يبرز اليسار في الثقافة العربية والإسلامية الراهنة المفاهيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في القرآن الكريم في مقابل تركيز اليمين على الشعائر والعقائد الإيمانية. والغاية إعادة توجيه المسلمين نحو العالم بعد أن فقدوا السيطرة عليه لصالح الأمم الأخرى التي احتلتهم.
ومن ذلك مفهوم ’’الظلم’’ في القرآن الكريم. وهو، في نظري، مفهوم رئيسي أهم من العدل. فقد ذكر مائتين وتسعاً وثمانين مرة في حين ذكر ’’العدل’’ ثمان وعشرين مرة، أي حوالي عشرة أضعاف. فمن يحارب الظلم يحقق العدل. ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح في القواعد الفقهية.
ومعظم استعمالات اللفظ أفعال وصفات وليست أسماء. فالظلم فعل بشري، وسلوك إنساني، وليس جوهراً ثابتاً. فلم يذكر الظلم كاسم إلا عشرين مرة، والأفعال والصفات حوالي خمسة عشر ضعفاً من الاسم. والظالمون هم بعض الناس والبشر. وهي الصفة الأكثر استعمالاً، حوالي نصف الاستعمالات. ولم يذكر لفظ ’’مظلوم’’ إلا مرة واحدة لأنه لا أحد يقبل أن يكون مظلوماً، في الحياة أو في الممات. والمظلوم هو المقتول، (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً). والإنسان ظلوم، (إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ). وحمل الرسالة والأمانة لتحقيق كلمة الله على الأرض، كلمة العدل والصدق لأنه ظلوم جهول، (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولا).
والظلم اشتقاقاً من نفس الكلمة التي تعني الظلام. فالظلم ظلام، والظلام ظلم للناس. وظلمة القلب أشد لأنها تمنع من الرؤية.
ومن مظاهر الظلم عبادة غير الله، (يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ)، أي عبادة الأهواء والمصالح والقوة بلا قانون. فالله يهدي إلى العمل الصالح ويحدد معيار الفضيلة. ومن مظاهر الظلم تبديل قول الله وآياته (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً)، أي تبديل الحق باطلاً والباطل حقاً كما تفعل إسرائيل في فلسطين، وكتم الشهادة ظلم كما تفعل أوروبا بالنسبة للعدوان الإسرائيلي، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ).
والظلم أنواع. أولها ظلم النفس وهو الأكثر استعمالاً، (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ). فالظلم ظلم للنفس قبل أن يكون ظلماً للناس. هو تخلي الإنسان عن قيمه ومبادئه ومثله وفضائله ومنها العدل. ظلم النفس يحول الإنسان إلى ظالم لنفسه ولغيره. وهو ليس من الله. فالله لا يظلم أحداً. لذلك تُستعمل في حقه صيغ المبالغة، (وَمَا رَبُّكُ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ)، (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)، (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ). الله هو المقسط، والقائم بالقسط، وهو من صفاته. والله لا يخاطب الظالمين، (وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا)، لأن الظلم كفر به. وإنكار لشريعته، والتحول من الإنسانية إلى الحيوانية. والظلم للناس بعد الظلم للنفس، (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ)، الظلم في المجتمع وفي العالم، ضد الأفراد والجماعات والطبيعة، في الاستغلال والاحتكار وتلوث البيئة.
ومن مظاهر الظلم الجشع في الدنيا والطمع والرغبة في الاستيلاء على كل شيء وحرمان الآخرين، (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ)، وضم نعجة الآخر إلى التسع وتسعين نعجة التي له. فرأس المال لا سقف له، وزيادة الثروة لا حدود لها، وتراكمها بلا نهاية. والظلم فتنة وشقاق وخلاف واتباع للأهواء كما يحدث الآن في فلسطين بين ’’فتح’’ و’’حماس’’ لأنه تغليب للمصلحة الخاصة على المصلحة العامة، وللسلطة على الوطن، وللرئاسة على التجرد، وللدنيا على الآخرة. والربا من مظاهر الظلم وجميع أنواع الربح غير المشروع، (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ). فالربا استغلال لحاجات الناس، وتوليد المال للمال بلا جهد، وأكل أموال الناس بالباطل ظلم، (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً). وهو حوب كبير.
واليهود نموذج الشعب الظالم لنفسه ولغيره. لذلك حرم الله عليهم ما سألوا عنه، (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ). طالما أغار على باقي القبائل السامية واستولى على أراضيها وثرواتها كما فعلوا مع الكنعانيين. والظالمون لا أنصار لهم على عكس ما يحدث الآن من مناصرة الغرب لإسرائيل (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ). والظالمون بعضهم أولياء بعض كما هو الحال في تأييد الغرب لإسرائيل، (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
لذلك قامت الشريعة على العدل. وتعديها ظلم، (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)، للتخفيف من ظلم البشر بعضهم لبعض وإيجاد ميزان عدل يحكم بينهم.
والظلم يمكن محو آثاره بالتوبة والاستغفار لأنه فعل طارئ على الإنسان. فالإنسان خيّرٌ بطبعه، والعدل ضمن الخير، (إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ). وشرط ذلك تغيير الظلم إلى عدل، بالرجوع عن الظلم، وإرجاع الحق إلى المظلوم، وذلك يتطلب يقظة الضمير وسماع صوت الحق. فإن لم تتم التوبة والاستغفار عن الظلم، وظل الظلم على غيّه وانتهى العمر وأتى وقت الحساب فإنه ينال جزاءه من العذاب، ولا يمكن أن يفتدى نفسه حتى ولو جاء بمثل هذه الأرض ذهباً. ويوم الحساب يقوم على العدل المطلق، (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً)، (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).
والظلم إيذان بخراب العمران كما لاحظ ابن خلدون من قبل، الظلم ضعف والقوة للعدل. الظلم ريح عاتية تهب على الناس ولا تبقي، (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا). لا يبقى الظالمون ويهلكون، (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا)(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا). تهلك الشعوب والأقوام بالظلم، (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً). هذا هو قانون التاريخ. تندثر الأمم بالظلم. وتبقى بالعدل. والظلم مهما طال ينقلب على الظالمين، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ). لم يبق شعب ظالم. وانتهى فرعون وقومه، (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ).
والظلم لا يخيف. ويمكن مواجهته، (إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي). فالإنسان ظلوم ولكنه يخلف الله في الأرض. يحقق كلمته، ويطبق شريعته.
وتكون المواجهة بالقول والفعل، بالجهر وبالنضال، (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ)، والساكت عن الحق شيطان أخرس. وأذن بالقتال للذين ظلموا، (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ). وقد تتواتر الهجرة المؤقتة من ديار الظلم من أجل العودة إليها. فلا هجرة بعد الفتح، (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً)، (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا). حينئذ يكون الظلم شاملاً فتنهار الدول. ولا يجد الظالم من يظلمه إذا غادره الناس، وقاطعوه، وأداروا له ظهورهم.
العدل أساس العمران، والظلم خراب. وإمام كافر عادل خير عند الله من إمام مسلم ظالم.
*التجديد العربي