لماذا نسينا غزة؟!
علي الحمدان
ولكن ما إن وضعت الحرب أوزارها، ومضت أشهر بسيطة عليها، حتى خمدت آثارها في نفوس شريحة كبيرة من الناس والمهتمين، ودخلت الكثير من الوعود والمعاهدات في طي النسيان بسرعة مثيرة ومحزنة.. وهذا التفاعل السلبي من الممكن أن يوسع من دائرة الخيارات الإسرائيلية، ويجعل مصير غزة في النهاية لا يختلف عن مصير الهنود الحمر..
في مقدمتها لترجمة كتاب ’’فتح أميركا’’ لتودوروف، تعرض فريال جبوري بعض الاستشكال حول استخدامنا اليوم لمصطلح ’’اكتشاف’’، للتعبير عن رحلة كولومبوس التي وصل فيها إلى القارة الأميركية عام 1492.
فبالنسبة لفريال، فإن مصطلح ’’الاكتشاف’’ في هذا السياق يتضمن عنصرية وتمحورا أوروبيا ومركزية غربية. فالمكتشف أوروبيّ، وقد عبر عن اكتشافه عندما وجد قارة مجهولة بالنسبة لأوروبا، ولكنه في الوقت نفسه، همّش من كونها معروفة عند أهلها أو عامرة بسكانها الأصليين، مثل الآزتيك والإنكا والمايا وغيرهم.
وهذه الجموع من الهنود الحمر، بثقافتها وحضارتها المختلفة، كانت جموعا من المهاجرين والرحالة الأوائل الذين قطنوا الأرض وعمروها من قبل أن يصل إليها كولومبوس. ولكن عبدالله الغذامي، في كتابه ’’جمهورية النظرية’’، يلفت النظر إلى فارق دقيق جدا بين كولومبوس وبين من كل من قبله في هذا السياق، وهو ’’أن كولومبوس لا يتميز عن هؤلاء الهنود إلا بشيء واحد فحسب، وهو تمكن كولومبوس من (الاتصال) مرة أخرى مع العالم القديم’’. وهو فرق جوهري قد لعب دورا مؤثرا في تفاصيل الأحداث على سطح القارة الجديدة القديمة!
لقد حقق كولومبوس (الاتصال)، وذلك عن طريق مذكراته ورسائله التي كان يبعثها إلى البلاط الأسباني، وهو ما جعل من إنجازه الحضاري وفتوحاته الجغرافية داخل السياق التاريخي للعالم القديم وأوروبا تحديدا.
وبالإضافة إلى هذا، فإن احتكاره للاتصال بالعالم القديم، يعني أنه يمتلك السلطة الإعلامية، ويحصر رواية التاريخ وتفاصيل الأحداث والتحديات في رؤيته، وهذا انعدام في التوازن بين القوى، يجعل معه سلطة مطلقة لا بد أن تكون مَفسدة.
ولذلك، لا عجب أن كولومبوس لا يتحدث عن البشر الذين يراهم إلا لمجرد أنهم يشكلون في نهاية المطاف جزءاً من المشهد الطبيعي. ودائما ما ترد إشاراته إلى سكان الجزر وسط ملاحظاته المتعلقة بالطبيعة، حيث يحتلون موقعا بين الطيور والأشجار. وهو لا يتعامل معهم باعتبارهم أصحاب الأرض فعلا، بل إنه يراهم مثل بقية الموارد الطبيعية التي يفترض أن تكون مسلوبة الإرادة وقابلة على أن تسخر لصالحه.
فمثلا، عندما كانت تأتي السفن التي تنقل قطعانا من الماشية من أوروبا إلى أميركا، وقبل أن تكتشف كميات كافية من الذهب من الممكن أن تملأها في طريق العودة، رأى أن الأنسب أن تشحن بالعبيد من الهنود الحمر حتى لا تعود خاوية. وقد كتب في رسائله: ’’من الممكن سداد الثمن للشاحنين على هيئة عبيد من آكلي لحوم البشر، وهم بشر متوحشون، لكنهم أقوياء البنيان يتميزون بالجسارة وبحسن الفهم نعتقد أن من الممكن، بعد تخليصهم من لا إنسانيتهم، أن يصبحوا أفضل أصناف العبيد’’.
