العقدة اليمنية..
ماضٍ لا يريد أن يذهب ومستقبل لا يريد أن يجيء!
نبيل البكيري
5/31/2009
لم يكاد يتعافي العقل السياسي اليمني من عقدته التاريخية المزعجة والتي عرفت بـ»العقدة اليزنية» والتي يُكنى بها عن سياسية استبدال المحتل بمحتل آخر أو الدخيل بالدخيل، التي ابتدعها الزعيم التاريخي والأسطوري سيف بن ذي يزن في إطار صراعه المرير مع الاستعمار الحبشي الأكسومي باستعانته بالفرس قبل الإسلام، حتى أصابت هذا العقل عقدة أخرى اليوم لم تبارحه منذ قرن من الزمان.
هذه العقدة التي تتجلى اليوم بحالة من الفوضى والتخلف والاستبداد والفشل، كشارة يعرف بها اليمنيون من دون الناس، ليتأتى لنا ويمكننا أن نطلق على هذه الحالة بـ»العقدة اليمنية» لاختصاصهم بها وملازمتها لهم، وكأنها قدر محتوم مضروب عليهم، لا يمكن الفكاك منها، ليضلوا وكأنهم خارج إطار العصر، في لحظة تسمر عندها الزمان البيلوجي، ومكان تشوهت بعض ملامحه بخجل.
ولعل أبلغ وصف لهذه الحالة الأشد تعقيدا تمثل في مقولة كانت حتى الآن هي الأقدر على التوصيف الدقيق لهذا الأزمة المتمثلة بالإخفاق والفشل الشامل والمستديم على امتداد عقود مضت وأخريات -لا سمح الله- قادمات، تلك المقولة التي أوردها أو ربما استشهد بها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في مقالة له «ما حدث ويحدث في اليمن» ضمن كتابه الشيق المقالات اليابانية. إذ يرى في أن هذه «المنطقة الحساسة استراتيجيا واقتصاديا -أي اليمن- تقف في حالة بين ماض لا يريد أن يذهب ومستقبل لا يريد أن يجيء، وبين الاثنين حاضر حافل بكل دواعي الشك الموروث والغضب الدموي، وتغيير تأخر كثيرا عن موعده وتأخر كثيرا جدا عن العصر» وهذه هي القصة باختصار للوضع في اليمن.
وهو الوضع الناتج ضرورة وحتما عن موروث تأريخي مجزأ، تمثل بحالة من الصراع الطائفي والسياسي الذي بدوره أنتج واقعا اجتماعيا وسياسيا هشاً وممزقاً عدا ذلك تعاني البلاد من معضلات ناشئة عن الموقع الجغرافي الأكثر أهمية وخطورة معاً مما جعل البلد مدعاة للاهتمام وتحت طائلة التهديد الدائم والتدخل المستمر من قبل القوى المحيطة به إقليميا ودوليا.
وفضلا عن تلك الإشكاليات الناجمة عن هذا الإرث التاريخي المجزأ بحسب الباحث الفرنسي فرنك مراميه ومعضلات الموقع المهم بحسب الكاتب والباحث غسان سلامة، هناك إشكاليات أخرى لا تقل خطراً وأثراً عن هاتين الإشكاليتين، متمثلة بالصيرورة السياسية لدى الحكام في تكرار أخطاء من سبقهم، عدا عن حالة الفراغ القيادي التام الذي تعاني منه الأمة اليمنية منذ زمن طويل، فيما عدا فترات بسيطة كان يملأ هذا الفراغ كما في حالة الرئيس إبراهيم الحمدي حديثا الذي قضى شهيدا في سبيل بناء دولة مدنية حديثة بعيدا عن عسكرة القبيلة وقبيلة العسكر.
إشكاليات فـي طريق بناء الدولة
إلا أن الملاحظ اليوم في الوضع اليمني المعقد وإشكالياته المستديمة التي تتجلى واضحا في عدد من العوائق المركزية التي تقف حجر عثرة أمام قيام دولة يمنية مدنية حديثة، تتناسب مع روح العصر وتقوم بوظيفتها الحقيقة في خدمة الوطن والمواطن تلك الوظيفة التي يناط القيام بها في عالم اليوم إلى دولة ذات نظام وقانون ساري علي جميع مواطنيها لا فرق بينهم ولا تمايز وهو المسار الذي كان قد قطع فيه شوطا كبيرا في ما كان يعرف بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
ويكمن إجمال هذه الإشكاليات التي أعاقت قيام دولة يمنية حديثة في إشكالية الانقسام الاجتماعي والمذهبي الذي يتغذي من خلال الفشل في تحقيق دولة وطنية للجميع ويأتي بعدها إشكالية فكرة التوريث للسلطة والحكم وهي الإشكالية القديمة الحديثة التي ظلت تلقي بظلالها على مسيرة التحديث في اليمن، وتأتي إشكالية غياب التوافق السياسي الوطني الذي تغذيه دائما فردية التسلط بالسلطة والاستبداد.
