التربية الذاتية ومسؤولية هم الأمّة
عبد العزيز بن عبد الله الحسيني
واقع أمتنا مرير، وأمرها عظيم، وخطبها جسيم، ومسؤوليتنا إزاء ذلك ضخمة، وأعباء إخراجها من وهدتها التي اركتست فيها جسيمة، و يخطئ كثيراً من يظن أن تلك مسؤولية الحكام، أو العلماء، أو الدعاة، أو المجامع العلمية، أو الهيئات الشرعية...، ونحو ذلك فحسب. والحقيقة التي يجب أن نقف عندها طويلاً: أن كل مسلم مسؤول ـ أيضاً ـ أمام الله ـ تعالى ـ، وهذا هو قَدَرُه، وليس له خيار في قبول ذلك أو رفضه، قال ـ تعالى ـ: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]. وقال: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْـجَزَاءَ الأَوْفَى * وَأَنَّ إلَى رَبِّكَ الْـمُنتَهَى} [النجم: 38 - 42]، فكل إنسان وُلد فرداً، وكُلف فرداً، وسيُقبر فرداً، ثم يبعث فرداً، وسيقف بين يدي الله ـ تعالى ـ فرداً ليس بينه وبين الله ترجمان، وسيُسأل كل فرد: ماذا عمل، وماذا قدم؟ قال ـ تعالى ـ: {إن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93 - 95].
هذه المسؤولية تفرض على كل فرد أن يبادر إلى الدعوة والعمل ـ كلٌ في مجاله ـ دون الالتفات إلى الآخرين، هل عملوا أم لم يعملوا؟ هل أدّوا واجبهم أم تراخـوا؟ هـل قاموا بالأمانة أم تكاسلوا؟
فكـل هـذا لا يضـير الداعـية ما دام أنه مسؤول عن ماذا قـدم فـقـط؟ وماذا عمل فحسب؟ ومن رحمة الله أنه ـ سبحانه ـ لم يُكـلف الداعـية بالثـمرات والنتائج، وإنمّا بالاحتساب والعـمل علـى قـدر الوسـع والاسـتطـاعـة، قال ـ تعالى ـ: {فَإنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إنْ عَلَيْكَ إلاَّ الْبَلاغُ} [الشورى: 48]، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [البقرة: 272].
وحينما نتحدث عن واجب الفرد في تجاوز الهزيمة والنـهوض بالأمـة؛ فإننا لا نقصد أن يعمل فوق طاقته وإمكاناته؛ وإنما المقصود: الإسهام حسب الوسع والاستطاعة؛ فما لا يُدرَك كلُّه لا يُترَكُ جُلُّه، وإذا كان ذلك يحتاج إلى جهود جبارة، وهمم عالية؛ فإنه يحتاج قبل ذلك إلى إعداد النفس وتهيئتها لهذه المهمة العظيمة.
الإعداد الذاتي:
التربية الذاتية (الفردية) ليست هينة ولا هي سهلة، فهي تحتاج إلى الصبر على شوائب الطريق وفقد الرفيق، والمثابرة على إعداد النفس، والسير على ذلك بخطىً ثابتة متدرجة متكاملة، حتى يصبح للشخص في مستقبله شأن أي شأن، ويكون له في هداية غيره نصيب أي نصيب.
ولا منهـج في تـربية النـفس وإعـدادها مـثل منـهج المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ فسيرته أصل من أصول التربية الذاتية التي ينبغي الرجوع إليها، واستلهام الدروس والعبر منها لإعداد النفس وتربيتها تربية ذاتية جادّة، مبنية على أسس شرعية متوازنة، بعيداً عن الاجتهاد الممزوج بالعواطف والحماس في الإعداد والتكوين.
وإن المتأمل للسيرة النبوية، يجد أن الله ـ تعالى ـ قد أعدّ رسوله وهيأه منذ بزوغ فجر الدعوة وبداياتها الأولى، لتكون الأساس والمنطلق له، ولمن آمن معه، ولمن بعده إلى قيام الساعة.