عندما تتشكل الرؤية نحو الآخر بهذه الطريقة، وعندما يكون مستوى الخيارات المتاحة للآخر على هذا النمط في أحسن حالاته، لا عجب أن الغزاة لا يمكن أن يتقبلوا أرقى مستوى من مستويات الإرادة إنسانية عندما ينمو الوعي في داخل السكان الأصليين تدريجيا بضرورة المقاومة، فهم بالنسبة للوافدين من أوروبا، جزء من الطبيعة والمادة ولهم ذات خصائصها، ولهذا يجب أن يكونوا طوعا لإرادة الإنسان أو الرجل الأبيض.
والتعامل معهم لا ينبغي أن يكون مختلفا عن التعامل مع بعض الصخور التي تقف كعراقيل أمام الوصول للذهب في بعض المناجم. ولذلك، ومع مرور السنوات وتوافد المهاجرين إلى هذه الأرض ومعهم هذه الرؤية المتحيزة ضد الآخر، كانت الإبادة هي الحل الأنسب الذي يراه الغزاة. وهذا أدى إلى قتل الملايين، ولعل إبادة الهنود الحمر هي أعظم إبادة في تاريخ البشرية، وقد استمرت لمئات السنوات، بمعزل شبه كامل عن معرفة العالم القديم بها.
وقد كان تودوروف ذكيا ومذهلا، عندما اختار دراسة ’’اكتشاف أميركا’’، كأكثر الحالات النموذجية على الإطلاق، والتي يمكن أن تفسر بعض الأحداث والقضايا المعاصرة المثيرة للجدل في مسألة استكشاف الآخر.
ونحن نعلم أن اليهود عندما بدؤوا يتوافدون على أرض فلسطين، كانوا يحتكرون الاتصال بالمركز حينها، ويرفعون شعارهم الدعائي ’’أرض بلا شعب لشعب بلا أرض’’. وهذا ما يجعل إسرائيل اليوم شرسة جدا أمام أي مؤشر من الممكن أن يدل على إنسانية رفيعة ومقاومة مميزة، لأن هذا يشعرها بالكثير من القلق وينسف افتراضاتها.
وقبل عام 1973، كانت الصورة النمطية عن العرب في وسائل الإعلام الغربية لا إنسانية، وتصفهم بأنهم أقل من أن يدافعوا عن أنفسهم. وفي الوقت نفسه، كانت إسرائيل تروج بأن جيشها لا يقهر، وبأن خط بارليف هو أقوى خط دفاعي في التاريخ الحديث.
لكن إدوارد سعيد ذكر أن عبور الجيش المصري لقناة السويس وتجاوز خط بارليف خلال ست ساعات فقط، تصدر الصفحات الأولى، وأثار الدهشة وفتح المجال للكثير من الأسئلة النقدية، وكان نقطة مفصلية في مسار خطاب الاستشراق، ومن أهم الأسباب التي دفعت إدوارد ذاته إلى كتابة مؤلَّفه الشهير.
هذه الأصداء العالمية التي تزامنت مع عبور قناة السويس، تكشف لنا أن التطور المتزايد في وسائل الاتصالات خلال العقود الأخيرة الماضية من جهة، وعدم احتكار امتلاكها على شريحة محددة من البشر من جهة أخرى، يعني تحولا جذريا في مجال الخيارات والفرص السياسية والإعلامية المقاومة والمتاحة لأصحاب الأرض من الفلسطينيين ضد إسرائيل.