ويضاف إلى هذه الإشكاليات، إشكالية الصراع السياسي الملفع بالشرعية الدينية إي خلط المقدس بالمدنس «الدين بالسياسة» وهي لعبة قذرة استخدمت في اليمن كثيرا وتجلياتها في المشهد الراهن خطيرة ومؤثرة، ابتداء بالظاهرة الحوثية والقاعدة، ويلي هذه الإشكالية أيضا قضية غياب الاندماج الاجتماعي ومن ثم الوحدة التي بذرت وأسس لها صلح دعان بين الإمام يحيي والأتراك عام 1911م.
ومن الإشكاليات العويصة أمام قيام دولة حقيقية حتى اليوم، هو ما تمثل «بالصيرورة الخلدونية» في حكم اليمن وفق المفهوم العصبي القبلي الذي جر ويلات التخلف والفوضى والفشل على هذه الجمهورية، التي ما انفكت من ربق الاستبداد الإمامي الطائفي حتى حلت أسيرة التخلف والفوضى القبلية المناطقية السلالية.
وتأتي بعد ذلك حالة التبعية والاستلاب التي عانت منها الدولة اليمنية كتابع ذيلي ومسرح للصراع بين قوى الجوار الإقليمي التي كان لأحدها استراتيجية همجية «كوصية قيمه عندهم» تمثلت بالعمل على عرقلة أي مشروع وطني يمني لبناء دولة يمنية قوية ومؤثرة على الساحة وهو ما جعل اليمن تدفع ثمن هذا الاستلاب الكثير من التضحيات الجسيمة ابتداء بدماء أهريقت طوال عقد الستينات وانتهاء بحالة الفوضى والفشل والتبعية الذيلية اليوم.
إشكالية تداول السلطة
إشكالية التوريث هي الإشكالية اليمنية القديمة الحديثة التي عملت على إعاقة قيام أي دولة يمنية قوية على امتداد التاريخ السياسي لليمن وهي ما مثل انتكاسة كبرى لعدد من المشاريع السياسية التي بدأت بالمشروع الزيدي الهادوي عام 284م في صعدة والتي عملت على حصر هذا المذهب في إطار جغرافي ضيق بعد تبنيه ودعوته لمبدأ حصر الإمامة في البطنيين الهاشميين من أولاد فاطمة.
ومثلت إشكالية التوريث وسلاليته عند الهادويين قديما عائقا كبيرا أما تحقيق ما صبت إليه أمنياتهم وطموحاتهم السياسية بإقامة الخلافة الإسلامية الهادوية على غرار الخلافة العباسية والأموية وما ذلك إلا للخطأ الكبير الذي وقع فيه الإمام الهادي حينما حصر الإمامة السياسية والرياسة العليا للدولة في إطار أسري سلالي ضيق التي عبر عنها هادويا بالإمامة كأصل من أصول المذهب.
وإضافة إلى هذه الإشكالية فقد أضيف إليها إشكالية أخرى سارعت في إنهاء هذه الحكم الأسري بعد أكثر من عشرة قرون في حكم بعض اليمن بين مد وجزر من قبل هذه السلالة الهاشمية التي ينتمي جلها إلى الإمام الهادي يحيي بن الحسين الرسي.
وتمثلت هذه الإشكالية في مبدأ ولاية العهد وتوريث الإمامة المحرم في الزيدية للأبناء وهو الخطأ الذي وقع فيه الإمام يحيي بن محمد ووقع فيه بعده أبنه أحمد حينما عهد بولاية العهد إلى ابنه محمد البدر، وهو ما صرف من حوله الأقربين من الهاشميين كبيت شرف الدين وبيت الوزير الذين انقلبوا على أبيه الإمام يحيي في 1948م.