أسس التربية الذاتية:
وليتبـين لك أهـمية دراسـة السـيرة واسـتلهام المنهج التربوي الذاتي منها؛ تأمل سيرته -صلى الله عليه وسلم- وكيف أعد الله ـ تعالى ـ رسوله لحمل راية هذا الدين، من خلال الآيات الأولى التي أُنزلت عليه في صدر سُوَرِ (اقرأ ـ المزمل ـ المدثر)؛ لتقف على أهمية هذه الآيات في الإعداد والتهيئة والتكوين، وأنها بمثابة الأساس المتـين الذي يـقـوم عـليه البـناء الفـردي لكـل مسلم يريد تكـوين نفـسه وإعدادها لحمل راية هذا الدين، والعمل على رفع ثقـة الأمـة بنفـسها وبدينها، لرفع آثار الهزيمة النفسية التي أحبطت معنوياتها، وجعلتها تعيش على هامش العالم وفي ذيل القائمة، وإن من أهم هذه الأسس في إعداد النفس وتكوينها ما يأتي:
الأساس الأول: الإعداد العلمي:
يذكر البخاري ـ رحمه الله ـ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حينما كان يخلوا بغار حراء «جاءه جبريل، فقال: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني، فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق: 1 - 3](1).
وتأمل أول كلمة أُنزلت على الرسول -صلى الله عليه وسلم- تجد أنها كلمة «اقرأ»! ثم انظر كيف تكررت تلك الكلمة، وتساءل: لماذا كانت كلمة (اقرأ) أول كلمة أُنزلت من القرآن الكريم؟ ولماذا التربية على العلم أولاً؟ ولماذا هي المحطة الأولى في إعداده وتكونيه -صلى الله عليه وسلم-؟
وفي هذا مغزى كبير ودلالة واضحة على أهمية العلم وأثره، وأنه الأساس الذي يُبنى عليه كل إصلاح: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19] ، فالعلم أولاً ثم يأتي العمل بعد ذلك. ولهذا فقد وضع الإمام البخاري عنواناً لباب العلم فقال: «باب العلم قبل القول والعمل»(2)، وهذا من تمام فقهه رحمه الله.
وعليه؛ فإن كل عمل وكل دعوة لا تقوم على العلم دعوة ناقصة فيها من الخلل والقصور الشيء الكثير، وقد تُفِسدُ أكثر ممّا تُصلِح، وقد تجلب على الدعوة عواقب وخيمة وآثار موجعة. ولهذا فقد أكَّد -صلى الله عليه وسلم- على أهمية العلم وأثره في صحة العمل فقال: «من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين»(3).
والفقه في الدين يتطلب نفساً جادة طموحة، تتحمل مشاق تعلمه، ومعاناة طلبه، وتعب تحصيله. وهو مطلب ضروري ومُلِحٌّ للبناء الذاتي للشاب المسلم.
والتحصيل العلمي مطلب لا غنى عنه لأي داعية يُعِدُّ نفسه ويُهيئها لنفع أمته؛ ليكون بصيراً في دعوته، عالماً بما يدعو إليه، قوياً في حجته، مثمراً في عمله، ناجحاً في أسلوبه، ثابتاً في مسيرته...، ولهذا يقول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «تفقهوا قبل أن تسودوا»(4).
وإذ كان ثمة قدر من العلم الشرعي لا غنى عنه لمن يتصدى لأمر الدعوة، فإن كل علم بعد ذلك يمكن أن ينفع هذه الأمة ويعلي شأنها هي بأشد الحاجة إليه، وإذا كانت أمتنا بحاجة إلى العلم الشرعي، فإنها بحاجة ـ أيضاً ـ إلى العالِم في الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء والفلك والذرّة وغيرها...، وتلك العلوم وأمثالها ضرورة لا غنى عنها لنهضة الأمة وتقدمها، والكل على ثغر من ثغور الإسلام بحسب مكانه وأثره.
الأساس الثاني: الاستعانة على عقبات الطريق بالعبادة:
الاستقامة على هذا الدين بلا تردد ولا انحراف، والصبر على عقباته وتكاليفه يحتاج إلى زاد ووقود يشحن الطاقات ويغذي القلوب للاستمرار والثبات، ولا وقود كقيام الليل وترتيل القرآن بالأسحار.
ولهـذا فـقد هيأ الله ـ تعالى ـ رسوله -صلى الله عليه وسلم- لذلك، وأوجب عليه ومـن آمـن معه قيام اللـيل وقـراءة القـرآن بالأسـحـار، فقال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الْـمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 1 - 5].
