معالمٌ في الأزمات
ناصر بن عبد الله الجربوع
يعيـش المسـلمون هـذه الأيـام في أمـاكن شتى أياماً عصيبة، ومصائب كبيرة، فما أن يندمل جرح من جسد الأمة الإسلامية إلا وتُصاب بجرح آخر قد يكون أعظم مما سبق. ولعلَّ ما حلَّ بأهلنا في فلسطين ولبنان أظهر شاهد على ذلك. ولنا مع هذه الأزمات والأحداث العظيمة بعض المعالم والوقفات، لعلّها تكون عوناً لنا في الصبر والتسلية وفي رفع الغمّة. وهذه المعالم هي:
الـمَعْلم الأول:
أن يعلم المؤمن أن كل ما يحصل في هذا الكون من حـوادث وصـراعـات فهو بقـضاء الله وقـدره وبعـلمه وإرادتـه ومشيـئته لا يخرج شيء من ذلك، كما قال ـ سبحانه ـ: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وأنه ـ سبحانه ـ قدّر ذلك قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسـين ألف سنة، فلن تمـوت نفـسٌ قـبل أجـلها المحـدّد لها، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قـال: سمـعت رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- يقـول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة»(1)، فإذا علم المؤمن ذلك وآمن به انشـرحت نفسـه ولم يجـزع أو يتـسخط، ورضي بقضاء الله وقدره، وانشـغل بعـبادة ربـه وتحصـيل معـاشه بنفـسٍ مطمـئنة، عكس من لم يؤمن بذلك فتجد الهلع والخـوف قـد استـولى على قلـبه فلا يجـد للحيـاة طعماً، بل يصل به الأمر إلى الوفاة أو محاولة قتل النفس للتخلُّص من الحالة التي يعيشها.
الـمَعْلم الثاني:
أن الصـراع والاختلاف سُنّة ربّانية ماضية. وهذا الصراع قد يكـون بـين أهـل الحـق وأهـل الباطـل، وهـو صراع دائـم ومستمر، ولن ينتهي إلا عندما يترك أهل الإسـلام ديـنهم كمـا قـال ـ سـبحانه ـ: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} [البقرة: 217]. وقد يكون الصراع ـ أيضاً ـ بين أهل الحق أنفسـهم، أو بـين أهـل الباطل أنفسهم؛ نتيجة الاختلاف في المواقـف أو الأطـماع. والشـواهـد من التاريخ على ذلك كثيرة في الماضي والحاضر، وخير شاهد ما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية. والله ـ سبحانه ـ قد يولِّي بعض الظالمين بعـضاً، ويكـون فـي ذلك الخـير والفـرج للمـؤمنين كما قال ـ سبحانه ـ: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِـمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129].
ولهذا ينبغي للمؤمن أن لا يستغرب حدوث مثل هذه الصراعات والأزمات، بل يؤمن أنها سُنّة جارية.
الـمَعْلم الثالث:
أن ما أصاب المؤمنين من تسلُّط الأعداء عليهم وتقتيلهم وهدم بيـوتهم وتهـجـيرهم من ديارهم قد يكون بسبب أنفسهم، كما قال ـ سبحانه ـ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30].
وإذا كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لما هُزموا في معركة أُحد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تساءلوا فيما بينهم عن سبب الهزيمة فأنزل الله ـ سبحانه ـ قوله: {أَوَ لَـمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وكان الذنب الذي بسببه هُزموا هو مخـالفة الرُّماة لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونزولهم من الجبل.. فعلينا أن نحذر من الذنوب والمعاصي، فهي سبب الهزيمة والضعف والوهن، ولن ننتصر على عدونا الخارجي إلا إذا انتصرنا على عدونا الداخلي، وغيَّرنا من حالنا، وأقبلنا على طـاعة ربـنا: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
الـمَعْلم الرابع:
مـن أعظـم ما يجـب على المؤمن التوكلُ على الله في الرخاء والشدة، واللُّجـوء إليه عند المحن والأزمات، وطلب الفرج منه، فهــو النـاصر والمعـين: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطـلاق: 3]، والثـقة بنصره وعدم الخوف مـن كثرة العدو وقوتـه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173 - 174].
ولـنا فـي سـيـرة رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- خيــر برهـان، فـهـو لم ينتصر في معاركه الكثيرة مع الكفار بكثرة جيشه وأسلحته. ومن كان الله معه فليبشر بالنصر والتمكين: {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128].
