مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الإمبريالية الأخلاقية
الإمبريالية الأخلاقية
-
عبدالله العودة / الولايات المتحدة
إن التقدم العلمي، الذي قاد العلم والمعرفة الحديثة، قد تقدم له القرابين البشرية، وتصبح حربه هي الأخرى مقدسة، وتهتك فيها حرمات الإنسان وكرامته وحريته وخياره في أن يعيش بأمان، كل ذلك قد يكون ممارسة طبيعية من إنسان الإمبريالية ضد إنسان التجارب، إلى أن تقوم للتقدم الأخلاقي قائمة!

في مناطق معرفية مختلفة .. يلاحظ المهتمون والدارسون ظاهرة غريبة في تأسيس البحث العلمي الغربي الحديث، ظاهرة العلم التقني والجهل الأخلاقي .. حينما يكون مبدأ الاكتشاف والمعرفة والبحث فوق مبدأ الإنسان نفسه وفوق مبدأ حريته وحقه وأمنه.

تلك الظاهرة ممتدة عبر امتداد البحث الغربي نفسه، ومرت بمرحل بحثية مختلفة، كان منها اختبارات تجريبية لباحث غربي أيام الحرب العالمية الثانية حول ردة الفعل النفسية على الشخص عبر إيهامه بصدمات تجرى على مريض.. هذه التجربة تسمى ’’اختبار ملقرام’’ ـ وملقرام هذا هو العالم النفسي صاحب التجربة ـ.

طبيعة تجربة هذا الباحث هي إيهام الشخص المراد اختباره بأنه يدير عملية صعق لشخص آخر حتى الموت، بناءً على أوامر الدكتور الكبير.

بطبيعة الحال، تلك الصعقات هي مجرد خدعة لاختبار ردة فعل هذا الشخص الذي يدير تلك التجربة.. المهم أن كثيرين خرجوا من تلك التجربة مرضى بالفعل وغير مستقرين نفسياً بل وآخرين أصيبوا بأدواء نفسية مستديمة جراء ذلك الاختبار.

الباحث خرج بنتائج مهمة في الأخير، يقول فيها بأن الإنسان في طبيعته ليس ميالاً لقتل الآخرين لمجرد الرغبة، بل هو في الغالب بنسبة 75% قد يقتل الآخرين لأن أحداً ما يأمره بذلك!

ومع القيمة المهمة لنتائج تلك التجربة، إلا أن جدلاً أهم يطرح حول الطبيعة الأخلاقية لذلك البحث، فهو يقوم على الإيهام والخداع وإدارة قتل وهمي ونحو ذلك.

تلك التجربة العلمية هي حلقة في سلسلة تجارب كثيرة غربية، تقوم على اختبار الإنسان بل واستعماله في العلم والتجربة لمجرد التجربة والاختبار.. والجدير بالملاحظة أن هذا الإنسان المستخدم في التجربة المعملية هو الإنسان المنتمي للعالم الثالث، حيث لا حق ولا حرية ولا أمان.

فهؤلاء العلماء التجريبيون يستخدمون إنسان العالم الثالث (الدول الفقيرة المنتمية في الغالب للجنوب) العالمي من أجل إثبات حقيقة تفصيلية دقيقة في علم ما ليستفيد منها إنسان العالم الأول (العالم الغني الحر المنتمي للشمال العالمي كأوروبا وأمريكا).

واختبار آخر، أُجري في ستينيات القرن المنصرم في شمال أمريكا، يسمونه ’’توسكجي’’، حيث تم ضخ الأموال فيه لملاحظة مرضى الزهري السود، من غير علاجهم بل وتركهم يموتون من أجل اختبار المرض، ومحاولة اكتشاف علاج من خلال حالتهم .. فتلك الحادثة هزت فكرة الاختبار العلمي، وطرحت سؤالاً عريضا عن أخلاقية تلك التجارب البشعة التي تبحث عن ’’التقدم’’ العلمي بيد أنها تسحق وراءها كل أشكال ’’التقدم’’ الأخلاقي..