وتأمل! الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بداية دعوته، ويأتيه الأمر السماوي: {قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً} أي: «قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك... قم للجهد والنصب والكد والتعب... قم فقد مضى وقت النوم والراحة... قم فتهيأ لهذا الأمر... قم للاستعانة على ما سيواجهك من أعباء الدعوة ومشكلاتها بالعبادة المتواصلة.
وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه -صلى الله عليه وسلم- من دفء الفراش، في البيت الهادئ والحضن الدافئ لتدفع به في الخِضَمِّ بين الزعازع والأنواء، بين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.
إن الذي يعـيش لنـفسه قـد يعـيـش مـستريحـاً؛ ولكنه يعيش صـغيراً ويمـوت صغيراً، فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبـير... فماله والنوم؟ وما له والراحة؟ وما له والفراش الـدافـئ، والعـيـش الهــادئ، والمتـاع المريـح؟! ولقد عرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حقيقة الأمر، وقدّره حق قدره؛ فقال لخديجة ـ رضي الله عنها ـ وهي تدعوه أن يطمئن وينام: «مضى عهد الـنوم يـا خديجة». أجل مضى عهد النوم، وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق»(1).
ومنذ أن أتاه التكليف بـ: {قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً} ظلَّ قائماً هو وأصحابه الكرام حولاً كاملاً، كل فرد منهم كان يقوم حتى تتورم قدماه، ويحدودب ظهره، وكان واجباً عليهم في البداية، حتى خُفف عنهم إلى التطوع ـ كما في نهاية السورة ـ ومع ذلك استمر قيامهم، ولم نسمع أو نقرأ أن أياً منهم قد توقف عن هذا الإعداد والزاد، لعلمهم ويقينهم بأثره وقيمته في مواصلة الطريق، وفي تحمل المصاع والمشاق بكل ثبات وعزيمة.
ولماذا قيام معظم الليل بالصلاة والتهجد؟ ولماذا كان واجباً على كل فرد بعينه في البداية؟ ولماذا الإكثار من ترتيل القرآن؟ ولماذا الذكر الخاشع؟ ولأي شيء يُعدّهم له؟ ولأي شيء يُربيهم عليه؟ كل هذا تهيئة وتربية وإعداد للقول الثقيل: {إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5]، وسيترتب عليه من الدعوة إليه من العقبات والمشكلات والكيد والتنكيل والإيذاء ما يحتاج إلى هذا الإعداد وهذه التربية وهذا الزاد: {وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].
الأساس الثالث: المثابرة في الدعوة:
هـذا الإعـداد بالعبـادة المتـواصـلة مـن (الذكر وقراءة القرآن وقيام الليل) كان بمثابة الزاد والوقود الـمُعين للاستمرار على الطريق، وتَحَمُّل الكيد والإيذاء الذي ينتظر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن آمن معه. ولهذا فقد كُلف -صلى الله عليه وسلم- أثناء هذا الإعداد بالنبوة. يقول -صلى الله عليه وسلم-: «بينا أنا أمشي، إذ سمعت صوتاً من الـسماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني. فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْـمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 10](2).
ولما رأت زوجه خديجة ـ رضي الله عنها ـ فزع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخذته إلى ابن عمِّها (ورقة بن نوفل) الذي قال له: «هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك». فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَوَ مخرجيَّ هم؟!» قال: «نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي...»(3). وهذا من سنن الله الجارية في تمحيص الدعوة والدعاة، فكل من سيدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر سيتعرض لشيء من الإيـذاء والتضـييق، ولهـذا فقـد أوصى لقمان ابنه؛ فقال له: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17]، ولن يثبت على ذلك إلا من كان لديه زاد يعينه على تحمل عقبات الطريق ومشاقّه.
وقد شاء الله ـ تعالى ـ أن يكون هذا هو طبيعة الطريق، فهو طويل وشاق، مملوء بالأشواك والصعاب «تعِب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبِيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتزها أنت باللهو واللعب!»(4). فهذا الطريق لا تتحمله إلا نفوس الرجال، ولا تقوم به إلا همم الصادقين الأبطال.
