عقود الإذعان من المصطلحات القانونية الحديثة، وغالباً ما تتعلّق بسلع أو منافع أو خدمات يحتاج إليها الناس عامة، كالهاتف الثابت والنقال، والنقل العام- الخطوط الجوية مثلاً- وتتميز هذه العقود بانفراد أحد العاقدين بوضع صيغة العقد وشروطه، دون أن يكون للعاقد الآخر حقٌّ في مناقشتها، أو إلغاء أو تعديل شيء منها.
وهذه العقود يجب أن تُعالج وفق الأسلوب الشرعي، وذلك بأن تُصاغ بمشاركة الطرف الأضعف، فلا ينفرد الطرف الأقوى بصياغة العقد، ورسم معالمه، بعيداً عن عين العاقد الآخر. فإن غلبت الروم، وانفرد الطرف الأقوى بصياغتها، فلا بد من معالجة الشروط المجحفة من خلال السلطة القضائية والتنفيذية، على الوجه الآتي:
1- أن تكون تحت رقابة الدولة قبل أن يتعامل بها الناس؛ من أجل إقرار ما هو عادلٌ منها، وتعديل أو إلغاء ما فيه ظلمٌ بالطرف المذعن؛ وفقاً لما تقضي به العدالةُ شرعاً.
2- أن يتدخل القضاء بإلغاء الشروط الجائرة، وتعديل ما يمكن تعديله منها، مما تقتضيه مصلحة الطرفين، ويحقق العدل بينهما، وهذا عند وقوع التنازع بينهما.
أما ما كان الثمنُ فيه عادلاً، ولم تتضمن شروطه ظلماً بالطرف المذعن، فهو عقد صحيح شرعاً، ملزِم لطرفيه، وليس للدولة أو للقضاء حقُّ التدخل في شأنه بأي إلغاء أو تعديل، لانتفاء الموجب الشرعي لذلك؛ إذ الطرف المسيطر للسلعة أو المنفعة أو الخدمة باذلٌ لها، غير ممتنع عن بيعها أو بذلها لطالبها بالثمن الواجب عليه شرعاً، وهو عوضُ المثل، أو مع غبن يسير، باعتباره معفواً عنه شرعاً، لعسر التحرّز عنه في عقود المعاوضات المالية، وتعارف الناس على التسامح فيه، وهذا كله مصرَّح به في قرار مجمّع الفقه الإسلامي..
ولا ريب أن أسلوب الوقاية خير من العلاج، ولاسيما إذا كان في بلاد تضعف فيها عين الرقيب، وتنفرد فيها الشركات والمؤسسات العاملة، أو المحتكرة بفرض واقع تعسفي، وهنا أتساءل: ماذا يعني قوله تعالى: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً)؟
إنها تتحدث عن المدين حين يستدين، فيجب عليه توثيق الدين بإملائه؛ لئلا يضيع حق الدائن، والمدين هنا هو الجانب الأضعف في المعادلة أمام الدائن القوي الذي يملك في رقبة مدينه حقاً نقدياً أو عينياً، وإذا كان الطرف الأضعف هو من يسجل الدين الذي للدائن في ذمته، ولا يسجله الدائن، ألا يملك هذا الطرف الضعيف أن يشارك الطرف القوي في صياغة العقد الذي بينهما، ومن أهمها عقود الإذعان؛ لئلا يتمادى القوى فيجحف بحق الضعيف..؟
لقد التمس الفقيه القاضي عبد القادر عودة -رحمه الله- فوائد هامة من آية الدين، من أبرزها أنها وضعت اليد على الجرح في المشكلة الكبرى لعقود الإذعان، وهي مشكلة فرض الشروط المجحفة على الطرف الثاني في العقد، بصياغة شروط تحقق مصلحة الطرف الأقوى على حساب الطرف الأضعف..!
