البعد النفسي للتوبة
بقلم/ عمر مناصرية
لماذا نتوب ؟ وما هي العوامل التي تؤدي إلى التوبة؟ ما هي مختلف العمليات النفسية التي تصاحب التوبة؟ وما أثر ذلك على الجوانب المختلفة للشخصية التائبة؟
إنها بعض الأسئلة التي لا نسألها كثيرا حول مفهوم كبير مثل التوبة، بل نرى التوبة مجردة عودة إلى خط مستقيم تتم بطريقة غامضة ، فإذا الإنسان إنسان آخر غير الذي نعرفه، والعبد صورة أخرى.
غير أننا إذ نريد أن نستثمر هذا المفهوم في إعادة الناس إلى جادة الصواب والحق، فيجب أن يدرس دراسة نفسية ومعرفية واجتماعية عميقة، ويبحث بحثا طويلا، لاستكناه مختلف الجوانب التي يضمها مفهوم التوبة، ولا أدعي هنا أنني سأقوم بكل هذا أو بعض منه، إنما الغرض هو فتح باب على موضوع أهمل كثيرا، وانسحبت إليه أفكار الماضي ، فلم تدعه إلا موضوعا منتهي الصلاحية.
مفاهيم خاطئة حول التوبة:
تقترن التوبة بمفاهيم خاطئة في كثير من الأحيان، إذ تقترن بشهر بعينه كرمضان أو بأيام كالحج، ثم العبد يعود بعد ذلك إلى ذنوبه مسرعا، ليحمل منها ما شاء له أن يحمل، بعد عبادات وصدقات وأعمال كثيرة جليلة كان الأحرى أن تترك أثارها في النفس.
كثيرا ما نتصور التوبة فعلا ساكنا يعود المسلم من خلاله إلى الصلاة والصيام ، ثم يضل على ذلك الحال لا يتبدل ولا يتغير.
وقد تقترن التوبة بفترة أو حال من الأحوال، أو بتحول بكامله يصاحب الابتعاد كليا عن المجتمع وتفاعلاته، فيصير جزءا آخر مختلف، فيغيب فعل التوبة الحقيقي، ويصير انتفاضا سلبيا على وضع متدهور لا يزال.
كما نجد أيضا مفاهيم خاطئة حول التوبة، إذ نتصور التوبة فعلا ساكنا يعود المسلم من خلاله إلى الصلاة والصيام ، ثم يضل على ذلك الحال لا يتبدل ولا يتغير، بينما التوبة في الحقيقة ارتقاء دائم وفعل إيجابي يتغير باستمرار.
والحقيقة أن هذه كلها ليست بتوبة، إنما هي عادات يجب أن تحارب، وأفكار خاطئة يجب أن تصحح، نتجت عن وضع المجتمع نفسه، فاستقت خصائصها من سكونه وثقافته التي لم تبرح مكانها، ذلك أن للمجتمع والثقافة سطوة كبيرة على الأفكار والتأسيس لها، حتى المفاهيم الدينية التي غالبا ما نراها أو نتوقعها مختلفة تماما.
ومعظم مفاهيمنا التي كوناها عن الدين وأركانه أو عباداته، إنما نتجت عن التأثيرات الثقافية التي طبع عليها السكون والجمود، فانتهت هي أيضا إلى نفس الجمود، وقد يغلب عليها طابع الشعوذة ولذا فمن أحوج ما نحتاج إليه هو نفض الغبار عنها، وتمثلها من جديد.
المدلول النفسي للتوبة:
التوبة هي إدراك داخلي في النفس، وليس خارجيا تمليه ظروف معينة أو مناسبات معينة، كما في رمضان أو غيره.
إن أول المدلولات النفسية للتوبة، هي أنها إدراك داخلي في النفس ، وليس خارجيا تمليه ظروف معينة أو مناسبات معينة، كما في رمضان أو غيره، وهذا الإدراك ينم عن شخصية قادرة على وضع حدود بينها وبين الموضوع ، سواء كان اجتماعيا أو ثقافيا أو حتى دينيا، ويؤدي هذا الإدراك الجديد، إلى الوصول إلى موقع أعلى في درجات البحث عن الله والقرب إليه.
