تجريد الظلال..أو فرز مجوهراته من متفجراته!
د.أيمن الجندي/ 31-05-2009
لست أول من انتبه إلى وجود شخصيتين لسيد قطب ، سيد قطب الأديب الفنان الذي خرج من عباءة العقاد ، وأشاد بموهبة نجيب محفوظ الأصيلة والحقيقية في وقت كان لا يميزه شيء عن أقرانه ، وسيد قطب الثائر الشهيد ، صاحب الآراء الحادة القاطعة المخضبة بالدماء ، الذي صك مصطلحات الجاهلية والحاكمية فتلقفتها أجيال جديدة اصطلت بأتون التعذيب ، وكانت على استعداد للتمادي معها إلى أبعد مما أرادها صاحبها ، حتى وصل الأمر إلى نهايته الطبيعية في تكفير هؤلاء الجلادين ، وكان منطقهم هادئا وبسيطا : هؤلاء ليسوا بشرا ، وبالتأكيد ليسوا مسلمين !! .
لست أول من انتبه إلى عبقرية سيد قطب ، الرجل الذي ابتكر نظرية التصوير الفني في القرآن الكريم ، تلك النظرية التي وجدت تطبيقها في تفسيره ’’ الظلال ’’ فإذا به يدخلنا إلى عالم جميل..يأخذ بأيدينا خطوة بعد خطوة مأخوذين لنتشرب حلاوة القرآن وجمال روعته . الكل كان يعرف ملكاته النقدية ، تمكنه من أدواته وعقله الجبار وذهنه المتوقد ، يمكنك أن تتفق أو تختلف معه ، لكن عبقريته كانت خارج مجال الشك ، أضف إلى ذلك نهايته المأساوية ، بالتدريج أصبح مجرد ذكر اسمه يستدعي صورته الشهيرة في سترة السجن خلف القضبان قبيل إعدامه : نحيف الوجه ، بارز الملامح ، حالم العينين وكأنه ذكرى أو روح أو شهيد ..وبالتدريج بدأت هالة تتكون حول ذكراه وحالة من الاستقطاب حول آرائه فلم يعد أحد من المفكرين الإسلاميين يجرؤ على مجرد الاقتراب منها أو نقدها ، وفي نفوسهم إحساس غامض بالإثم : لقد دفع رأسه مقابل هذه الآراء ومجرد نقدها يعني انتصارا لجلاديه وهذا الذي لم يكن ممكنا قبوله تحت أي حال .
وتمر السنون ..ويتعاقب الليل والنهار ..ويحدث ما ليس من حدوثه بد ..نوع من النقد المشروع لأفكاره كان يتوارى تحت ستار التهيب والهالة المصنوعة حوله ..فكرة تقول أنه لا معصوم إلا نبي وبالتالي فلا يجب أن نسلم بآرائه لمجرد أنها نشأت تحت السياط بزعم أن الإيمان بها نوع من الوفاء لذكراه ..
ومن حسن الحظ أن فقهيا بحجم الشيخ يوسف القرضاوي أمتلك شجاعة النقد ولم ترهبه تهمة عدم الوفاء لذكراه ..وكانت خلاصة ما كتبه القرضاوي - بعد المديح المستحق لإخلاصه وعبقريته ، والإدانة الواضحة لجلاديه - هو رصد التغيير الأصولي الاستراتيجي في فكره القديم الذي كان يقوم سابقا على قيم العدالة الاجتماعية في الإسلام ليتحول إلى فكر ثوري رافض للمجتمعات المسلمة التي اعتبرها جاهلية لأنها ارتضت الاحتكام إلى أنظمة بشرية وقوانين وضعية بدلا من قيم السماء ..
من العدل ( هكذا يقول القرضاوي )أن نوضح أن هذا الفكر الثوري الرافض تكون داخل السجون تحت تأثير التعذيب ، لكن من المهم أيضا أن نوضح أنه خالف اتجاه كبار الفقهاء والدعاة لركونه إلى فكرة ’’التكفير’’ وتوسعه فيها بحيث صارت مجتمعاتنا ’’جاهلية’’ مثل مجتمع مكة في عهد الرسالة ..وفي رأيه أيضا أنه لا معنى لتطوير الفقه أو تجديد الفكر الإسلامي ما دام المجتمع المسلم غائبا.. يجب أن يقوم المجتمع المسلم أولا، ثم نجتهد له في حل مشكلاته في ضوء الواقع الإسلامي .