وتأمل مطلع سورة المدثر، تلك الآيات التي تضمنت النداء العلوي بانتداب النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الأمر الجلل، وانتزاعه من النوم والتدثر والدفء إلى الدعوة والجهاد والكفاح والمشقة. ومنذ أن قال الله ـ تعالى ـ لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {قُمْ فَأَنذِرْ} قام بالأمر خير قيام، فبلّغ ودعا وأدّى الأمانة التي أشفقتْ منها وأبت أن تحملها السماوات والأرض، وحملها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وظل قائماً بعد ذلك لأكثر من عشرين عاماً... لم يسترح، ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله... قام وظل قائماً على دعوة الله، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به... عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض... عبء البشرية كلها... عبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى...، وعَلِمَ عِلْمَ يقين أنه لم يعد هناك راحة أو نوم، وأن هناك تكليفاً ثقيلاً وجهاداً طويلاً(5)، فدعا إلى الله ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، سلماً وحرباً، وكان يقطع المفاوز والقفار، ويتسلق الجبال، وينزل الوديان طمعاً في إسلام رجل أو بضعة رجال، وواجه في سبيل ذلك أنواع الإيذاء والصدود، والعناد والرفض، والإيذاء والضرب؛ بل والعذاب وقتل الأصحاب... فصبر واحتسب، ولم يفتر أو يلين، أو يضعف أو يستكين.
صفاء الابتداء:
تلك الأصول المهمة في التربية والإعداد الفردي تدل دلالة أكيدة على أهمية البدايات الأولى في الإعداد والتنشئة. ومن القواعدة المسلّم بها: أن المقدمات إذا صحت؛ أعقبها نتائج مثمرة باهرة.
فالتربية الذاتية الناجحة متعلقة في بداياتها، وإذا صحت تلك البدايات وروعيت أولوياتها؛ أعقبتها نتائج مشرقة. وكما قيل: من كانت بدايته متعبة كانت نهايتة مشرقة.
أما الإعداد الفوضوي الذي لا يلتزم بسلم الأولويات ولا يقوم على أسس ثابتة منهجية، فهو إعداد عاطفي هش، لا يحقق غاية ولا ينتج ثمراً، وسرعان ما يمل ويفتر صاحبه. ولهذا قيل: الفتور بعد المجاهدة من فساد الابتداء.
مجلة البيان، العدد (227) .
عبد العزيز بن عبد الله الحسيني
واقع أمتنا مرير، وأمرها عظيم، وخطبها جسيم، ومسؤوليتنا إزاء ذلك ضخمة، وأعباء إخراجها من وهدتها التي اركتست فيها جسيمة، و يخطئ كثيراً من يظن أن تلك مسؤولية الحكام، أو العلماء، أو الدعاة، أو المجامع العلمية، أو الهيئات الشرعية...، ونحو ذلك فحسب. والحقيقة التي يجب أن نقف عندها طويلاً: أن كل مسلم مسؤول ـ أيضاً ـ أمام الله ـ تعالى ـ، وهذا هو قَدَرُه، وليس له خيار في قبول ذلك أو رفضه، قال ـ تعالى ـ: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]. وقال: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْـجَزَاءَ الأَوْفَى * وَأَنَّ إلَى رَبِّكَ الْـمُنتَهَى} [النجم: 38 - 42]، فكل إنسان وُلد فرداً، وكُلف فرداً، وسيُقبر فرداً، ثم يبعث فرداً، وسيقف بين يدي الله ـ تعالى ـ فرداً ليس بينه وبين الله ترجمان، وسيُسأل كل فرد: ماذا عمل، وماذا قدم؟ قال ـ تعالى ـ: {إن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93 - 95].
هذه المسؤولية تفرض على كل فرد أن يبادر إلى الدعوة والعمل ـ كلٌ في مجاله ـ دون الالتفات إلى الآخرين، هل عملوا أم لم يعملوا؟ هل أدّوا واجبهم أم تراخـوا؟ هـل قاموا بالأمانة أم تكاسلوا؟
فكـل هـذا لا يضـير الداعـية ما دام أنه مسؤول عن ماذا قـدم فـقـط؟ وماذا عمل فحسب؟ ومن رحمة الله أنه ـ سبحانه ـ لم يُكـلف الداعـية بالثـمرات والنتائج، وإنمّا بالاحتساب والعـمل علـى قـدر الوسـع والاسـتطـاعـة، قال ـ تعالى ـ: {فَإنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إنْ عَلَيْكَ إلاَّ الْبَلاغُ} [الشورى: 48]، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [البقرة: 272].