وينعكس ذلك أول ما ينعكس على الجوانب الوجدانية للنفس، فتصبح السيئات والمحرمات مكروهة لذاتها وليس لأي شيء آخر، فنحن عادة ما نكره الشيء بحسب ألفتنا لكره المجتمع والآخرين له. إذ تحدد الأعراف القيم والاتجاهات بصورة كبيرة، وهذا بسبب العادات المتوارثة والثقافة السائدة، وهذا ما يدخل منه بعض العلمانيين حين يقررون أن المحرم هو المحرم في العرف الاجتماعي، والقرآن يحرمه تبعا لذلك، فإذا القرآن وفق هذا المفهوم شيء نسبي والثقافة هي المطلق، وهذا خطأ فادح، إذ تتمكن الشخصية التائبة من إدراك كراهية المحرم بمعزل عن أي تأثير آخر، فالمحرم محرم لذاته، وليس لسبب آخر.
ثم إن الإدراك الجديد الذي حصلت عليه شخصية التائب، يؤدي إلى الندم، وهي حالة وجدانية أيضا تضع النفس في مواجهة صورتها التي صارت عليها في مقابل صورتها السابقة والدنيا، حين لم تكن مدركة للوضع الجديد. وهذه الحالة تقابل ما يعرف بالجهل في مقابل العلم. فالارتقاء الجديد للنفس، مكنها من معرفة أحوال جديدة، كانت جاهلة بها، ولذا يقول الله: ((إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) النساء إن شخصية المؤمن شخصية ممحصة وناقدة، وتبحث في التصرفات ومدى توافقها مع ما أمر الله به، فتتوب من قريب بعد حصولها على الإدراك، ولا تتماطل بعده، كما أنها ليست شخصية غافلة إلى حين يباغتها الموت، فتدرك خطأها في لحظة موتها فتريد التوبة ، أو تموت كما يموت الكفار غير مدركين لأي حقيقة.
إن الارتقاء إلى الله يؤدي إلى وضع أطر ومعايير واسعة في كل مرة للتصرف الإنساني يتيح وضع كل تصرف في موازنة مع مبادئ الخلق التي وضعها الله، وهذا الارتقاء الجديد، يؤدي معنى السعي الحثيث لمقاربة السلوك الإنساني في كل مرة للوصول إلى الطهارة والتناغم بشكل كامل مع أهداف الله الأزلية من الخلق. أما الحالة السابقة التي كان عليها المؤمن فهي الجهالة التي تقتضي عدم معرفة حق الله على ا لنفس.
كما يمكن الفهم من الآية السابقة أيضا أن المؤمن حين يرتكب سيئة، فإنما يفعل ذلك حين ارتداده عن المرتبة التي كان عليها من الله، ولذا فهو يرتكب السيئات والخطايا. ويقتضي ذلك منه للعودة إلى نفس المرتبة أو أعلى منها أن يتوب من قريب ويصحح خطأه ووضعه.
ويمكن فهم ذلك أيضا من أن الإنسان في وضعه البدائي إنما يكون غير مدرك لأي وضع أو مرتبة عند الله، فلا يرى نفسه إلا من خلال مرآة يصنعها بنفسه، فيذنب ولا يتوب إلا من بعيد، بل قد يوغل في ذنوبه ومعاصيه، ولكنه حين القرب من الله، فإن التوبة تصبح عملا دائما، كما نجد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يتوب في اليوم أكثر من سبعين مرة، أو مائة مرة كما في بعض الأحاديث. ونحن نفهم ذلك كتوبة عادية من الذنوب، غير أن الحقيقة والله أعلم هو أن الرسول بسبب قربه الشديد من الله، يصبح وضعه متطلبا لعملية التوبة والتطهر بصورة دائمة، فهو يتلقى وحيه منه، و لذا فإن توبة الرسول تتطلبها مكانته عند الله.