والحقيقة – كما يؤكد القرضاوي - أن سيد قطب قد تبنى أضيق الآراء في الفقه الإسلامي وأكثرها تشددا متهما معارضيه من علماء العصر بالغفلة والوهن ..أعلام في وزن الشيخ محمد عبده وشلتوت وأبو زهرة والغزالي، وسيد سابق .
لكنه في كل الأحوال – هكذا يختتم القرضاوي مقاله - مخلص في توجهه، مأجور – إن شاء الله – على اجتهاده، أصاب أم أخطأ.. عاش للإسلام، ومات للإسلام.. فرضي الله عنه وغفر له ما أخطأ فيه.
وهذا النقد وتلك المراجعة يجب ألا تصرفنا عن عبقرية سيد قطب الحقيقية:كيف كشف جواهر القرآن البلاغية بعين أديب متمرس ذواق للفنون ..كيف وضع نظريته الرائدة عن التصوير الفني في القرآن الكريم ..لا ريب أنه كان رائدا في هذا المجال وأظن أن كل من قرأ الظلال يشاركني نفس الرأي: كيف تغير تذوقه للقرآن بعد قراءة الظلال وحدثت له نقلة نوعية في الإحساس به !!..
كانت خسارة لمصر حينما عذبت ابنها البار بدلا من أن تكرمه ..وقد كنا في غنى عن هذا كله لولا الديكتاتورية الحمقاء والسلطة المطلقة ..لذلك لا أملك نفسي من حلم جميل : أن أنهض بالقيام بتلخيص الظلال فاستخلص مجوهراته وأتخلص من متفجراته ..وأقوم بعمل وسطي يحفظ روعته ويخفف غلوائه ..باختصار استعيد شخصية سيد قطب الأديب ..سيد قطب القديم ، سيد قطب المتفق عليه .وإنني لأطمح أن يكتب لي يوما شرف القيام بصيد اللؤلؤ من بحره الزاخر ، واجني العسل دون قرص النحل ..أعلمكم - وأتعلم معكم- كيف نحب القرآن الكريم – كما أحبه الشيخ سيد – نتملي روعته ونتشرب جماله .
مشكلة الظلال أنه كبير جدا لدرجة تجعل قراءته كاملة شبه مستحيلة ..كنت مقتنعا بقدرتي على القيام بهذا المشروع: تشربي لأسلوبه ، تمرسي في تلخيص الكتب، قدرتي على التخفيف من بعض آرائه الحادة القاطعة ..ومشروعي في كلمات واضحة يقوم على تلخيص الظلال وعرضه في صورة مقال يومي يركز على الجمال البياني للقرآن الكريم وكيفية تذوقه .
واستغرقني الحلم ..وبدأت العمل، ويبقى السؤال المهم : أين أنشرهذه المقالات اليومية ؟ ..في البداية تصورت أن الصحف سترحب بنشرها لأنها مادة مضمونة القراءة ، نظرا لما يتمتع به سيد قطب من شعبية ..والحقيقة أنني عرضت نفسي على الجميع دون استثناء...سواء الصحف المستقلة أو الالكترونية أو مواقع النت المشهورة باستثناء مواقع الأخوان المسلمين ..لم أعرضها عليهم على الإطلاق وكان دافعي لذلك – وأرجو ألا يضايقهم – هو رغبتي في إعادة طرح سيد قطب كعبقرية مصرية أكبر من الانتماء لأي جماعة كانت حتى لو كانت في حجم الأخوان المسلمين .
البعض اعتذر ..والبعض الآخر لم يعبأ بالرد .. بعضهم فسر أسباب الاعتذار وبعضهم لم يفسره ... والواضح أن اسم سيد قطب مقلق بالنسبة لهم ، رغم أنني أنوي التركيز على النواحي الجمالية في تفسير القرآن الكريم، والبعد تماما عن الآراء الحادة المختلف عليها . وربما هناك أسباب أخرى لا أعلمها .
وما زال العرض قائما، ها أنا ذا أبحث عن مكان يمتلك شجاعة نشر هذا العمل التطوعي الذي أرجو يكون نافعا لجميع المسلمين..
فمن يوافقني على الفكرة؟ وهل من ناشر يحتضن هذا العمل المهم ؟
أستاذ مساعد بكلية الطب، جامعة طنطا.
الرئيسية | طرق صوفية | إخوان مسلمون | تنظيمات وأحزاب | سلفيون | عمل مسلح | وعظ وإرشاد | عمل أهلي | إسلاميون مستقلون
.الإسلاميون