فإذا كان هذا في إطار مذهب ديني له اجتهاداته وتسويغاته الفقهية فهذا لا يمكن أن يسوغ أو يبرر وتحت يافطة نظام جمهوري، إذ تمثل قيام الجمهوريات التي هي بالأساس ضد مبدأ التوريث وتناقضه وما قامت إلا للقضاء على مبدأ التوريث من أساسه.
وإذا كان بعض مثقفي المذهب الزيدي قد بادروا في تسعينات القرن الماضي في جو التعددية والحزبية بعد قيام الوحدة إلى إسقاط مبدأ «الإمامة» في مذهبهم وأنها مجرد اجتهادي تأريخي لم يعد لها مبررها اليوم، فكيف يمكن فهم السعي لتوريث الجمهورية الذي لا شك تمثل حروب صعدة المستمرة إحدى تجليات هذه النية الساعية فيه إلى توريث الجمهورية كحق مكتسب ويورث، إذ يرى الحوثيون أنهم أولى بهذا الحق من غيرهم كإرث تأريخي يمتد حتى القرن الثالث الهجري.
عصبوية الدولة وقبيلتها
وتمثل هذه الإشكالية الخلدونية عقبة كبرى اليوم أمام قيام دولة حقيقية ذات سيادة وسطوة على التراب اليمني كله لما باتت تلعبه هذه القبيلة من دور يفوق دور الدولة ووظيفتها من خلال اختراقها للبنية الهيكلية للجيش والأمن فضلا عن النفوذ الذي استتبع هذا الاختراق الذي مد سطوة القبيلة إلى هذه المؤسسة الوطنية التي يفترض بها أن تكون للوطن كله لا حكراً لقبيلة بعينها.
ومما زاد من سطوة القبيلة وتمردها على الدولة وخروجها على النظام والقانون هو حالة المخاتلة وغض الطرف عن تصرفاتها كاستراتيجية لدى العقلية السياسية للحاكم الذي يرى أن ثبات حكمه ودوامه لن يتأتي إلا من خلال هذه الآلية العتيقة البالية التي قد عفى عليه الزمن في عصر الديمقراطية والحزبية والمجتمع المدني والحرية وحقوق الإنسان التي تتصادم تماما مع ثقافة القبيلة البدوية.
ومن هنا تتأتي حالة الانفلات الأمني والضعف المزمن لأذرع الدولة الأمنية والقانونية في خارج إطار المراكز الرئيسية للمدن والمحافظات وكذا الغياب التام للدولة في أماكن تواج القبيلة ونفوذها حيث لا زالت أعراف القبيلة هي القانون السائد.
ظاهرة غياب الدولة في العقل القبلي وتكريس مفهوم ثقافة القوة ليس من صنيع القبيلة بل هو بفعل غياب هذه الدولة وتشجيعها لمثل هذه الثقافة الفوضوية واستثمارها في تكريس نفوذها وولاءاتها من خلال خلق حالة صراع دائم بين وجهاء القبائل حول الزعامة التي يجيد النظام لعبها في كسب هذا الطرف وضرب الطرف الآخر.
هيمنة القبيلة اليوم على الدولة هي نتيجة طبيعية لهذه الاستراتيجية الغبية من قبل الدولة التي تتخذها وسيلة لإدامة ملكها وسلطانها طريقة كهذه بدائية لا تمت إلى السياسة بحال بل لا تخرج عن كونها وسيلة أسرع للتقريب بأجل الدولة وزوالها في حالة خلل طفيف في أي من طرفي هذه المعادلة «القبيلة والسلطة» والتي تنتهي بانتهاء المصالح المشترك بينهما.
الخلل الاجتماعي وغياب المواطنة
الانقسام الاجتماعي ومن ثم غياب الاندماج المجتمعي والوحدة هي نتيجة طبيعية لحالة غياب الدولة قانونا ونظاما ومن ثم غياب المواطنة المتساوية التي تتأتى من خلال وجود دولة حقيقية بنظام وقانون وسلطة ضبطية حازمة.
هذا الانقسام الاجتماعي هو الآخر ليس وليد اليوم بقدر ما هو وليد تأريخ مجزأ ومحتقن وطافح بالخرافات ودعوات التمايز السلالي والقبلي وإن تراجع الأول مع قيام جمهورية 1962م ولكن ظهر الثاني بديلا عنه في إدعاء الأفضلية العرقية لهذا المكون الجديد المتمثل بالقبيلة التي حلت سلطة شيوخها محل سلطة الأئمة.