وهذا ظرف جديد يختلف تماماً عن ذلك الواقع الانعزالي الذي واجهه الهنود الحمر مع الغزاة أو المكتشفين، والذي كفل للغزاة فرصة الإبادة لسنوات طويلة، دون أي خوف أو قلق من طول الوقت أو تسرّب شيء قد يجعل الجريمة قضية رأي عام عالمي مثلاً.
وحينما كانت القوات الإسرائيلية تكسر كاميرات الصحافيين وتحجزهم بعيدا عن ميدان العمليات فإنها كانت تعرف أن الكاميرا تناضل مثل الإنسان وأنها قد صارت جزءا من الانتفاضة. وحينما كان الجنود الإسرائيليون يقتلون محمد الدرة، كانت الكاميرات تصور فعلهم وتكشف صنيعهم للعالم، وهذا كشف وتعرية، حاربتها إسرائيل، لذا منعت الصورة لكي تمنع التاريخ وتمنع انكشاف الذات.
إن أهم ما في ’’الصورة’’، كما يرى الغذامي في كتابه ’’الثقافة التلفزيونية’’، أنها وسعت من دائرة الاستقبال الثقافي وأدخلت الكثير من المهمشين على نحو غير مسبوق. وهو ما ساهم في زيادة إمكانات التأويل الثقافي حيث صار كل مشاهد يستقبل ويفهم ويفسر ما يراه، دون حاجة إلى وسيط، وهو ما لم يكن ممكناً في زمن ثقافة الكتابة، حيث شرط التعلم وحيث وجود الكاتب الوصيّ على النص.
وهذا أمر إيجابي، خصوصا عندما يساهم في نقل القضايا إلى الجماهير بعد أن فقد الناس الثقة بأخلاقيات كثير من النخب السياسية والثقافية والدينية. فإذا كانت الصورة بهذه القوة والخطورة، فلا شك حينها أن عملية ’’الرصاص المصبوب’’ التي قادتها إسرائيل على غزة من المفترض أنها قد فضحت إسرائيل وشوهت صورتها أمام المجتمع الدولي والرأي العام العالمي.
ففي مثل هذه الأيام من العام الماضي، شاهد العالم كله وعلى الهواء مباشرة ولمدة 22 يوما متواصلة، قصفا وحشيا، خلف أكثر من 1400 شهيد و5400 جريح وحوالي 35 ألف إنسان بلا مأوى. ولم يقتصر نقل الكارثة على القنوات التلفازية، بل كانت هناك ثورة جماهيرية على الإنترنت، تجلت على صفحات الفيس بوك واليوتيوب والمدونات، وعلى المتاحف الافتراضية التي أقيمت في موقع الحياة الثانية، مثل متحف هولوكوست فلسطين، التابع لإسلام أون لاين.
وإذا عدنا بذاكرتنا إلى تلك الأيام، سنجد أن كل التفاصيل المرتبطة بالحرب، مثل ’’إغلاق معبر رفح’’ و’’اكتمال النصاب في جامعة الدول العربية’’ و’’قمة الدوحة الطارئة’’ و’’طرد السفير الإسرائيلي في فنزويلا’’ و’’جمعة الغضب’’ و’’حملات التبرعات’’ و’’وفد العلماء للرؤساء’’ و’’موقف أردوغان’’ و’’هدم 23 مسجداً’’ و’’قصف مدرسة الأنروا’’ وغيرها الكثير، كل هذه التفاصيل قد أحدثت ردود أفعال واسعة وتعاطفا عربيا وعالميا كبيرا، اعتبره البعض أنه مكتسبات جوهرية ستصب في صالح الفلسطينيين في المستقبل ضد عدوهم المجرم.
ولكن ما إن وضعت الحرب أوزارها، ومضت أشهر بسيطة عليها، حتى خمدت آثارها في نفوس شريحة كبيرة من الناس والمهتمين، ودخلت الكثير من الوعود والمعاهدات في طي النسيان بسرعة مثيرة ومحزنة.