وكذلك نجد المؤمنين وأحوالهم التي تتطلب منهم السرعة والتجاوز والتوبة: ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) آل عمران
حيث وصف المؤمنون على هذا النحو من محاولة التقرب أكثر والمسارعة وعدم الركون إلى الماديات أو السلبيات النفسية والتوبة من قريب، إذ تتطلب منهم علاقتهم القريبة من الله الحث والسرعة في التقرب وعدم التفريط في هذه العلاقة. فكلما كانت المرتبة قريبة، كان الوضع جللا، والتوبة مطلوبة، لأن الإنسان في ذلك الوضع يكتشف أخطاء كثيرة وأوضاعا لنفسه لم يكن يعلم بها، فكأن أبوابا من التعديلات والتصحيحات والتقريبات تنفتح أمامه بسرعة، ليرى نفسه من جديد، إنسانا آخر تماما، وكائنا مختلفا حتى من الناحية البيولوجية والجسمية.
وفي صنف أدنى نجد الناس العاديين، أمثالنا نحن عافانا الله من هذا الوضع، إذ لا نتذكر أي ذنب إلى لمما. بسبب أن التذكر المذكور في الآية السابقة تمليه عملية الإحساس بالقرب أما النسيان فيمليه البعد.
مراحل التوبة:
لقد ذكر العلماء الأجلاء الأولون مراحل للتوبة وجعلوها أربعا ، ويدل هذا على وعيهم بالبعد النفسي لعملية التوبة، ولقد أخطأنا إذ لم نبحث في هذه المراحل ولم ندرسها دراسة كافية، فترى الإمام في المسجد يقررها كما هي، لا يضيف لها شيئا من عنده، فبقيت كما كانت من قرون .
المرحلة الأولى الندم:
الندم هي حالة وجدانية متعلقة بالماضي، وهو نفس المعنى الذي رأيناه سابقا، من أن العبد يصبح في وضع نفسي وإدراكي مختلف لموقعه السابق، ولوضعه الذي كان عليه، ثم هو يدرك وضعا جديدا يصل إليه، وهذا قد تكون له أسباب عديدة، منها تطور العبد النفسي والعقلي والمعرفي نتيجة للوعي الذي تساهم فيه عوامل كثيرة، وقد يكون استعدادا فطريا في النفس تصل إليه بعد مدة من نشدان الكمال. ولأن العبد يدرك هذه الحقيقة، نتيجة المقارنة التي يحدثها بين وضعه السابق ووضعه الجديد، فإنه يستخلص مجموعة من الأحكام التي يحدد من خلالها صورة أخرى لنفسه وسيعمل على الوصول إليها.
والمهم أن هذا الإدراك الجديد، إنما يكون في مقابل وضع الإنسان مع الله، أي العلاقة الإنسان- الله، فلم يعد العبد المؤمن يحدد وضعه في علاقته بغيره من الناس، ولا بأحكام أو معايير أخرى، كما يحدث مثلا مع العديد من التقنيات الجديدة في تطوير النفس كالبرمجة العصبية، إنما يحدد المؤمن نفسه في وضعه مع الله، وهذا الإدراك هو إدراك عال جدا، يتيح له وضع أطر ومعايير جديدة يجدها لديه في داخله قبل أن يقتنصها من القرآن أو السنة، كالإخلاص والصدق ومحاولة التقارب مع جميع المبادئ الإسلامية التي جاءت في القرآن أو السنة.
المرحلة الثانية الترك:
وهي الإرادة المتعلقة بالحاضر والتي ينبني عليها الفعل الجديد وعدم العودة إلي الأفعال القديمة، وهي الهجرة التي يقوم بها العبد من المنكر إلى المعروف، ومن السيئة إلى الحسنة ومن الخطأ إلى الصواب، إنه الانتقال من الوضع السابق الدنيء إلى الوضع اللاحق المرجو، إن العبد هنا يدرك ما هو مطلوب منه، ويسعى إلى ذلك سعيا، بهجر ما كان عليه ، إلى ما يريد أن يكون عليه، وهي عملية إنسانية قد تكون في ظاهرها بسيطة، إلا أن كل التاريخ الإنساني تقريبا قام عليها ومارسها.