هذا الإرث التاريخي المجزأ لعب دورا لا شعوري لدي النخبة الحاكمة اليوم التي سعت إلى إهمال وتغييب وتحقير مفهوم المواطنة المتساوية التي تعد دعوة وطنية فضلا عن إسلاميتها الخالصة لكنها غابت، وساهم النظام الحالي في تكريس تغييبها تماما من خلال السياسية التي يتبعها في تعامله من مواطني بعض المناطق المحرومون من أدنى الحقوق أقلها حرمانهم من الالتحاق بالكليات العسكرية والوظائف المهمة في الدولة.
تكريس نظرة الدونية لأبناء منطقة على حساب أخرى هي نظرية سياسية فاشلة وبليدة تعمل على إيقاظ الوعي بين الناس بأهمية المطالبة بحقوقهم وتمثيل هوياتهم وحمايتها، فضلا عن السعي الحثيث إلى بلورتها بإرادة وإصرار لا يلين.
إدارة المجتمع بإبراز تناقضاته لم تعد اليوم ذات جدوى في إطار الوعي العام المتنامي بأساليب النظام وأدواته في استدامة بقائه ووجوده من خلال إثارة التمايزات الطائفية والمناطقية وإن بطريقة غير مباشرة من خلال توزيع المنح الدراسية والقبول في الكليات العسكرية وغيرها من المواقع والوظائف الهامة في الدولة.
غياب التوافق والإجماع الوطني
التوافق الوطني أو الشراكة الوطنية هي المحطة المهمة في بناء الدول وخاصة تلك الدول التي تعيش تنوعا قبلياً وطائفياً وثقافياً ومذهبياً كاليمن إذ لا يمكن الانفراد بحكمها وإدارتها وتسيير أمورها بدون وجود التوافق الوطني بين أبناء هذا الوطن من خلال الرؤية الوطنية المشتركة والمصير الواحد والهم المشترك.
فلا يقابل التوافق الوطني إلا الاستبداد والتسلط الفردي الذي يقوض مفهوم الشراكة ويعمل على تمزيق النسيج الوطني للمجتمع من خلال تسخير مقدرات المجتمع في يد أسرة أو منطقة وهو ما يمثل أوسع أبواب الفساد والمحسوبية والاختلال ومن ثم الفشل. إذ أن الحكم العائلي أو الأسري لا يؤدي إلا إلى سيطرة هذه الأسرة ومن حولها من المقربين والأصهار على مقدرات الوطن ويخلق مزيدا من السخط والتربص والترقب لمصير ونهاية هذا الحكم الأسري والعمل على تغذية عوامل سقوطه.
فتاريخيا لم تحكم اليمن كلها بوضعها التاريخي الطبيعي إلا من قبل عدد معروف ومحدد من الزعامات التاريخية كالملك الرسولي يوسف بن عمر الرسولي موحد اليمن أو محمد بن على الصليحي للشخصية الكارزمية التي كان يتمتعان بها هذان القائدان.
وفيما عدا هذين القائدين فقد كانت اليمن تحكم مجزءة وتعيش حالة من التفرق والتقسم بين دول عدة متداخلة ومتعاصرة لا يجمعها جامع.
أما حديثا فقد كانت مراحل التوافق الوطني والحكم الجماعي التي أديرت الدولة من خلالها تمثل مرحلة مهمة من تاريخ اليمن الحديث والتي كانت مرحلة ما بعد الوحدة المباركة من 1990 وحتى 1993م بكل سلبياتها هي أهم مراحل التوافق والحكم الجماعي لليمن وشهدت نهضة سياسية وفكرية متقدمة ولم يعمل على خلخلة هذه الإجماع والتوافق إلا النية المبيتة لتوريث السلطة والحكم والتي أدت إلى ما أدت إليه من صراع وأزمة سياسية أدخلت البلاد في حرب ودوامة لم تخرج منها حتى اليوم.
وهو ما تنبهت له لجنة الحوار الوطني التي ضمنتها في إطار وثيقة العهد والاتفاق من خلال الإشارة إلى حرمان كل من أقارب كل من رئيس الجمهورية ونائبه ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب من تولي أي مناصب عسكرية عليا فضلا عن تدوير هذه المناصب العسكرية الحساسة وما ذلك إلا مخافة التوريث ومشكلاته.
