مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
شقوق في جدار التربية 2-2
استعرضنا في المقال السابق كيف أن التربية قُدِّر لها أنها لا تستطيع السير دون راعٍ يوجه لها الطرق المعبدة ! وقلنا بأن الفرنسي ’’فولتير’’ يرى بأن المربي أقدر منها في التغيير والإحداث! واستعرضنا أيضا بعض الأمثلة حينما تفقد التربية خامها أو أن يفقد على الجانب الآخر الحكم والقانون أخلاقيته.
وهنا بهذه التتمة سنتطرق بإيجاز إلى العادات والغرائز والأخلاق، وستنزل بمقالنا مقولتان؛ الأولى للعالم الاجتماعي ’’أوجستين’’، والأخرى للمفكر ’’ألفونس كار’’ وكلاهما من أصل أوروبي.
ولأن العادات والغرائز والأخلاق هي البيئة الخصبة لخطاب التربية والمربي؛ فإننا بداية نلفت النظر إلى التفريق بين هذه الثلاث بناء على تقبل كل واحدة للخطاب الأيدلوجي! فلو أراد على سبيل المثال ’’س’’ أن يوجه خطابا أيدلوجيا لـ ’’ص’’؛ فإن ’’ص’’ يستعرض هذا الخطاب بسيكولوجيته شديدة التعقيد! فإذا كان هذا الخطاب موجها إلى الغريزة فهذا له باب! وإذا كان موجها إلى العادات فله باب أيضا! وإذا كان موجهًا للأخلاق عامة فذاك له باب آخر .
إذن: لا يستطيع الخطاب التربوي – في وجهة نظري - الإفادة بإيجاب أو سلب من جميع هذه الثلاث أيًا كان هذا الخطاب! حتى لو كان دكتاتورا بالحديد والنار فلن يستطيع! فمثلا لو أراد ’’س’’ منع ’’ص’’ من شرب السجائر ؛ فإنه حين يمنعه بالقوة ، فقد استطاع ’’ص’’ أن يوقف واحدة من هذه الثلاث وهي العادة ؛ بينما تتحرك الغريزة عند ’’س’’ بحساسية شديدة نحو كره ’’ص’’ وربما تصل إلى إيذائه! وتظل الأخلاق تتحرك نحو العناد وما شابه!
لذا فإن التعريف الذي يمكننا به التفريق بين هذه الثلاث يمكن صياغته على النحو التالي:
إن الغريزة هي ما كانت ثابتة في التكوين الحيوي أو التركيب الجيني لدى الإنسان ، أي: ما لازمه من صفة تجعله يتصرف بها في وقتها، كالخوف عند رؤية السبع، والفرح عند الأمر السار، والبكاء عند الخطوب.
وأما الطباع أو العادات فهي كالغريزة في التصرف! إلا أنها قد تستحدث بالممارسة الطويلة التي قننها بعض علماء النفس كفرويد بما فوق الأربعين يوما، بخلاف الغرائز فإنها لا تستحدث.
وأما الأخلاق فهي ما تنتجه الغرائز والطباع من سلوك يعبر بالدرجة الأولى عنها، وبالدرجة الثانية عن الاختلاط ’’التأثير والتأثر’’، وبالدرجة الثالثة عن اعتبارات مختلفة كالمجاملات والمراءاة وغيرهما.
وبهذا العرض السريع نجد أن المربي الناجح هو من ينظر إلى الإشكالات بواقع التوجيه المربع لكل إشكالية، فإذا رأى – المربي - أن الإشكال - في أمر ما - ساقط على الدين أمكنه بالخطاب التربوي أن يعالج القضية من المنظور الديني للقضية ثم يتبعها بالأخلاق، وإذا رأى أن الإشكال ساقط على إحدى الغرائز مثلا ، أمكنه التمحور حول هذا الإشكال بخطاب شبه غريزي ، فإذا رأى أن الإشكال ساقط على الأخلاق كالذوق العام مثلا ، أمكنه كذلك احتواءه بما يناسبه.
المهم ألا يوجه الخطاب الغريزي مثلا للإشكال الساقط على الدين أو الأخلاق أو العادات فقد يفقد هذا قيمته البتة!
ولو عدنا إلى السيرة لوجدنا فيها أمثلة كثر على هذا الوصف التربوي، فعلى سبيل المثال يتفق العقلاء على أن الحب غريزة بشرية ذكرها الله بسورة الفجر، فقال سبحانه يصفنا ( وتحبون المال حبا جما ) ، والحب غريزة قيدت هنا بالمال! فحين لحق سُراقة بن مالك رَسول الله- صلى الله عليه وسلم - وصاحبه؛ كان هدفه الوحيد هو الإمساك بهما وأخذ الجائزة المعلنة من قريش، وكانت تقارب مئة بعير! فكيف وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطابه الملائم لهذه الحالة؟
إن سراقة الآن يقع تحت الإشكال الغريزي وهو حب المال، وليس دونه أمر الرحمة أو التفاوض أو حتى الانتظار!
لقد وجه رسول الله خطابا يُشبع غريزة سراقة ! ويقف جنبا إلى جنب مع هذه الغريزة في نفسه، فقال: ’’ كيف بك يا سراقة وقد تسورت بسواري كسرى ’’ !