بحث ثالث يجريه أمريكان أيضا في القرن الحادي والعشرين، يعطي علاجات وهمية للمرضى المستديمين في أفريقيا، لأن العلاج الحقيقي يكلف مبالغ طائلة، تستغلها المباحث الطبية في إدارة اختبارات أخرى في أفريقيا نفسها وعلى المرضى أنفسهم .. لكي تعيش الملاحظة العلمية الطبية، وتموت الأخلاق والقيم.. ويموت الإنسان نفسه التي قامت تلك البحوث والاكتشافات الطبية والتقدم العلمي من أجل الحفاظ عليه، والقيام على حقوقه وحمايته من الاستغلال والاستثمار اللاأخلاقي.

قصص الاستخدام الطبي والعلمي لإنسان الدول النامية، كانت محل جدل عريض في الدوائر المهتمة بحماية حقوق الناس في تلك المناطق الضعيفة، وقصص مختلفة حول إخضاع إنسان تلك المناطق لاختبارات تجريبية محضة من أجل ’’العلم’’ نفسه والتقدم الطبي، كانت شكلاً فجاً من أشكال الاستكبار العلمي، كما يسميها بعض العرب.

في اختبار ’’توسكجي’’ .. لم يكن أداة الاختبار إنسان الإمبريالية .. بل إنساناً آخر يختلف لونه وطعمه ورائحته.. إنساناً يتم استعماله واختبار واكتشاف الحقائق العلمية والنفسية والطبية من خلاله ليتم تقديم تلك الاكتشافات لإنسان الإمبريالية الذي يقود تلك الاختبارات ويدعمها ويسخر لها الأموال والجهد.. بل ويعد لها كميات مناسبة من أناسيّ الدول النامية ويجمع لها عدداً كافيا لتقديم تجربة علمية جيدة وناجحة.

ذلك الاختبار مات فيه كل المصابين ’’المراد اختبارهم’’، والذين يحملون مرض الزهري من السود، من غير أن يبذل أولئك الأطباء أي جهد في العلاج أو المحاولة، لأن المراد هو اكتشاف أشياء أخرى من خلالهم وليس علاجهم.

تلك القصص تقود إلى سؤال كبير حول ’’التقدم الأخلاقي’’ في ثنايا ذلك التقدم العلمي الرهيب، وبما أن قضايا من نوع الإمبريالية الثقافية والامبريالية الاقتصادية .. حاضرة في الفكر الحديث الحر.. فإن حديث الإمبريالية الأخلاقية .. كما سماها مفكر جنوب أفريقي ذات يوم، ينبغي أن تكون أشد حضوراً..

اختبارات علمية كثيرة وتجارب مختلفة في أنحاء الأرض، يكون الهدف فيها وفأر التجارب، إنسان الدول النامية بشكل أو بآخر من أجل اكتشاف حقيقة علمية في مجال علمي أو طبي، أو من أجل رصد حقيقة نفسية أو فيزيائية..

وفي العصر الذي تصل فيه إشكالية المعرفة والتقدم والتقنية إلى أزهى عصورها وأشرف أيامها.. تتلكأ إشكالية الأخلاق، وتنحدر إلى أن تصبح عرضة للخروقات البشعة، باسم التقدم والعلم والمعرفة التقنية.

ومع قتلى الحروب، ومرضى التقدم الصناعي الحربي.. يصبح استهداف الإنسان بالاختبارات العلمية، واستخدمه كأداة رخيصة، أمراً لا يقل بشاعة عن قتله ومحاصرته في ساحات الحروب.

إن التقدم العلمي، الذي قاد العلم والمعرفة الحديثة، قد تقدم له القرابين البشرية، وتصبح حربه هي الأخرى مقدسة، وتهتك فيها حرمات الإنسان وكرامته وحريته وخياره في أن يعيش بأمان، كل ذلك قد يكون ممارسة طبيعية من إنسان الإمبريالية ضد إنسان التجارب، إلى أن تقوم للتقدم الأخلاقي قائمة!
*العصر
أضافة تعليق