.الأهالي نت
ماضٍ لا يريد أن يذهب ومستقبل لا يريد أن يجيء!
نبيل البكيري
5/31/2009
لم يكاد يتعافي العقل السياسي اليمني من عقدته التاريخية المزعجة والتي عرفت بـ»العقدة اليزنية» والتي يُكنى بها عن سياسية استبدال المحتل بمحتل آخر أو الدخيل بالدخيل، التي ابتدعها الزعيم التاريخي والأسطوري سيف بن ذي يزن في إطار صراعه المرير مع الاستعمار الحبشي الأكسومي باستعانته بالفرس قبل الإسلام، حتى أصابت هذا العقل عقدة أخرى اليوم لم تبارحه منذ قرن من الزمان.
هذه العقدة التي تتجلى اليوم بحالة من الفوضى والتخلف والاستبداد والفشل، كشارة يعرف بها اليمنيون من دون الناس، ليتأتى لنا ويمكننا أن نطلق على هذه الحالة بـ»العقدة اليمنية» لاختصاصهم بها وملازمتها لهم، وكأنها قدر محتوم مضروب عليهم، لا يمكن الفكاك منها، ليضلوا وكأنهم خارج إطار العصر، في لحظة تسمر عندها الزمان البيلوجي، ومكان تشوهت بعض ملامحه بخجل.
ولعل أبلغ وصف لهذه الحالة الأشد تعقيدا تمثل في مقولة كانت حتى الآن هي الأقدر على التوصيف الدقيق لهذا الأزمة المتمثلة بالإخفاق والفشل الشامل والمستديم على امتداد عقود مضت وأخريات -لا سمح الله- قادمات، تلك المقولة التي أوردها أو ربما استشهد بها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في مقالة له «ما حدث ويحدث في اليمن» ضمن كتابه الشيق المقالات اليابانية. إذ يرى في أن هذه «المنطقة الحساسة استراتيجيا واقتصاديا -أي اليمن- تقف في حالة بين ماض لا يريد أن يذهب ومستقبل لا يريد أن يجيء، وبين الاثنين حاضر حافل بكل دواعي الشك الموروث والغضب الدموي، وتغيير تأخر كثيرا عن موعده وتأخر كثيرا جدا عن العصر» وهذه هي القصة باختصار للوضع في اليمن.
وهو الوضع الناتج ضرورة وحتما عن موروث تأريخي مجزأ، تمثل بحالة من الصراع الطائفي والسياسي الذي بدوره أنتج واقعا اجتماعيا وسياسيا هشاً وممزقاً عدا ذلك تعاني البلاد من معضلات ناشئة عن الموقع الجغرافي الأكثر أهمية وخطورة معاً مما جعل البلد مدعاة للاهتمام وتحت طائلة التهديد الدائم والتدخل المستمر من قبل القوى المحيطة به إقليميا ودوليا.
وفضلا عن تلك الإشكاليات الناجمة عن هذا الإرث التاريخي المجزأ بحسب الباحث الفرنسي فرنك مراميه ومعضلات الموقع المهم بحسب الكاتب والباحث غسان سلامة، هناك إشكاليات أخرى لا تقل خطراً وأثراً عن هاتين الإشكاليتين، متمثلة بالصيرورة السياسية لدى الحكام في تكرار أخطاء من سبقهم، عدا عن حالة الفراغ القيادي التام الذي تعاني منه الأمة اليمنية منذ زمن طويل، فيما عدا فترات بسيطة كان يملأ هذا الفراغ كما في حالة الرئيس إبراهيم الحمدي حديثا الذي قضى شهيدا في سبيل بناء دولة مدنية حديثة بعيدا عن عسكرة القبيلة وقبيلة العسكر.
إشكاليات فـي طريق بناء الدولة
إلا أن الملاحظ اليوم في الوضع اليمني المعقد وإشكالياته المستديمة التي تتجلى واضحا في عدد من العوائق المركزية التي تقف حجر عثرة أمام قيام دولة يمنية مدنية حديثة، تتناسب مع روح العصر وتقوم بوظيفتها الحقيقة في خدمة الوطن والمواطن تلك الوظيفة التي يناط القيام بها في عالم اليوم إلى دولة ذات نظام وقانون ساري علي جميع مواطنيها لا فرق بينهم ولا تمايز وهو المسار الذي كان قد قطع فيه شوطا كبيرا في ما كان يعرف بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
ويكمن إجمال هذه الإشكاليات التي أعاقت قيام دولة يمنية حديثة في إشكالية الانقسام الاجتماعي والمذهبي الذي يتغذي من خلال الفشل في تحقيق دولة وطنية للجميع ويأتي بعدها إشكالية فكرة التوريث للسلطة والحكم وهي الإشكالية القديمة الحديثة التي ظلت تلقي بظلالها على مسيرة التحديث في اليمن، وتأتي إشكالية غياب التوافق السياسي الوطني الذي تغذيه دائما فردية التسلط بالسلطة والاستبداد.