وحينما نتحدث عن واجب الفرد في تجاوز الهزيمة والنـهوض بالأمـة؛ فإننا لا نقصد أن يعمل فوق طاقته وإمكاناته؛ وإنما المقصود: الإسهام حسب الوسع والاستطاعة؛ فما لا يُدرَك كلُّه لا يُترَكُ جُلُّه، وإذا كان ذلك يحتاج إلى جهود جبارة، وهمم عالية؛ فإنه يحتاج قبل ذلك إلى إعداد النفس وتهيئتها لهذه المهمة العظيمة.
الإعداد الذاتي:
التربية الذاتية (الفردية) ليست هينة ولا هي سهلة، فهي تحتاج إلى الصبر على شوائب الطريق وفقد الرفيق، والمثابرة على إعداد النفس، والسير على ذلك بخطىً ثابتة متدرجة متكاملة، حتى يصبح للشخص في مستقبله شأن أي شأن، ويكون له في هداية غيره نصيب أي نصيب.
ولا منهـج في تـربية النـفس وإعـدادها مـثل منـهج المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ فسيرته أصل من أصول التربية الذاتية التي ينبغي الرجوع إليها، واستلهام الدروس والعبر منها لإعداد النفس وتربيتها تربية ذاتية جادّة، مبنية على أسس شرعية متوازنة، بعيداً عن الاجتهاد الممزوج بالعواطف والحماس في الإعداد والتكوين.
وإن المتأمل للسيرة النبوية، يجد أن الله ـ تعالى ـ قد أعدّ رسوله وهيأه منذ بزوغ فجر الدعوة وبداياتها الأولى، لتكون الأساس والمنطلق له، ولمن آمن معه، ولمن بعده إلى قيام الساعة.
أسس التربية الذاتية:
وليتبـين لك أهـمية دراسـة السـيرة واسـتلهام المنهج التربوي الذاتي منها؛ تأمل سيرته -صلى الله عليه وسلم- وكيف أعد الله ـ تعالى ـ رسوله لحمل راية هذا الدين، من خلال الآيات الأولى التي أُنزلت عليه في صدر سُوَرِ (اقرأ ـ المزمل ـ المدثر)؛ لتقف على أهمية هذه الآيات في الإعداد والتهيئة والتكوين، وأنها بمثابة الأساس المتـين الذي يـقـوم عـليه البـناء الفـردي لكـل مسلم يريد تكـوين نفـسه وإعدادها لحمل راية هذا الدين، والعمل على رفع ثقـة الأمـة بنفـسها وبدينها، لرفع آثار الهزيمة النفسية التي أحبطت معنوياتها، وجعلتها تعيش على هامش العالم وفي ذيل القائمة، وإن من أهم هذه الأسس في إعداد النفس وتكوينها ما يأتي:
الأساس الأول: الإعداد العلمي:
يذكر البخاري ـ رحمه الله ـ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حينما كان يخلوا بغار حراء «جاءه جبريل، فقال: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني، فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق: 1 - 3](1).
وتأمل أول كلمة أُنزلت على الرسول -صلى الله عليه وسلم- تجد أنها كلمة «اقرأ»! ثم انظر كيف تكررت تلك الكلمة، وتساءل: لماذا كانت كلمة (اقرأ) أول كلمة أُنزلت من القرآن الكريم؟ ولماذا التربية على العلم أولاً؟ ولماذا هي المحطة الأولى في إعداده وتكونيه -صلى الله عليه وسلم-؟
وفي هذا مغزى كبير ودلالة واضحة على أهمية العلم وأثره، وأنه الأساس الذي يُبنى عليه كل إصلاح: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19] ، فالعلم أولاً ثم يأتي العمل بعد ذلك. ولهذا فقد وضع الإمام البخاري عنواناً لباب العلم فقال: «باب العلم قبل القول والعمل»(2)، وهذا من تمام فقهه رحمه الله.
وعليه؛ فإن كل عمل وكل دعوة لا تقوم على العلم دعوة ناقصة فيها من الخلل والقصور الشيء الكثير، وقد تُفِسدُ أكثر ممّا تُصلِح، وقد تجلب على الدعوة عواقب وخيمة وآثار موجعة. ولهذا فقد أكَّد -صلى الله عليه وسلم- على أهمية العلم وأثره في صحة العمل فقال: «من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين»(3).