كل هذا أسهم في زيادة المعاناة التي تعيشها غزة، وهي التي استقبلت 2777 كيلوغراما أو حوالي 3 أطنان من المتفجرات، أخرجت أثقالها في كل كيلومتر مربع من أراضي قطاع غزة خلال فترة الحرب فقط، وقد زادت من نسبة الولادات المشوهة.
وفي المقابل، لم يدخل إلى القطاع سوى 40 شاحنة من التموين طوال السنة الماضية. وليس هذا فحسب، ففي الوقت الذي تجاهد فيه هذه الأيام قافلة البريطاني جالاوي للوصول إلى القطاع بشتى الطرق، نجد أن مصر تبني جدارا فولاذيا، إمعانا في الحصار، وبدعم كبير من أميركا وفرنسا، لم ينافسه إلا فتاوى شيخ الأزهر!
هذه التفاصيل والأحداث المفاجئة التي ظهرت بعد الحرب خلال السنة الماضية، وعلى خلاف ما كان متوقعا ومنشودا، تجعلنا نعيد النظر في حالة الاحتفاء التي سجلناها بثورة الاتصالات وثقافة الصورة ومدى أثرها على مسار القضية الفلسطينية.
وهذا التفاعل السلبي من الممكن أن يوسع من دائرة الخيارات الإسرائيلية، ويجعل مصير غزة في النهاية لا يختلف عن مصير الهنود الحمر. وقد ذكرنا آنفا، أن أكبر مشكلة واجهها الهنود أنهم لم يحققوا الاتصال مع غيرهم، ولكن أهل غزة قد حققوا أعلى مستويات الاتصال اللحظي في التاريخ كله.
وهو أمر يحتاج إلى تأمل وتفكير ونقد، فلا بد أن هناك أسباباً وتفسيرات متعددة، جعلت ذلك الكم من الصور القوية لا تحدث الأثر المطلوب منها خلال العام المنصرم. ولعلي في المقال القادم أحاول الإجابة على هذا السؤال: لماذا نسينا غزة؟!
* / كاتب سعودي
*العصر
علي الحمدان
ولكن ما إن وضعت الحرب أوزارها، ومضت أشهر بسيطة عليها، حتى خمدت آثارها في نفوس شريحة كبيرة من الناس والمهتمين، ودخلت الكثير من الوعود والمعاهدات في طي النسيان بسرعة مثيرة ومحزنة.. وهذا التفاعل السلبي من الممكن أن يوسع من دائرة الخيارات الإسرائيلية، ويجعل مصير غزة في النهاية لا يختلف عن مصير الهنود الحمر..
في مقدمتها لترجمة كتاب ’’فتح أميركا’’ لتودوروف، تعرض فريال جبوري بعض الاستشكال حول استخدامنا اليوم لمصطلح ’’اكتشاف’’، للتعبير عن رحلة كولومبوس التي وصل فيها إلى القارة الأميركية عام 1492.
فبالنسبة لفريال، فإن مصطلح ’’الاكتشاف’’ في هذا السياق يتضمن عنصرية وتمحورا أوروبيا ومركزية غربية. فالمكتشف أوروبيّ، وقد عبر عن اكتشافه عندما وجد قارة مجهولة بالنسبة لأوروبا، ولكنه في الوقت نفسه، همّش من كونها معروفة عند أهلها أو عامرة بسكانها الأصليين، مثل الآزتيك والإنكا والمايا وغيرهم.
وهذه الجموع من الهنود الحمر، بثقافتها وحضارتها المختلفة، كانت جموعا من المهاجرين والرحالة الأوائل الذين قطنوا الأرض وعمروها من قبل أن يصل إليها كولومبوس. ولكن عبدالله الغذامي، في كتابه ’’جمهورية النظرية’’، يلفت النظر إلى فارق دقيق جدا بين كولومبوس وبين من كل من قبله في هذا السياق، وهو ’’أن كولومبوس لا يتميز عن هؤلاء الهنود إلا بشيء واحد فحسب، وهو تمكن كولومبوس من (الاتصال) مرة أخرى مع العالم القديم’’. وهو فرق جوهري قد لعب دورا مؤثرا في تفاصيل الأحداث على سطح القارة الجديدة القديمة!