ويضاف إلى هذه الإشكاليات، إشكالية الصراع السياسي الملفع بالشرعية الدينية إي خلط المقدس بالمدنس «الدين بالسياسة» وهي لعبة قذرة استخدمت في اليمن كثيرا وتجلياتها في المشهد الراهن خطيرة ومؤثرة، ابتداء بالظاهرة الحوثية والقاعدة، ويلي هذه الإشكالية أيضا قضية غياب الاندماج الاجتماعي ومن ثم الوحدة التي بذرت وأسس لها صلح دعان بين الإمام يحيي والأتراك عام 1911م.
ومن الإشكاليات العويصة أمام قيام دولة حقيقية حتى اليوم، هو ما تمثل «بالصيرورة الخلدونية» في حكم اليمن وفق المفهوم العصبي القبلي الذي جر ويلات التخلف والفوضى والفشل على هذه الجمهورية، التي ما انفكت من ربق الاستبداد الإمامي الطائفي حتى حلت أسيرة التخلف والفوضى القبلية المناطقية السلالية.
وتأتي بعد ذلك حالة التبعية والاستلاب التي عانت منها الدولة اليمنية كتابع ذيلي ومسرح للصراع بين قوى الجوار الإقليمي التي كان لأحدها استراتيجية همجية «كوصية قيمه عندهم» تمثلت بالعمل على عرقلة أي مشروع وطني يمني لبناء دولة يمنية قوية ومؤثرة على الساحة وهو ما جعل اليمن تدفع ثمن هذا الاستلاب الكثير من التضحيات الجسيمة ابتداء بدماء أهريقت طوال عقد الستينات وانتهاء بحالة الفوضى والفشل والتبعية الذيلية اليوم.
إشكالية تداول السلطة
إشكالية التوريث هي الإشكالية اليمنية القديمة الحديثة التي عملت على إعاقة قيام أي دولة يمنية قوية على امتداد التاريخ السياسي لليمن وهي ما مثل انتكاسة كبرى لعدد من المشاريع السياسية التي بدأت بالمشروع الزيدي الهادوي عام 284م في صعدة والتي عملت على حصر هذا المذهب في إطار جغرافي ضيق بعد تبنيه ودعوته لمبدأ حصر الإمامة في البطنيين الهاشميين من أولاد فاطمة.
ومثلت إشكالية التوريث وسلاليته عند الهادويين قديما عائقا كبيرا أما تحقيق ما صبت إليه أمنياتهم وطموحاتهم السياسية بإقامة الخلافة الإسلامية الهادوية على غرار الخلافة العباسية والأموية وما ذلك إلا للخطأ الكبير الذي وقع فيه الإمام الهادي حينما حصر الإمامة السياسية والرياسة العليا للدولة في إطار أسري سلالي ضيق التي عبر عنها هادويا بالإمامة كأصل من أصول المذهب.
وإضافة إلى هذه الإشكالية فقد أضيف إليها إشكالية أخرى سارعت في إنهاء هذه الحكم الأسري بعد أكثر من عشرة قرون في حكم بعض اليمن بين مد وجزر من قبل هذه السلالة الهاشمية التي ينتمي جلها إلى الإمام الهادي يحيي بن الحسين الرسي.
وتمثلت هذه الإشكالية في مبدأ ولاية العهد وتوريث الإمامة المحرم في الزيدية للأبناء وهو الخطأ الذي وقع فيه الإمام يحيي بن محمد ووقع فيه بعده أبنه أحمد حينما عهد بولاية العهد إلى ابنه محمد البدر، وهو ما صرف من حوله الأقربين من الهاشميين كبيت شرف الدين وبيت الوزير الذين انقلبوا على أبيه الإمام يحيي في 1948م.