والفقه في الدين يتطلب نفساً جادة طموحة، تتحمل مشاق تعلمه، ومعاناة طلبه، وتعب تحصيله. وهو مطلب ضروري ومُلِحٌّ للبناء الذاتي للشاب المسلم.
والتحصيل العلمي مطلب لا غنى عنه لأي داعية يُعِدُّ نفسه ويُهيئها لنفع أمته؛ ليكون بصيراً في دعوته، عالماً بما يدعو إليه، قوياً في حجته، مثمراً في عمله، ناجحاً في أسلوبه، ثابتاً في مسيرته...، ولهذا يقول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «تفقهوا قبل أن تسودوا»(4).
وإذ كان ثمة قدر من العلم الشرعي لا غنى عنه لمن يتصدى لأمر الدعوة، فإن كل علم بعد ذلك يمكن أن ينفع هذه الأمة ويعلي شأنها هي بأشد الحاجة إليه، وإذا كانت أمتنا بحاجة إلى العلم الشرعي، فإنها بحاجة ـ أيضاً ـ إلى العالِم في الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء والفلك والذرّة وغيرها...، وتلك العلوم وأمثالها ضرورة لا غنى عنها لنهضة الأمة وتقدمها، والكل على ثغر من ثغور الإسلام بحسب مكانه وأثره.
الأساس الثاني: الاستعانة على عقبات الطريق بالعبادة:
الاستقامة على هذا الدين بلا تردد ولا انحراف، والصبر على عقباته وتكاليفه يحتاج إلى زاد ووقود يشحن الطاقات ويغذي القلوب للاستمرار والثبات، ولا وقود كقيام الليل وترتيل القرآن بالأسحار.
ولهـذا فـقد هيأ الله ـ تعالى ـ رسوله -صلى الله عليه وسلم- لذلك، وأوجب عليه ومـن آمـن معه قيام اللـيل وقـراءة القـرآن بالأسـحـار، فقال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الْـمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 1 - 5].
وتأمل! الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بداية دعوته، ويأتيه الأمر السماوي: {قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً} أي: «قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك... قم للجهد والنصب والكد والتعب... قم فقد مضى وقت النوم والراحة... قم فتهيأ لهذا الأمر... قم للاستعانة على ما سيواجهك من أعباء الدعوة ومشكلاتها بالعبادة المتواصلة.
وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه -صلى الله عليه وسلم- من دفء الفراش، في البيت الهادئ والحضن الدافئ لتدفع به في الخِضَمِّ بين الزعازع والأنواء، بين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.
إن الذي يعـيش لنـفسه قـد يعـيـش مـستريحـاً؛ ولكنه يعيش صـغيراً ويمـوت صغيراً، فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبـير... فماله والنوم؟ وما له والراحة؟ وما له والفراش الـدافـئ، والعـيـش الهــادئ، والمتـاع المريـح؟! ولقد عرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حقيقة الأمر، وقدّره حق قدره؛ فقال لخديجة ـ رضي الله عنها ـ وهي تدعوه أن يطمئن وينام: «مضى عهد الـنوم يـا خديجة». أجل مضى عهد النوم، وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق»(1).
ومنذ أن أتاه التكليف بـ: {قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً} ظلَّ قائماً هو وأصحابه الكرام حولاً كاملاً، كل فرد منهم كان يقوم حتى تتورم قدماه، ويحدودب ظهره، وكان واجباً عليهم في البداية، حتى خُفف عنهم إلى التطوع ـ كما في نهاية السورة ـ ومع ذلك استمر قيامهم، ولم نسمع أو نقرأ أن أياً منهم قد توقف عن هذا الإعداد والزاد، لعلمهم ويقينهم بأثره وقيمته في مواصلة الطريق، وفي تحمل المصاع والمشاق بكل ثبات وعزيمة.
ولماذا قيام معظم الليل بالصلاة والتهجد؟ ولماذا كان واجباً على كل فرد بعينه في البداية؟ ولماذا الإكثار من ترتيل القرآن؟ ولماذا الذكر الخاشع؟ ولأي شيء يُعدّهم له؟ ولأي شيء يُربيهم عليه؟ كل هذا تهيئة وتربية وإعداد للقول الثقيل: {إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5]، وسيترتب عليه من الدعوة إليه من العقبات والمشكلات والكيد والتنكيل والإيذاء ما يحتاج إلى هذا الإعداد وهذه التربية وهذا الزاد: {وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].