الـمَعْلم الخامس:
إن أعظم ما يعين المؤمن على الثبات ويقوي قلبه وقت الفتن والأزمات بعد التوكل على الله ـ سبحانه ـ الأعمالُ الصالحة؛ من دعاء وذكر وصلاة وصيام وصدقة وغيرها، فإن الأعمال الصالحة غذاء القلب، ومادة قوته، كما أن الطـعام والـشراب غذاء الجسم ومادة قوته. وكان نبينا محـمد -صلى الله عليه وسلم- إذا حَزَبَهُ أمرٌ فزع إلى الصلاة(1)، وقد أمر الله ـ سبـحانه وتـعالى ـ بالاسـتعانة بالصلاة في سائر الأحـوال: {يَا أَيُّهَـا الَّذِيـنَ آمَنُــوا اسْتَعِـينُوا بِالصَّـبْرِ وَالصَّـلاةِ إنَّ اللَّهَ مَـعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].
وأمر عند ملاقاة العدو بالإكثار من ذكره وبيَّن أنه سبب الفلاح والنصر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
الـمَعْلم السادس:
أن النفـس البشـرية جُبـلت على حـب الحـيـاة وكراهية الموت والقـتل، وهذا لا تثريب فيه على الشخص، ولكن إذا وقعت الحروب والأزمات فعلى المؤمن أن لا يجزع من ذلك ويعتـرض على قضـاء الله وقدره، فقد يكون في باطن ذلك الخـيرُ والفـرج وبدايـة النصر، وقد لا ندرك ولا نعلم هذا الخـير؛ لقصـورنا البشـري كما قـال ـ سـبحانه ـ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِـبُّوا شَيْـئًا وَهُـوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَـمُ وَأَنتُـمْ لا تَعْلَمُونَ}.[البقرة: 216]
ولما عقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلح الحديبية مع المشركين وكان من بنود الصُّلح أن يرجع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فلا يدخلوا مكة؛ أصاب أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ حزنٌ شديد وشقَّ ذلك عليهم، ثم إن الله فتح بعد ذلك مكة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث نقض المشركون الصُّلح، فلننظر كيف أن هذا الصلح الذي كرهه الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أصبح خيراً بعد ذلك وصار سبباً لفتح مكة(2).
الـمَعْلم السابع:
أن يعلم المؤمن أن الباطل مهما استفحل وانتصر على الحق في أحوال فإن ذلك لا يعدو أن يكون مرحلياً ووقتياً، وأن النصر في النهاية هو للحق وأهله، وهذه حقيقة شرعية وإرادة كونيـة قـدريـة، يجـب أن نؤمـن بها، ونثق بوعد الله ـ عز وجل ـ، وأن يدعـونا ذلك للتفـاؤل وقت الأحداث، وأن وعد الله لعباده المؤمـنين بالنصر قد قرب بزوغ فجره، وأن ظلمة الباطل قريباً ما تنقشع، فهو ـ سبحانه ـ لا يخلف الميعاد: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْـمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْـمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}.[الصافات: 171 - 173]
وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا اشتكى إليه أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ ما يلاقونه من عذاب وشدة من المشركين دعاهم للصبر، وعدم الاستعجال، وبشّرهم بانتصار الدين وغلبة أهله فكان يقول: «ليبلغنّ هـذا الأم ر ما بلـغ الليـل والنهار، ولا يتـرك الله بيت مدر ولا وبـر إلا أدخـله الله هذا الدين»(3). وقال -صلى الله عليه وسلم-: «والله لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرمـوت، لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون»(4).
إلا أن هذا التفاؤل وانتظار الفرج يجب أن يصحبه عمل جادّ، وبحثٌ في الأسباب والعلاج، أما التفاؤل دون ذلك فهو عجز وخَوَرٌ، ولننتظر عند ذلك أن يحلّ بنا قوله ـ تعالى ـ: {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}.[محمد: 38]
الـمَعْلم الثامن:
إن أعظم فرصة للدعاة إلى الله ـ تعالى ـ وللعاملين بحقل التربية والتعليم اغتنامُ أوقات الأزمات والحوادث لنشر رسالتهم في المجتمع، فإن النفوس يومئد أقرب ما تكون إلى الخـير وتحتاج إلى من ينير لها الطريق، وأن يقوم الداعية والمربِّي بربـط ما يقع ويحـدث بالسـنن الإلهية الكونية. والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان في أشدِّ الظروف بل في أعظم مصيبة يُصاب بها أهل الإسلام، وهي قرب مفارقـته -صلى الله عليه وسلم- للدنيا ومع ذلك لم يمنعه من القيام بالدعوة إلى الله، حيث كان يقول وهو يعالج سكرات الموت: «الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم»(1).