والعبد يمارسها على صعيد الانتقال والإرادة فيه، نحو ما ينشده. لقد حدد هدفه، ورآه وهو يريد أن يصل إليه، وبمعنى آخر، فإن العبد رأى موقعا قريبا من الله، فأراد السير إليه، ولذا عليه أن يتطهر.
وهنا معنى آخر، وهو أن الندم يغذي الفعل الصحيح ويقومه، فهو مصدر قوته، بالإضافة إلى مصدر آخر هو العزم.
المرحلة الثالثة العزم:
وهي الإرادة المتعلقة بالمستقبل، حيث يعزم العبد على عدم العودة إلى الذنوب السابقة، وأنه يستهجن ذلك ولا يرضاه بأي حال. وهنا ينبني إدراك جديد بقيمة الوضع الجديد الذي صار العبد إليه، وليس عزما كما هو متخيل بسوء الوضع الجديد وضرورة الكفاح لئلا يعود إلى الوضع السابق الذي كان عليه والذي نتخيل أنه أفضل بكثير من الوضع الجديد.
فالعكس هو الصحيح، إن الوضع الجديد في نظر التائب هو الأفضل ولن يستبدله بأي شيء آخر من الدنيا نظرا لقيمته الكبرى عنده.
إننا غالبا ما ننظر إلى التائب على أنه في وضع مزري، وأنه يحارب نفسه لئلا يعود إلى الشهوات المرغوبة جدا بينما العكس هو الصحيح.
إننا غالبا ما ننظر إلى الإيمان والتائب على أنه في وضع مزري ، وأنه يحارب نفسه لئلا يعود إلى الشهوات المرغوبة جدا. والعكس هو الصحيح . إن النزوات والشهوات تصبح في الموقع الجديد مستهجنة جدا، بل قد تثير الشفقة حين رؤيتها لدى الآخرين، فيستغفر المؤمن لمرتكبها استغفارا حقيقيا.
إن العزم إذن هو عزم نحو المستقبل وضرورة الكفاح للوصول إلى الموقع الجديد ، وهو يضاف إلى الندم ليشكل الحلقة المهمة في إعطاء الدفع للسلوك الإنساني، فالندم يعطي للمؤمن صورة حقيرة عن نفسه، لا يجب أن يكررها، بينما يعطيه العزم الصورة المثلى لنفسه والتي يجب أن يصل إليها.
المرحلة الرابعة أداء الحقوق:
وهذه حالة متعلقة بمحاولة إعطاء النفس والشخصية صورتها المختلفة لدى الآخرين، وأن الإنسان فعلا يرغب في هذه الصورة ، فلا تبقى بينه وبين نفسه فقط، بل يجب أن ينشر هذا المفهوم لدى الآخرين ليعرفوا أن الشخص فعلا تغير، فيساهم في تغيير الآخرين، وهذه الميزة نجدها في الإسلام كثيرا، إذ يحث الإسلام على الجهر بالمعروف، لئلا يبقى في الخفاء، حييا ومنزويا، بل لأنه الحقيقة والخير وكل شيء فيجب أن يكون معلنا، وهذا ما نراه في إعلان الزواج والصدقة مثلا، لأنهما الفعل الطبيعي الذي يستحق أن يشهر بين الناس، وليس كالشر الذي يبقى مهما أراد الإنسان إظهاره منزويا ومختفيا في الظلام .
إن هذه المراحل الأربع، ضرورية في إعادة فهمنا للتوبة ومدلولها النفسي، إذ أن التوبة هي حالة نفسية جديدة على المؤمن ينتقل فيها من وضع إلى وضع وليست حالة يعود فيها إلى نفس الوضع الذي هو عليه المجتمع والثقافة، وفرق كبير بين مفهومنا للتوبة الذي يتأسس على مجاراة المجتمع وأعرافه وبين مفهومها التصاعدي والفعال والقريب من الله.