الأساس الثالث: المثابرة في الدعوة:
هـذا الإعـداد بالعبـادة المتـواصـلة مـن (الذكر وقراءة القرآن وقيام الليل) كان بمثابة الزاد والوقود الـمُعين للاستمرار على الطريق، وتَحَمُّل الكيد والإيذاء الذي ينتظر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن آمن معه. ولهذا فقد كُلف -صلى الله عليه وسلم- أثناء هذا الإعداد بالنبوة. يقول -صلى الله عليه وسلم-: «بينا أنا أمشي، إذ سمعت صوتاً من الـسماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني. فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْـمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 10](2).
ولما رأت زوجه خديجة ـ رضي الله عنها ـ فزع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخذته إلى ابن عمِّها (ورقة بن نوفل) الذي قال له: «هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك». فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَوَ مخرجيَّ هم؟!» قال: «نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي...»(3). وهذا من سنن الله الجارية في تمحيص الدعوة والدعاة، فكل من سيدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر سيتعرض لشيء من الإيـذاء والتضـييق، ولهـذا فقـد أوصى لقمان ابنه؛ فقال له: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17]، ولن يثبت على ذلك إلا من كان لديه زاد يعينه على تحمل عقبات الطريق ومشاقّه.
وقد شاء الله ـ تعالى ـ أن يكون هذا هو طبيعة الطريق، فهو طويل وشاق، مملوء بالأشواك والصعاب «تعِب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبِيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتزها أنت باللهو واللعب!»(4). فهذا الطريق لا تتحمله إلا نفوس الرجال، ولا تقوم به إلا همم الصادقين الأبطال.
وتأمل مطلع سورة المدثر، تلك الآيات التي تضمنت النداء العلوي بانتداب النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا الأمر الجلل، وانتزاعه من النوم والتدثر والدفء إلى الدعوة والجهاد والكفاح والمشقة. ومنذ أن قال الله ـ تعالى ـ لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {قُمْ فَأَنذِرْ} قام بالأمر خير قيام، فبلّغ ودعا وأدّى الأمانة التي أشفقتْ منها وأبت أن تحملها السماوات والأرض، وحملها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وظل قائماً بعد ذلك لأكثر من عشرين عاماً... لم يسترح، ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله... قام وظل قائماً على دعوة الله، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به... عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض... عبء البشرية كلها... عبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى...، وعَلِمَ عِلْمَ يقين أنه لم يعد هناك راحة أو نوم، وأن هناك تكليفاً ثقيلاً وجهاداً طويلاً(5)، فدعا إلى الله ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، سلماً وحرباً، وكان يقطع المفاوز والقفار، ويتسلق الجبال، وينزل الوديان طمعاً في إسلام رجل أو بضعة رجال، وواجه في سبيل ذلك أنواع الإيذاء والصدود، والعناد والرفض، والإيذاء والضرب؛ بل والعذاب وقتل الأصحاب... فصبر واحتسب، ولم يفتر أو يلين، أو يضعف أو يستكين.
صفاء الابتداء:
تلك الأصول المهمة في التربية والإعداد الفردي تدل دلالة أكيدة على أهمية البدايات الأولى في الإعداد والتنشئة. ومن القواعدة المسلّم بها: أن المقدمات إذا صحت؛ أعقبها نتائج مثمرة باهرة.
فالتربية الذاتية الناجحة متعلقة في بداياتها، وإذا صحت تلك البدايات وروعيت أولوياتها؛ أعقبتها نتائج مشرقة. وكما قيل: من كانت بدايته متعبة كانت نهايتة مشرقة.
أما الإعداد الفوضوي الذي لا يلتزم بسلم الأولويات ولا يقوم على أسس ثابتة منهجية، فهو إعداد عاطفي هش، لا يحقق غاية ولا ينتج ثمراً، وسرعان ما يمل ويفتر صاحبه. ولهذا قيل: الفتور بعد المجاهدة من فساد الابتداء.
مجلة البيان، العدد (227) .