فهنا وقع سراقة تحت المجهر الفيزيولوجي، فرأى- وهذا المنطق - أن سواري كسرى لا ينبئان إلا عن ثراءٍ عظيم ! ولذلك عجب وذهل ثم استجاب! ومثل ذلك قيسوا على حديث الشاب الذي أراد أن يستأذن النبي في الزنا!
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم المربي الأول لهذه البيئة ولسائر البيئات، والتي لن تصلح إلا باتباع منهجه العقدي والتربوي والإنساني، كما يقول برنارد شو: ’’ أما أنا فأرى أن يدعى النبي محمد منقذ الإنسانية، واعتقد أن رجلا مثله لو تولى زعامة العصر الحديث لنجح في حل مشكلات هذا العالم وأحل فيه السعادة والسلام!’’ ولكن أنى يوجد مثله عليه الصلاة والسلام.
وأما الضلع الرابع من التوجيه، وهو ما يعنينا بشكل أكبر في هذا المقال فهو الخطاب التربوي الموجه للإشكال الساقط على العادات! فهو وإن كان أوسعها بابا إلا أنه أضيقها دخولا في نفس الوقت! فحينما يقف الوالد على مشكلة لابنه، أو صديق على مشكلة لصديقه في محيط العادات، كالنوم الزائد مثلا، أو عدم الجلوس مع الأهل، أو التأخر المتكرر عن سفرة الطعام، أو الخروج الكثير من البيت؛ فإن كل واحدة من هذه لا يمكنها أن تحتمل خطابا موحدا في كل مرة يوقف فيها على المشكلة! بمعنى: أن ’’س’’ إذا أراد تنبيه ’’ص’’ على عدم الخروج من المنزل بعد ساعة محددة من الليل؛ فإن ’’س’’ منطقيا لا يمكنه أن يعاقب ’’ص’’ من أول مرة! ولهذا فالقرآن الكريم ضرب لنا مثلا في الأقوام الهالكة، فقد أتاها البشير والنذير، وجرت عدة حلقات دعوية مرتبة من الحسن إلى الأحسن، أو من الشديد إلى الأشد! بل يجب في حالة ’’س’’ أن يبدأ بالتنويه ثم بتكراره ثم بالإنذار إلى أن يصل في النهاية إلى الطريق المسدود أو المفتوح! مبينا ’’س’’ لـ ’’ص’’ خلال كل هذا الأسباب والمبررات! وهذا بالضبط ما أراده الاجتماعي ’’أوجستين’’ على خلفية قوله ’’كل عادة إذا لم تقاوم سرعان ما تنقلب إلى حاجة!!’’
وربما يشاهد الكثير منا إما على الصعيد الشخصي أو الاجتماعي بعض الأعمال التي تحولت تدريجا بالممارسة إلى عادة، ثم انقلبت بعد فترة ليست بالطويلة إلى حاجة! مثل تلك- على الصعيد الاقتصادي- والتي كانت لدينا كمالية قبل استخدامها ضرورة بعد استعمالها!
ولذا فالحذر في هذا الشأن أولى به أن يتحول إلى نهج مدروس يُفصل فيه الباحثون والمهتمون بهذا المجال! فإذا ما تحولت العادات إلى حاجة فذلك يعني أحد أمرين:
= إما خروج الإنسان بمظهر المدنية غير الملائمة لبيئته! أو هو مؤشر انهيار اجتماعي يعقبه انهيار سياسي واقتصادي في ظل غياب فنية الخطاب، كما فصل في ذلك ابن خلدون، ولذا فقد فطن ’’ألفونس كار’’ إلى مجتمعه فقال: ’’إن لكل إنسان ثلاثة طباع: طبعه الحقيقي، والطبع الذي يظهر به أمام الناس، والطبع الذي يعتقده في نفسه!’’ وترك لنا ’’ألفونس’’ المشهد دون أن يخرجه! فلم يكمل لماذا اعتقد ذلك ؟ وربما أن السبب هو ما رآه من صعوبة التفسير الأيدلوجي لها، ولكن يمكن لنا أن نقول: إن البيئة الاجتماعية سواء أكانت محافظة أم متحررة - بالمفهوم الغربي - قد وضعت الإنسان تحت ضغط غير مرهون بشيء يمكن تصويره إلا بمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض!
وهذا ما لا يريده الإسلام من الإنسان! فكيف بك تتحدث مع ثلاثة أشخاص في شخص واحد أمامك! تراه في كل مرة بصورة مختلفة! وإن كان ما يقوله ’’ألفونس’’ صحيح بعض الشيء، إلا أن الإسلام بالأخلاق - التي جاء ليتمم مكارمها - يمكنه أن يجعل من الشخص صورة واضحة مع نفسه أولا قبل الناس.
ومن خلال حديث ’’إنك امرؤ فيك جاهلية’’ يمكن لنا أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يكون المسلم صادقا مع نفسه، لا أن يكون إيمانه بالتحلي أو بالتمني! وأما أبو ذر رضي الله عنه فقد حسن إسلامه وثبت على ذلك حتى مات رضي الله عن الصحابة أجمعين.
*تربيتنا
أضافة تعليق