إن عدم قيام الدعاة والمربين برسالتهم وقيادة المجتمع سوف يجعل المجتمع يموج كما يموج البحر تتلاطمه هواة أقلام الصحف والمجلات ومقدِّمو القنوات الفضائية والتحليلات الإخبارية.
إن الداعية والمربِّي البصير من يسعى إلى أن يحوّل المحنة إلى منحة، والخوف من المستقبل إلى الثقة به.
وأن يوظف ما لديه من إمكانيات التوظيف الإيجابي لتحقيق رسالته.
الـمَعْلم التاسع:
أن متابعة الأحداث والتعايش معها والتأثر لأحوال المسـلمين... ينبغي أن لا يكون مانـعـاً للمؤمن من السعي في عـمـارة الكـون وتحـصيل رزقه ومصالحه، ولا يعتبر هذا تعلّقاً بالدنيـا وعدمَ اهتمامٍ بأحوال المسلمين. والنبي -صلى الله عليه وسلم- وجّــه بعـمـارة الأرض حـتى آخـر لحـظة من عمر الدنـيا، إذ يقـول -صلى الله عليه وسلم-: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها»(2).
إن الواجـب على أهـل الإيمان خصوصاً وقت الأحداث المبادرةُ والسـعي بأخذ أسباب القدرة والنصر المادية والمعنوية، كما قال ـ تعـالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، وأن لا يكون موقفهم موقفَ المتفرج الذي ينتظر ويستجدي وسائل النصر من غيره بل أحياناً من عدوه.
الـمَعْلم العاشر:
أن نظرية المؤامرة يجب أن لا تكون مصاحبة لنا في كل حدث نعايشه بحيث تكون هذه النظرية عقدة ملازمة لنا مع كل حدث، فإن الاختلاف بين البشر أمر فطري وسنّة ماضية، وتعارض المصالح بينهم أمر موجود حتى بين الأصدقاء أنفسهم، وخير شاهد على ذلك ما وقع في الحرب العالمية الأولى والثانية، والتي قتل فيها ما يزيد عن خمسين مليون إنسان، فقد كانت نتيجةَ اختلاف على الأطماع وسيادة بين الدول الغربية، كما أن الصراع بينهم قد يكون فيه مصلحة لأهل الإسلام وفرج لهم، ولهذا لما وقع القتال بين الدولتين العظيمتين الكافرتين الروم وفارس في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وانتصر الروم فرح الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بذلك لكون الروم أقرب للحق، فهُمْ أهل كتاب.
الـمَعْلم الحادي عشر:
في زمن الفتن والأحداث يروج سوق الشائعات والأخبار، وتصبح حديث المجالس، وتتعلق بها القلوب من دون تثبّت، مع أن مصدرها قد يكون تحليلاً إخبارياً عبر قناة إعلامية والتي أصبحت أكبر مصدر لها؛ لجذب أكثر عدد من المتابعين.
إن الإشاعة ونقل الأخبار بمجرد سماعها وعدم التثبّت منها قد يترتّب على ذلك عواقب وخيمة في المجتمع واضطراب للأمن وخلل في الاقتصاد، وهذا أمر مُشاهد معلـوم، ويكـفي لبـيان أثـر ذلك مـثال واحـد حدث زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما أُشيع خبر مقتله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة أحد، فكان من أثر ذلك أن قعد بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ عن القتال(3).
والإسلام جعل منهجاً واضحاً عند سماع الأخبار ونقـلها، وهـو التثـبّت والتبـيّن منـها، بل جـعل من يحدّث بكل ما سمع كذّاباً، كما في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عـنه ـ أن النـبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع»(4).
وهذا المنهج لا يتغير سواء حال السِّلم أو الحرب، بل إنه ليتأكد حال الحرب والفتن؛ حفاظاً على أمن المجتمع وسلامته.
وفي الختام نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يحفظ بلاد المسلمين من كل مكروه، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(*) القاضي في المحكمة العامة في الرياض.
(1) أخرجه مسلم في كتاب القدر، باب: حجاج آدم موسى، رقم (2653).
(1) أخرجه الإمام أحمد (388/5)، وحسّنه الألباني.
(2) انظر تفاصيل هذه الغزوة في: صحيح البخاري (378/1 ـ 381)، وصحيح مسلم (104/2)، وزاد المعاد (122/2 ـ 127).
(3) أخرجه الإمام أحمد (103/4)، وصححه الألباني.
(4) أخرجه البخاري: رقم (3612).
(1) أخرجه الإمام أحمد (290/6)، وصححه الألباني.