*الشهاب للإعلام
بقلم/ عمر مناصرية
لماذا نتوب ؟ وما هي العوامل التي تؤدي إلى التوبة؟ ما هي مختلف العمليات النفسية التي تصاحب التوبة؟ وما أثر ذلك على الجوانب المختلفة للشخصية التائبة؟
إنها بعض الأسئلة التي لا نسألها كثيرا حول مفهوم كبير مثل التوبة، بل نرى التوبة مجردة عودة إلى خط مستقيم تتم بطريقة غامضة ، فإذا الإنسان إنسان آخر غير الذي نعرفه، والعبد صورة أخرى.
غير أننا إذ نريد أن نستثمر هذا المفهوم في إعادة الناس إلى جادة الصواب والحق، فيجب أن يدرس دراسة نفسية ومعرفية واجتماعية عميقة، ويبحث بحثا طويلا، لاستكناه مختلف الجوانب التي يضمها مفهوم التوبة، ولا أدعي هنا أنني سأقوم بكل هذا أو بعض منه، إنما الغرض هو فتح باب على موضوع أهمل كثيرا، وانسحبت إليه أفكار الماضي ، فلم تدعه إلا موضوعا منتهي الصلاحية.
مفاهيم خاطئة حول التوبة:
تقترن التوبة بمفاهيم خاطئة في كثير من الأحيان، إذ تقترن بشهر بعينه كرمضان أو بأيام كالحج، ثم العبد يعود بعد ذلك إلى ذنوبه مسرعا، ليحمل منها ما شاء له أن يحمل، بعد عبادات وصدقات وأعمال كثيرة جليلة كان الأحرى أن تترك أثارها في النفس.
كثيرا ما نتصور التوبة فعلا ساكنا يعود المسلم من خلاله إلى الصلاة والصيام ، ثم يضل على ذلك الحال لا يتبدل ولا يتغير.
وقد تقترن التوبة بفترة أو حال من الأحوال، أو بتحول بكامله يصاحب الابتعاد كليا عن المجتمع وتفاعلاته، فيصير جزءا آخر مختلف، فيغيب فعل التوبة الحقيقي، ويصير انتفاضا سلبيا على وضع متدهور لا يزال.
كما نجد أيضا مفاهيم خاطئة حول التوبة، إذ نتصور التوبة فعلا ساكنا يعود المسلم من خلاله إلى الصلاة والصيام ، ثم يضل على ذلك الحال لا يتبدل ولا يتغير، بينما التوبة في الحقيقة ارتقاء دائم وفعل إيجابي يتغير باستمرار.
والحقيقة أن هذه كلها ليست بتوبة، إنما هي عادات يجب أن تحارب، وأفكار خاطئة يجب أن تصحح، نتجت عن وضع المجتمع نفسه، فاستقت خصائصها من سكونه وثقافته التي لم تبرح مكانها، ذلك أن للمجتمع والثقافة سطوة كبيرة على الأفكار والتأسيس لها، حتى المفاهيم الدينية التي غالبا ما نراها أو نتوقعها مختلفة تماما.
ومعظم مفاهيمنا التي كوناها عن الدين وأركانه أو عباداته، إنما نتجت عن التأثيرات الثقافية التي طبع عليها السكون والجمود، فانتهت هي أيضا إلى نفس الجمود، وقد يغلب عليها طابع الشعوذة ولذا فمن أحوج ما نحتاج إليه هو نفض الغبار عنها، وتمثلها من جديد.
المدلول النفسي للتوبة:
التوبة هي إدراك داخلي في النفس، وليس خارجيا تمليه ظروف معينة أو مناسبات معينة، كما في رمضان أو غيره.
إن أول المدلولات النفسية للتوبة، هي أنها إدراك داخلي في النفس ، وليس خارجيا تمليه ظروف معينة أو مناسبات معينة، كما في رمضان أو غيره، وهذا الإدراك ينم عن شخصية قادرة على وضع حدود بينها وبين الموضوع ، سواء كان اجتماعيا أو ثقافيا أو حتى دينيا، ويؤدي هذا الإدراك الجديد، إلى الوصول إلى موقع أعلى في درجات البحث عن الله والقرب إليه.