لقد حقق كولومبوس (الاتصال)، وذلك عن طريق مذكراته ورسائله التي كان يبعثها إلى البلاط الأسباني، وهو ما جعل من إنجازه الحضاري وفتوحاته الجغرافية داخل السياق التاريخي للعالم القديم وأوروبا تحديدا.
وبالإضافة إلى هذا، فإن احتكاره للاتصال بالعالم القديم، يعني أنه يمتلك السلطة الإعلامية، ويحصر رواية التاريخ وتفاصيل الأحداث والتحديات في رؤيته، وهذا انعدام في التوازن بين القوى، يجعل معه سلطة مطلقة لا بد أن تكون مَفسدة.
ولذلك، لا عجب أن كولومبوس لا يتحدث عن البشر الذين يراهم إلا لمجرد أنهم يشكلون في نهاية المطاف جزءاً من المشهد الطبيعي. ودائما ما ترد إشاراته إلى سكان الجزر وسط ملاحظاته المتعلقة بالطبيعة، حيث يحتلون موقعا بين الطيور والأشجار. وهو لا يتعامل معهم باعتبارهم أصحاب الأرض فعلا، بل إنه يراهم مثل بقية الموارد الطبيعية التي يفترض أن تكون مسلوبة الإرادة وقابلة على أن تسخر لصالحه.
فمثلا، عندما كانت تأتي السفن التي تنقل قطعانا من الماشية من أوروبا إلى أميركا، وقبل أن تكتشف كميات كافية من الذهب من الممكن أن تملأها في طريق العودة، رأى أن الأنسب أن تشحن بالعبيد من الهنود الحمر حتى لا تعود خاوية. وقد كتب في رسائله: ’’من الممكن سداد الثمن للشاحنين على هيئة عبيد من آكلي لحوم البشر، وهم بشر متوحشون، لكنهم أقوياء البنيان يتميزون بالجسارة وبحسن الفهم نعتقد أن من الممكن، بعد تخليصهم من لا إنسانيتهم، أن يصبحوا أفضل أصناف العبيد’’.
عندما تتشكل الرؤية نحو الآخر بهذه الطريقة، وعندما يكون مستوى الخيارات المتاحة للآخر على هذا النمط في أحسن حالاته، لا عجب أن الغزاة لا يمكن أن يتقبلوا أرقى مستوى من مستويات الإرادة إنسانية عندما ينمو الوعي في داخل السكان الأصليين تدريجيا بضرورة المقاومة، فهم بالنسبة للوافدين من أوروبا، جزء من الطبيعة والمادة ولهم ذات خصائصها، ولهذا يجب أن يكونوا طوعا لإرادة الإنسان أو الرجل الأبيض.
والتعامل معهم لا ينبغي أن يكون مختلفا عن التعامل مع بعض الصخور التي تقف كعراقيل أمام الوصول للذهب في بعض المناجم. ولذلك، ومع مرور السنوات وتوافد المهاجرين إلى هذه الأرض ومعهم هذه الرؤية المتحيزة ضد الآخر، كانت الإبادة هي الحل الأنسب الذي يراه الغزاة. وهذا أدى إلى قتل الملايين، ولعل إبادة الهنود الحمر هي أعظم إبادة في تاريخ البشرية، وقد استمرت لمئات السنوات، بمعزل شبه كامل عن معرفة العالم القديم بها.
وقد كان تودوروف ذكيا ومذهلا، عندما اختار دراسة ’’اكتشاف أميركا’’، كأكثر الحالات النموذجية على الإطلاق، والتي يمكن أن تفسر بعض الأحداث والقضايا المعاصرة المثيرة للجدل في مسألة استكشاف الآخر.