(2) أخرجه الإمام أحمد (290/6)، وصححه الألباني.
(3) انظر ذلك في: قصة غزوة أحد في البداية والنهاية، وسيرة ابن هشام، وغيرها من كتب السيرة.
(4) رواه مسلم في مقدمة صحيحه
مجلة البيان، العدد ( 233) .
ناصر بن عبد الله الجربوع
يعيـش المسـلمون هـذه الأيـام في أمـاكن شتى أياماً عصيبة، ومصائب كبيرة، فما أن يندمل جرح من جسد الأمة الإسلامية إلا وتُصاب بجرح آخر قد يكون أعظم مما سبق. ولعلَّ ما حلَّ بأهلنا في فلسطين ولبنان أظهر شاهد على ذلك. ولنا مع هذه الأزمات والأحداث العظيمة بعض المعالم والوقفات، لعلّها تكون عوناً لنا في الصبر والتسلية وفي رفع الغمّة. وهذه المعالم هي:
الـمَعْلم الأول:
أن يعلم المؤمن أن كل ما يحصل في هذا الكون من حـوادث وصـراعـات فهو بقـضاء الله وقـدره وبعـلمه وإرادتـه ومشيـئته لا يخرج شيء من ذلك، كما قال ـ سبحانه ـ: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وأنه ـ سبحانه ـ قدّر ذلك قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسـين ألف سنة، فلن تمـوت نفـسٌ قـبل أجـلها المحـدّد لها، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قـال: سمـعت رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- يقـول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة»(1)، فإذا علم المؤمن ذلك وآمن به انشـرحت نفسـه ولم يجـزع أو يتـسخط، ورضي بقضاء الله وقدره، وانشـغل بعـبادة ربـه وتحصـيل معـاشه بنفـسٍ مطمـئنة، عكس من لم يؤمن بذلك فتجد الهلع والخـوف قـد استـولى على قلـبه فلا يجـد للحيـاة طعماً، بل يصل به الأمر إلى الوفاة أو محاولة قتل النفس للتخلُّص من الحالة التي يعيشها.
الـمَعْلم الثاني:
أن الصـراع والاختلاف سُنّة ربّانية ماضية. وهذا الصراع قد يكـون بـين أهـل الحـق وأهـل الباطـل، وهـو صراع دائـم ومستمر، ولن ينتهي إلا عندما يترك أهل الإسـلام ديـنهم كمـا قـال ـ سـبحانه ـ: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} [البقرة: 217]. وقد يكون الصراع ـ أيضاً ـ بين أهل الحق أنفسـهم، أو بـين أهـل الباطل أنفسهم؛ نتيجة الاختلاف في المواقـف أو الأطـماع. والشـواهـد من التاريخ على ذلك كثيرة في الماضي والحاضر، وخير شاهد ما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية. والله ـ سبحانه ـ قد يولِّي بعض الظالمين بعـضاً، ويكـون فـي ذلك الخـير والفـرج للمـؤمنين كما قال ـ سبحانه ـ: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِـمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129].
ولهذا ينبغي للمؤمن أن لا يستغرب حدوث مثل هذه الصراعات والأزمات، بل يؤمن أنها سُنّة جارية.
الـمَعْلم الثالث:
أن ما أصاب المؤمنين من تسلُّط الأعداء عليهم وتقتيلهم وهدم بيـوتهم وتهـجـيرهم من ديارهم قد يكون بسبب أنفسهم، كما قال ـ سبحانه ـ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30].
وإذا كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لما هُزموا في معركة أُحد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تساءلوا فيما بينهم عن سبب الهزيمة فأنزل الله ـ سبحانه ـ قوله: {أَوَ لَـمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، وكان الذنب الذي بسببه هُزموا هو مخـالفة الرُّماة لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونزولهم من الجبل.. فعلينا أن نحذر من الذنوب والمعاصي، فهي سبب الهزيمة والضعف والوهن، ولن ننتصر على عدونا الخارجي إلا إذا انتصرنا على عدونا الداخلي، وغيَّرنا من حالنا، وأقبلنا على طـاعة ربـنا: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
الـمَعْلم الرابع:
مـن أعظـم ما يجـب على المؤمن التوكلُ على الله في الرخاء والشدة، واللُّجـوء إليه عند المحن والأزمات، وطلب الفرج منه، فهــو النـاصر والمعـين: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطـلاق: 3]، والثـقة بنصره وعدم الخوف مـن كثرة العدو وقوتـه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173 - 174].