وينعكس ذلك أول ما ينعكس على الجوانب الوجدانية للنفس، فتصبح السيئات والمحرمات مكروهة لذاتها وليس لأي شيء آخر، فنحن عادة ما نكره الشيء بحسب ألفتنا لكره المجتمع والآخرين له. إذ تحدد الأعراف القيم والاتجاهات بصورة كبيرة، وهذا بسبب العادات المتوارثة والثقافة السائدة، وهذا ما يدخل منه بعض العلمانيين حين يقررون أن المحرم هو المحرم في العرف الاجتماعي، والقرآن يحرمه تبعا لذلك، فإذا القرآن وفق هذا المفهوم شيء نسبي والثقافة هي المطلق، وهذا خطأ فادح، إذ تتمكن الشخصية التائبة من إدراك كراهية المحرم بمعزل عن أي تأثير آخر، فالمحرم محرم لذاته، وليس لسبب آخر.
ثم إن الإدراك الجديد الذي حصلت عليه شخصية التائب، يؤدي إلى الندم، وهي حالة وجدانية أيضا تضع النفس في مواجهة صورتها التي صارت عليها في مقابل صورتها السابقة والدنيا، حين لم تكن مدركة للوضع الجديد. وهذه الحالة تقابل ما يعرف بالجهل في مقابل العلم. فالارتقاء الجديد للنفس، مكنها من معرفة أحوال جديدة، كانت جاهلة بها، ولذا يقول الله: ((إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) النساء إن شخصية المؤمن شخصية ممحصة وناقدة، وتبحث في التصرفات ومدى توافقها مع ما أمر الله به، فتتوب من قريب بعد حصولها على الإدراك، ولا تتماطل بعده، كما أنها ليست شخصية غافلة إلى حين يباغتها الموت، فتدرك خطأها في لحظة موتها فتريد التوبة ، أو تموت كما يموت الكفار غير مدركين لأي حقيقة.
إن الارتقاء إلى الله يؤدي إلى وضع أطر ومعايير واسعة في كل مرة للتصرف الإنساني يتيح وضع كل تصرف في موازنة مع مبادئ الخلق التي وضعها الله، وهذا الارتقاء الجديد، يؤدي معنى السعي الحثيث لمقاربة السلوك الإنساني في كل مرة للوصول إلى الطهارة والتناغم بشكل كامل مع أهداف الله الأزلية من الخلق. أما الحالة السابقة التي كان عليها المؤمن فهي الجهالة التي تقتضي عدم معرفة حق الله على ا لنفس.
كما يمكن الفهم من الآية السابقة أيضا أن المؤمن حين يرتكب سيئة، فإنما يفعل ذلك حين ارتداده عن المرتبة التي كان عليها من الله، ولذا فهو يرتكب السيئات والخطايا. ويقتضي ذلك منه للعودة إلى نفس المرتبة أو أعلى منها أن يتوب من قريب ويصحح خطأه ووضعه.
ويمكن فهم ذلك أيضا من أن الإنسان في وضعه البدائي إنما يكون غير مدرك لأي وضع أو مرتبة عند الله، فلا يرى نفسه إلا من خلال مرآة يصنعها بنفسه، فيذنب ولا يتوب إلا من بعيد، بل قد يوغل في ذنوبه ومعاصيه، ولكنه حين القرب من الله، فإن التوبة تصبح عملا دائما، كما نجد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يتوب في اليوم أكثر من سبعين مرة، أو مائة مرة كما في بعض الأحاديث. ونحن نفهم ذلك كتوبة عادية من الذنوب، غير أن الحقيقة والله أعلم هو أن الرسول بسبب قربه الشديد من الله، يصبح وضعه متطلبا لعملية التوبة والتطهر بصورة دائمة، فهو يتلقى وحيه منه، و لذا فإن توبة الرسول تتطلبها مكانته عند الله.