فإذا كان هذا في إطار مذهب ديني له اجتهاداته وتسويغاته الفقهية فهذا لا يمكن أن يسوغ أو يبرر وتحت يافطة نظام جمهوري، إذ تمثل قيام الجمهوريات التي هي بالأساس ضد مبدأ التوريث وتناقضه وما قامت إلا للقضاء على مبدأ التوريث من أساسه.
وإذا كان بعض مثقفي المذهب الزيدي قد بادروا في تسعينات القرن الماضي في جو التعددية والحزبية بعد قيام الوحدة إلى إسقاط مبدأ «الإمامة» في مذهبهم وأنها مجرد اجتهادي تأريخي لم يعد لها مبررها اليوم، فكيف يمكن فهم السعي لتوريث الجمهورية الذي لا شك تمثل حروب صعدة المستمرة إحدى تجليات هذه النية الساعية فيه إلى توريث الجمهورية كحق مكتسب ويورث، إذ يرى الحوثيون أنهم أولى بهذا الحق من غيرهم كإرث تأريخي يمتد حتى القرن الثالث الهجري.
عصبوية الدولة وقبيلتها
وتمثل هذه الإشكالية الخلدونية عقبة كبرى اليوم أمام قيام دولة حقيقية ذات سيادة وسطوة على التراب اليمني كله لما باتت تلعبه هذه القبيلة من دور يفوق دور الدولة ووظيفتها من خلال اختراقها للبنية الهيكلية للجيش والأمن فضلا عن النفوذ الذي استتبع هذا الاختراق الذي مد سطوة القبيلة إلى هذه المؤسسة الوطنية التي يفترض بها أن تكون للوطن كله لا حكراً لقبيلة بعينها.
ومما زاد من سطوة القبيلة وتمردها على الدولة وخروجها على النظام والقانون هو حالة المخاتلة وغض الطرف عن تصرفاتها كاستراتيجية لدى العقلية السياسية للحاكم الذي يرى أن ثبات حكمه ودوامه لن يتأتي إلا من خلال هذه الآلية العتيقة البالية التي قد عفى عليه الزمن في عصر الديمقراطية والحزبية والمجتمع المدني والحرية وحقوق الإنسان التي تتصادم تماما مع ثقافة القبيلة البدوية.
ومن هنا تتأتي حالة الانفلات الأمني والضعف المزمن لأذرع الدولة الأمنية والقانونية في خارج إطار المراكز الرئيسية للمدن والمحافظات وكذا الغياب التام للدولة في أماكن تواج القبيلة ونفوذها حيث لا زالت أعراف القبيلة هي القانون السائد.
ظاهرة غياب الدولة في العقل القبلي وتكريس مفهوم ثقافة القوة ليس من صنيع القبيلة بل هو بفعل غياب هذه الدولة وتشجيعها لمثل هذه الثقافة الفوضوية واستثمارها في تكريس نفوذها وولاءاتها من خلال خلق حالة صراع دائم بين وجهاء القبائل حول الزعامة التي يجيد النظام لعبها في كسب هذا الطرف وضرب الطرف الآخر.
هيمنة القبيلة اليوم على الدولة هي نتيجة طبيعية لهذه الاستراتيجية الغبية من قبل الدولة التي تتخذها وسيلة لإدامة ملكها وسلطانها طريقة كهذه بدائية لا تمت إلى السياسة بحال بل لا تخرج عن كونها وسيلة أسرع للتقريب بأجل الدولة وزوالها في حالة خلل طفيف في أي من طرفي هذه المعادلة «القبيلة والسلطة» والتي تنتهي بانتهاء المصالح المشترك بينهما.
الخلل الاجتماعي وغياب المواطنة
الانقسام الاجتماعي ومن ثم غياب الاندماج المجتمعي والوحدة هي نتيجة طبيعية لحالة غياب الدولة قانونا ونظاما ومن ثم غياب المواطنة المتساوية التي تتأتى من خلال وجود دولة حقيقية بنظام وقانون وسلطة ضبطية حازمة.
هذا الانقسام الاجتماعي هو الآخر ليس وليد اليوم بقدر ما هو وليد تأريخ مجزأ ومحتقن وطافح بالخرافات ودعوات التمايز السلالي والقبلي وإن تراجع الأول مع قيام جمهورية 1962م ولكن ظهر الثاني بديلا عنه في إدعاء الأفضلية العرقية لهذا المكون الجديد المتمثل بالقبيلة التي حلت سلطة شيوخها محل سلطة الأئمة.