ونحن نعلم أن اليهود عندما بدؤوا يتوافدون على أرض فلسطين، كانوا يحتكرون الاتصال بالمركز حينها، ويرفعون شعارهم الدعائي ’’أرض بلا شعب لشعب بلا أرض’’. وهذا ما يجعل إسرائيل اليوم شرسة جدا أمام أي مؤشر من الممكن أن يدل على إنسانية رفيعة ومقاومة مميزة، لأن هذا يشعرها بالكثير من القلق وينسف افتراضاتها.
وقبل عام 1973، كانت الصورة النمطية عن العرب في وسائل الإعلام الغربية لا إنسانية، وتصفهم بأنهم أقل من أن يدافعوا عن أنفسهم. وفي الوقت نفسه، كانت إسرائيل تروج بأن جيشها لا يقهر، وبأن خط بارليف هو أقوى خط دفاعي في التاريخ الحديث.
لكن إدوارد سعيد ذكر أن عبور الجيش المصري لقناة السويس وتجاوز خط بارليف خلال ست ساعات فقط، تصدر الصفحات الأولى، وأثار الدهشة وفتح المجال للكثير من الأسئلة النقدية، وكان نقطة مفصلية في مسار خطاب الاستشراق، ومن أهم الأسباب التي دفعت إدوارد ذاته إلى كتابة مؤلَّفه الشهير.
هذه الأصداء العالمية التي تزامنت مع عبور قناة السويس، تكشف لنا أن التطور المتزايد في وسائل الاتصالات خلال العقود الأخيرة الماضية من جهة، وعدم احتكار امتلاكها على شريحة محددة من البشر من جهة أخرى، يعني تحولا جذريا في مجال الخيارات والفرص السياسية والإعلامية المقاومة والمتاحة لأصحاب الأرض من الفلسطينيين ضد إسرائيل.
وهذا ظرف جديد يختلف تماماً عن ذلك الواقع الانعزالي الذي واجهه الهنود الحمر مع الغزاة أو المكتشفين، والذي كفل للغزاة فرصة الإبادة لسنوات طويلة، دون أي خوف أو قلق من طول الوقت أو تسرّب شيء قد يجعل الجريمة قضية رأي عام عالمي مثلاً.
وحينما كانت القوات الإسرائيلية تكسر كاميرات الصحافيين وتحجزهم بعيدا عن ميدان العمليات فإنها كانت تعرف أن الكاميرا تناضل مثل الإنسان وأنها قد صارت جزءا من الانتفاضة. وحينما كان الجنود الإسرائيليون يقتلون محمد الدرة، كانت الكاميرات تصور فعلهم وتكشف صنيعهم للعالم، وهذا كشف وتعرية، حاربتها إسرائيل، لذا منعت الصورة لكي تمنع التاريخ وتمنع انكشاف الذات.
إن أهم ما في ’’الصورة’’، كما يرى الغذامي في كتابه ’’الثقافة التلفزيونية’’، أنها وسعت من دائرة الاستقبال الثقافي وأدخلت الكثير من المهمشين على نحو غير مسبوق. وهو ما ساهم في زيادة إمكانات التأويل الثقافي حيث صار كل مشاهد يستقبل ويفهم ويفسر ما يراه، دون حاجة إلى وسيط، وهو ما لم يكن ممكناً في زمن ثقافة الكتابة، حيث شرط التعلم وحيث وجود الكاتب الوصيّ على النص.
وهذا أمر إيجابي، خصوصا عندما يساهم في نقل القضايا إلى الجماهير بعد أن فقد الناس الثقة بأخلاقيات كثير من النخب السياسية والثقافية والدينية. فإذا كانت الصورة بهذه القوة والخطورة، فلا شك حينها أن عملية ’’الرصاص المصبوب’’ التي قادتها إسرائيل على غزة من المفترض أنها قد فضحت إسرائيل وشوهت صورتها أمام المجتمع الدولي والرأي العام العالمي.