وفي تسليط الضوء على هذه الفكرة يقول الفقيه القاضي:(جاءت الشريعة الإسلامية بمبدأ عام أوجبته في كتابة العقود، وهو أن يملي العقد الشخص الذي عليه الحق، أو بمعنى آخر أضعف الطرفين، والمقصود من هذا المبدأ العام هو حماية الضعيف من القوي؛ فكثيراً ما يستغل القوي مركزه، فيشترط على الضعيف شروطاً قاسية، فإن كان دائناً مثلاً قسا على المدين، وإن كان صاحب عمل سلب العامل كل حق واحتفظ لنفسه بكل حق، ولا يستطيع المدين أو العامل أن يشترطا لنفسيهما أو يحتفظا بحقوقهما لضعفهما، فجاءت الشريعة، وجعلت إملاء العقد للطرف الضعيف لتحفظ به حقوقه، وتحميه من التورّط، ولتكون شروط العقد معلومة له حق العلم، وليقدر ما التزم به حق قدره. وهذه الحالة التي عالجتها الشريعة من يوم نزولها هي من أهم المشاكل القانونية في عصرنا الحاضر، وقد برزت في أوروبا في القرون الماضية على أثر نمو النهضة الصناعية وتعدد الشركات وكثرة العمال وأرباب الأعمال، وكان أظهر صور المشكلة أن يستغل رب العمل حاجة العامل إلى العمل، أو حاجة الجمهور إلى منتجاته؛ فيفرض على العامل أو على المستهلك شروطاً قاسية، يتقبلها العامل أو المستهلك وهو صاغر؛ إذ يقدم عقد العمل أو عقد الاستهلاك مكتوباً مطبوعاً، فيوقعه تحت تأثير حاجته للعمل أو حاجته للسلعة، بينما العقد يعطي لصاحب العمل كل الحقوق، ويرتب على العامل أو المستهلك كل التبعات. ذلك العقد الذي نسميه اليوم في اصطلاحنا القانوني(عقد الإذعان)، وقد حاولت القوانين الوضعية أن تحل هذه المشكلة، فاستطاعت أن تحله بين المنتج والمستهلك بفرض شروط تحمي المستهلك من المنتِج، وبتعيين سعر السلعة، ولكنها لم تستطع أن تحلّ إلاّ بعض نواحي المشكلة بين أصحاب العمل والعمال، مثل إصابات العمال، والتعويضات التي يستحقها العامل إذا أُصيب أو طُرد من عمله؛ لأن التدخل بين صاحب العمل والعامل في كل شروط العمل مما يضرّ بسير العمل والإنتاج، وبقيت من المشكلة نواحٍ هامة كأجر العامل، وساعات العمل، ومدة الإجازات، وغيرها، يحاول العمال من ناحيتهم حلها، بتأليف النقابات والاتحادات وتنظيم الإضرابات، ويرى العمال من ناحيتهم أن حل مشاكلهم لن يتأتى إلاّ إذا كان لهم حق إملاء شروط عقد العمل، ويظاهرهم على ذلك بعض المفكرين والكتّاب.
فهذا الحق الذي يطالب به العمّال في كل أنحاء العالم، والذي أضرب العمال من أجله، وهدّدوا السلم والنظام في دول كثيرة في سبيل تحقيقه، هذا الحق الذي حقق القانون الوضعي بعضه، ولم يحقق بعضه الآخر، والذي يأمل العمال أن يتحقق كله إن قريباً أو بعيداً، هذا الحق قررته الشريعة الإسلامية كاملاً للضعفاء على الأقوياء، وللملتزمين على الملتزَم لهم، وجاء به القرآن الكريم في آية الدين (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ..)، وظاهر أن صيغة النص بلغت من العموم والمرونة كل مبلغ، وهذا هو الذي جعل الشريعة تمتاز بأنها لا تقبل التغيير والتبديل. ووجود هذا النص في الشريعة دليل بذاته على سموِّها وكمالها ورقيّها وعدالتها، فقد جاءت به منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً، بينما القوانين الوضعية لم تصل إلى تقرير مثله حتى الآن، مع ما يُدّعى لها من الرقي والسموّ). أهـ.
وبعد الإشارة الدقيقة في آية الدين لهذه المسألة، يتبين بوضوح أن الجهات المسؤولة إذا لم تصطف مع العمال والمستهلكين في صياغة عقود الإذعان، فعلى الأقل لا ينبغي لها أن تصطف مع الشركات والمؤسسات العاملة، أو المحتكرة منها للسلع والخدمات العامة، أو أن تتجاهل دورها التعسفي، بل عليها أن تقف بين الطرفين على مسافة واحدة لتحقق العدالة بينهما، ولتُصاغ العقود على كلمة سواء..
*الإسلام اليوم