان والمنطقة بأسرها.
الخطة الاولى كانت تقتضي ان يكون السيناريو من شقين، اي شن عدوان لانهاء حزب الله بعد انسحاب القوات السورية مباشرة من لبنان، بحيث يتم التفرد به، ولكن الصمود في حرب تموز افشلها، ومن غير المستبعد ان يكون القرار الظني الذي كان من المتوقع صدوره عن المحكمة قبل نهاية هذا العام هو استكمال للشق الثاني من هذا السيناريو، اي تبرير عدوان آخر ينجح فيما فشل فيه العدوان الاول.
منذ ثلاثين عاما، وبالتحديد منذ العدوان الاسرائيلي على لبنان عام 1982 لانهاء المقاومة على ارضه، فلسطينية كانت او لبنانية، والهزائم تلاحق اسرائيل ومخططاتها، وهذا يدفعنا الى التفاؤل بان اي عدوان جديد يجري التحضير له، ربما يواجه بالنتيجة الحتمية نفسها، اي الفشل والباهظ التكاليف في آن.
السيد حسن نصر الله نجح في كسب الوقت، بل والمزيد منه بتأجيله صدور القرار الظني، ولكن هذا النجاح الذي ازعج اسرائيل وحلفاءها حتما قد يدفعها وهي المعزولة حاليا، للمقامرة مرة اخرى في لبنان، لانها تتصرف مثل النمر الجريح المتخبط الذي يضرب في عدة اتجاهات، لانه يعرف ان الخناق يضيق عليه، وان نهايته قد تكون اقتربت
*القدس العربي
أضافة تعليق