ففي مثل هذه الأيام من العام الماضي، شاهد العالم كله وعلى الهواء مباشرة ولمدة 22 يوما متواصلة، قصفا وحشيا، خلف أكثر من 1400 شهيد و5400 جريح وحوالي 35 ألف إنسان بلا مأوى. ولم يقتصر نقل الكارثة على القنوات التلفازية، بل كانت هناك ثورة جماهيرية على الإنترنت، تجلت على صفحات الفيس بوك واليوتيوب والمدونات، وعلى المتاحف الافتراضية التي أقيمت في موقع الحياة الثانية، مثل متحف هولوكوست فلسطين، التابع لإسلام أون لاين.
وإذا عدنا بذاكرتنا إلى تلك الأيام، سنجد أن كل التفاصيل المرتبطة بالحرب، مثل ’’إغلاق معبر رفح’’ و’’اكتمال النصاب في جامعة الدول العربية’’ و’’قمة الدوحة الطارئة’’ و’’طرد السفير الإسرائيلي في فنزويلا’’ و’’جمعة الغضب’’ و’’حملات التبرعات’’ و’’وفد العلماء للرؤساء’’ و’’موقف أردوغان’’ و’’هدم 23 مسجداً’’ و’’قصف مدرسة الأنروا’’ وغيرها الكثير، كل هذه التفاصيل قد أحدثت ردود أفعال واسعة وتعاطفا عربيا وعالميا كبيرا، اعتبره البعض أنه مكتسبات جوهرية ستصب في صالح الفلسطينيين في المستقبل ضد عدوهم المجرم.
ولكن ما إن وضعت الحرب أوزارها، ومضت أشهر بسيطة عليها، حتى خمدت آثارها في نفوس شريحة كبيرة من الناس والمهتمين، ودخلت الكثير من الوعود والمعاهدات في طي النسيان بسرعة مثيرة ومحزنة.
كل هذا أسهم في زيادة المعاناة التي تعيشها غزة، وهي التي استقبلت 2777 كيلوغراما أو حوالي 3 أطنان من المتفجرات، أخرجت أثقالها في كل كيلومتر مربع من أراضي قطاع غزة خلال فترة الحرب فقط، وقد زادت من نسبة الولادات المشوهة.
وفي المقابل، لم يدخل إلى القطاع سوى 40 شاحنة من التموين طوال السنة الماضية. وليس هذا فحسب، ففي الوقت الذي تجاهد فيه هذه الأيام قافلة البريطاني جالاوي للوصول إلى القطاع بشتى الطرق، نجد أن مصر تبني جدارا فولاذيا، إمعانا في الحصار، وبدعم كبير من أميركا وفرنسا، لم ينافسه إلا فتاوى شيخ الأزهر!
هذه التفاصيل والأحداث المفاجئة التي ظهرت بعد الحرب خلال السنة الماضية، وعلى خلاف ما كان متوقعا ومنشودا، تجعلنا نعيد النظر في حالة الاحتفاء التي سجلناها بثورة الاتصالات وثقافة الصورة ومدى أثرها على مسار القضية الفلسطينية.
وهذا التفاعل السلبي من الممكن أن يوسع من دائرة الخيارات الإسرائيلية، ويجعل مصير غزة في النهاية لا يختلف عن مصير الهنود الحمر. وقد ذكرنا آنفا، أن أكبر مشكلة واجهها الهنود أنهم لم يحققوا الاتصال مع غيرهم، ولكن أهل غزة قد حققوا أعلى مستويات الاتصال اللحظي في التاريخ كله.
وهو أمر يحتاج إلى تأمل وتفكير ونقد، فلا بد أن هناك أسباباً وتفسيرات متعددة، جعلت ذلك الكم من الصور القوية لا تحدث الأثر المطلوب منها خلال العام المنصرم. ولعلي في المقال القادم أحاول الإجابة على هذا السؤال: لماذا نسينا غزة؟!
* / كاتب سعودي
*العصر