هذا الإرث التاريخي المجزأ لعب دورا لا شعوري لدي النخبة الحاكمة اليوم التي سعت إلى إهمال وتغييب وتحقير مفهوم المواطنة المتساوية التي تعد دعوة وطنية فضلا عن إسلاميتها الخالصة لكنها غابت، وساهم النظام الحالي في تكريس تغييبها تماما من خلال السياسية التي يتبعها في تعامله من مواطني بعض المناطق المحرومون من أدنى الحقوق أقلها حرمانهم من الالتحاق بالكليات العسكرية والوظائف المهمة في الدولة.
تكريس نظرة الدونية لأبناء منطقة على حساب أخرى هي نظرية سياسية فاشلة وبليدة تعمل على إيقاظ الوعي بين الناس بأهمية المطالبة بحقوقهم وتمثيل هوياتهم وحمايتها، فضلا عن السعي الحثيث إلى بلورتها بإرادة وإصرار لا يلين.
إدارة المجتمع بإبراز تناقضاته لم تعد اليوم ذات جدوى في إطار الوعي العام المتنامي بأساليب النظام وأدواته في استدامة بقائه ووجوده من خلال إثارة التمايزات الطائفية والمناطقية وإن بطريقة غير مباشرة من خلال توزيع المنح الدراسية والقبول في الكليات العسكرية وغيرها من المواقع والوظائف الهامة في الدولة.
غياب التوافق والإجماع الوطني
التوافق الوطني أو الشراكة الوطنية هي المحطة المهمة في بناء الدول وخاصة تلك الدول التي تعيش تنوعا قبلياً وطائفياً وثقافياً ومذهبياً كاليمن إذ لا يمكن الانفراد بحكمها وإدارتها وتسيير أمورها بدون وجود التوافق الوطني بين أبناء هذا الوطن من خلال الرؤية الوطنية المشتركة والمصير الواحد والهم المشترك.
فلا يقابل التوافق الوطني إلا الاستبداد والتسلط الفردي الذي يقوض مفهوم الشراكة ويعمل على تمزيق النسيج الوطني للمجتمع من خلال تسخير مقدرات المجتمع في يد أسرة أو منطقة وهو ما يمثل أوسع أبواب الفساد والمحسوبية والاختلال ومن ثم الفشل. إذ أن الحكم العائلي أو الأسري لا يؤدي إلا إلى سيطرة هذه الأسرة ومن حولها من المقربين والأصهار على مقدرات الوطن ويخلق مزيدا من السخط والتربص والترقب لمصير ونهاية هذا الحكم الأسري والعمل على تغذية عوامل سقوطه.
فتاريخيا لم تحكم اليمن كلها بوضعها التاريخي الطبيعي إلا من قبل عدد معروف ومحدد من الزعامات التاريخية كالملك الرسولي يوسف بن عمر الرسولي موحد اليمن أو محمد بن على الصليحي للشخصية الكارزمية التي كان يتمتعان بها هذان القائدان.
وفيما عدا هذين القائدين فقد كانت اليمن تحكم مجزءة وتعيش حالة من التفرق والتقسم بين دول عدة متداخلة ومتعاصرة لا يجمعها جامع.
أما حديثا فقد كانت مراحل التوافق الوطني والحكم الجماعي التي أديرت الدولة من خلالها تمثل مرحلة مهمة من تاريخ اليمن الحديث والتي كانت مرحلة ما بعد الوحدة المباركة من 1990 وحتى 1993م بكل سلبياتها هي أهم مراحل التوافق والحكم الجماعي لليمن وشهدت نهضة سياسية وفكرية متقدمة ولم يعمل على خلخلة هذه الإجماع والتوافق إلا النية المبيتة لتوريث السلطة والحكم والتي أدت إلى ما أدت إليه من صراع وأزمة سياسية أدخلت البلاد في حرب ودوامة لم تخرج منها حتى اليوم.
وهو ما تنبهت له لجنة الحوار الوطني التي ضمنتها في إطار وثيقة العهد والاتفاق من خلال الإشارة إلى حرمان كل من أقارب كل من رئيس الجمهورية ونائبه ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب من تولي أي مناصب عسكرية عليا فضلا عن تدوير هذه المناصب العسكرية الحساسة وما ذلك إلا مخافة التوريث ومشكلاته.
.الأهالي نت