وكذلك نجد المؤمنين وأحوالهم التي تتطلب منهم السرعة والتجاوز والتوبة: ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) آل عمران
حيث وصف المؤمنون على هذا النحو من محاولة التقرب أكثر والمسارعة وعدم الركون إلى الماديات أو السلبيات النفسية والتوبة من قريب، إذ تتطلب منهم علاقتهم القريبة من الله الحث والسرعة في التقرب وعدم التفريط في هذه العلاقة. فكلما كانت المرتبة قريبة، كان الوضع جللا، والتوبة مطلوبة، لأن الإنسان في ذلك الوضع يكتشف أخطاء كثيرة وأوضاعا لنفسه لم يكن يعلم بها، فكأن أبوابا من التعديلات والتصحيحات والتقريبات تنفتح أمامه بسرعة، ليرى نفسه من جديد، إنسانا آخر تماما، وكائنا مختلفا حتى من الناحية البيولوجية والجسمية.
وفي صنف أدنى نجد الناس العاديين، أمثالنا نحن عافانا الله من هذا الوضع، إذ لا نتذكر أي ذنب إلى لمما. بسبب أن التذكر المذكور في الآية السابقة تمليه عملية الإحساس بالقرب أما النسيان فيمليه البعد.
مراحل التوبة:
لقد ذكر العلماء الأجلاء الأولون مراحل للتوبة وجعلوها أربعا ، ويدل هذا على وعيهم بالبعد النفسي لعملية التوبة، ولقد أخطأنا إذ لم نبحث في هذه المراحل ولم ندرسها دراسة كافية، فترى الإمام في المسجد يقررها كما هي، لا يضيف لها شيئا من عنده، فبقيت كما كانت من قرون .
المرحلة الأولى الندم:
الندم هي حالة وجدانية متعلقة بالماضي، وهو نفس المعنى الذي رأيناه سابقا، من أن العبد يصبح في وضع نفسي وإدراكي مختلف لموقعه السابق، ولوضعه الذي كان عليه، ثم هو يدرك وضعا جديدا يصل إليه، وهذا قد تكون له أسباب عديدة، منها تطور العبد النفسي والعقلي والمعرفي نتيجة للوعي الذي تساهم فيه عوامل كثيرة، وقد يكون استعدادا فطريا في النفس تصل إليه بعد مدة من نشدان الكمال. ولأن العبد يدرك هذه الحقيقة، نتيجة المقارنة التي يحدثها بين وضعه السابق ووضعه الجديد، فإنه يستخلص مجموعة من الأحكام التي يحدد من خلالها صورة أخرى لنفسه وسيعمل على الوصول إليها.
والمهم أن هذا الإدراك الجديد، إنما يكون في مقابل وضع الإنسان مع الله، أي العلاقة الإنسان- الله، فلم يعد العبد المؤمن يحدد وضعه في علاقته بغيره من الناس، ولا بأحكام أو معايير أخرى، كما يحدث مثلا مع العديد من التقنيات الجديدة في تطوير النفس كالبرمجة العصبية، إنما يحدد المؤمن نفسه في وضعه مع الله، وهذا الإدراك هو إدراك عال جدا، يتيح له وضع أطر ومعايير جديدة يجدها لديه في داخله قبل أن يقتنصها من القرآن أو السنة، كالإخلاص والصدق ومحاولة التقارب مع جميع المبادئ الإسلامية التي جاءت في القرآن أو السنة.
المرحلة الثانية الترك:
وهي الإرادة المتعلقة بالحاضر والتي ينبني عليها الفعل الجديد وعدم العودة إلي الأفعال القديمة، وهي الهجرة التي يقوم بها العبد من المنكر إلى المعروف، ومن السيئة إلى الحسنة ومن الخطأ إلى الصواب، إنه الانتقال من الوضع السابق الدنيء إلى الوضع اللاحق المرجو، إن العبد هنا يدرك ما هو مطلوب منه، ويسعى إلى ذلك سعيا، بهجر ما كان عليه ، إلى ما يريد أن يكون عليه، وهي عملية إنسانية قد تكون في ظاهرها بسيطة، إلا أن كل التاريخ الإنساني تقريبا قام عليها ومارسها.
والعبد يمارسها على صعيد الانتقال والإرادة فيه، نحو ما ينشده. لقد حدد هدفه، ورآه وهو يريد أن يصل إليه، وبمعنى آخر، فإن العبد رأى موقعا قريبا من الله، فأراد السير إليه، ولذا عليه أن يتطهر.
وهنا معنى آخر، وهو أن الندم يغذي الفعل الصحيح ويقومه، فهو مصدر قوته، بالإضافة إلى مصدر آخر هو العزم.
المرحلة الثالثة العزم:
وهي الإرادة المتعلقة بالمستقبل، حيث يعزم العبد على عدم العودة إلى الذنوب السابقة، وأنه يستهجن ذلك ولا يرضاه بأي حال. وهنا ينبني إدراك جديد بقيمة الوضع الجديد الذي صار العبد إليه، وليس عزما كما هو متخيل بسوء الوضع الجديد وضرورة الكفاح لئلا يعود إلى الوضع السابق الذي كان عليه والذي نتخيل أنه أفضل بكثير من الوضع الجديد.
فالعكس هو الصحيح، إن الوضع الجديد في نظر التائب هو الأفضل ولن يستبدله بأي شيء آخر من الدنيا نظرا لقيمته الكبرى عنده.
إننا غالبا ما ننظر إلى التائب على أنه في وضع مزري، وأنه يحارب نفسه لئلا يعود إلى الشهوات المرغوبة جدا بينما العكس هو الصحيح.
إننا غالبا ما ننظر إلى الإيمان والتائب على أنه في وضع مزري ، وأنه يحارب نفسه لئلا يعود إلى الشهوات المرغوبة جدا. والعكس هو الصحيح . إن النزوات والشهوات تصبح في الموقع الجديد مستهجنة جدا، بل قد تثير الشفقة حين رؤيتها لدى الآخرين، فيستغفر المؤمن لمرتكبها استغفارا حقيقيا.
إن العزم إذن هو عزم نحو المستقبل وضرورة الكفاح للوصول إلى الموقع الجديد ، وهو يضاف إلى الندم ليشكل الحلقة المهمة في إعطاء الدفع للسلوك الإنساني، فالندم يعطي للمؤمن صورة حقيرة عن نفسه، لا يجب أن يكررها، بينما يعطيه العزم الصورة المثلى لنفسه والتي يجب أن يصل إليها.
المرحلة الرابعة أداء الحقوق:
وهذه حالة متعلقة بمحاولة إعطاء النفس والشخصية صورتها المختلفة لدى الآخرين، وأن الإنسان فعلا يرغب في هذه الصورة ، فلا تبقى بينه وبين نفسه فقط، بل يجب أن ينشر هذا المفهوم لدى الآخرين ليعرفوا أن الشخص فعلا تغير، فيساهم في تغيير الآخرين، وهذه الميزة نجدها في الإسلام كثيرا، إذ يحث الإسلام على الجهر بالمعروف، لئلا يبقى في الخفاء، حييا ومنزويا، بل لأنه الحقيقة والخير وكل شيء فيجب أن يكون معلنا، وهذا ما نراه في إعلان الزواج والصدقة مثلا، لأنهما الفعل الطبيعي الذي يستحق أن يشهر بين الناس، وليس كالشر الذي يبقى مهما أراد الإنسان إظهاره منزويا ومختفيا في الظلام .
إن هذه المراحل الأربع، ضرورية في إعادة فهمنا للتوبة ومدلولها النفسي، إذ أن التوبة هي حالة نفسية جديدة على المؤمن ينتقل فيها من وضع إلى وضع وليست حالة يعود فيها إلى نفس الوضع الذي هو عليه المجتمع والثقافة، وفرق كبير بين مفهومنا للتوبة الذي يتأسس على مجاراة المجتمع وأعرافه وبين مفهومها التصاعدي والفعال والقريب من الله.
*الشهاب للإعلام