ولـنا فـي سـيـرة رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- خيــر برهـان، فـهـو لم ينتصر في معاركه الكثيرة مع الكفار بكثرة جيشه وأسلحته. ومن كان الله معه فليبشر بالنصر والتمكين: {إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128].
الـمَعْلم الخامس:
إن أعظم ما يعين المؤمن على الثبات ويقوي قلبه وقت الفتن والأزمات بعد التوكل على الله ـ سبحانه ـ الأعمالُ الصالحة؛ من دعاء وذكر وصلاة وصيام وصدقة وغيرها، فإن الأعمال الصالحة غذاء القلب، ومادة قوته، كما أن الطـعام والـشراب غذاء الجسم ومادة قوته. وكان نبينا محـمد -صلى الله عليه وسلم- إذا حَزَبَهُ أمرٌ فزع إلى الصلاة(1)، وقد أمر الله ـ سبـحانه وتـعالى ـ بالاسـتعانة بالصلاة في سائر الأحـوال: {يَا أَيُّهَـا الَّذِيـنَ آمَنُــوا اسْتَعِـينُوا بِالصَّـبْرِ وَالصَّـلاةِ إنَّ اللَّهَ مَـعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].
وأمر عند ملاقاة العدو بالإكثار من ذكره وبيَّن أنه سبب الفلاح والنصر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
الـمَعْلم السادس:
أن النفـس البشـرية جُبـلت على حـب الحـيـاة وكراهية الموت والقـتل، وهذا لا تثريب فيه على الشخص، ولكن إذا وقعت الحروب والأزمات فعلى المؤمن أن لا يجزع من ذلك ويعتـرض على قضـاء الله وقدره، فقد يكون في باطن ذلك الخـيرُ والفـرج وبدايـة النصر، وقد لا ندرك ولا نعلم هذا الخـير؛ لقصـورنا البشـري كما قـال ـ سـبحانه ـ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِـبُّوا شَيْـئًا وَهُـوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَـمُ وَأَنتُـمْ لا تَعْلَمُونَ}.[البقرة: 216]
ولما عقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلح الحديبية مع المشركين وكان من بنود الصُّلح أن يرجع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فلا يدخلوا مكة؛ أصاب أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ حزنٌ شديد وشقَّ ذلك عليهم، ثم إن الله فتح بعد ذلك مكة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث نقض المشركون الصُّلح، فلننظر كيف أن هذا الصلح الذي كرهه الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أصبح خيراً بعد ذلك وصار سبباً لفتح مكة(2).
الـمَعْلم السابع:
أن يعلم المؤمن أن الباطل مهما استفحل وانتصر على الحق في أحوال فإن ذلك لا يعدو أن يكون مرحلياً ووقتياً، وأن النصر في النهاية هو للحق وأهله، وهذه حقيقة شرعية وإرادة كونيـة قـدريـة، يجـب أن نؤمـن بها، ونثق بوعد الله ـ عز وجل ـ، وأن يدعـونا ذلك للتفـاؤل وقت الأحداث، وأن وعد الله لعباده المؤمـنين بالنصر قد قرب بزوغ فجره، وأن ظلمة الباطل قريباً ما تنقشع، فهو ـ سبحانه ـ لا يخلف الميعاد: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْـمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْـمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}.[الصافات: 171 - 173]
وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا اشتكى إليه أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ ما يلاقونه من عذاب وشدة من المشركين دعاهم للصبر، وعدم الاستعجال، وبشّرهم بانتصار الدين وغلبة أهله فكان يقول: «ليبلغنّ هـذا الأم ر ما بلـغ الليـل والنهار، ولا يتـرك الله بيت مدر ولا وبـر إلا أدخـله الله هذا الدين»(3). وقال -صلى الله عليه وسلم-: «والله لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرمـوت، لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون»(4).
إلا أن هذا التفاؤل وانتظار الفرج يجب أن يصحبه عمل جادّ، وبحثٌ في الأسباب والعلاج، أما التفاؤل دون ذلك فهو عجز وخَوَرٌ، ولننتظر عند ذلك أن يحلّ بنا قوله ـ تعالى ـ: {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}.[محمد: 38]
الـمَعْلم الثامن:
إن أعظم فرصة للدعاة إلى الله ـ تعالى ـ وللعاملين بحقل التربية والتعليم اغتنامُ أوقات الأزمات والحوادث لنشر رسالتهم في المجتمع، فإن النفوس يومئد أقرب ما تكون إلى الخـير وتحتاج إلى من ينير لها الطريق، وأن يقوم الداعية والمربِّي بربـط ما يقع ويحـدث بالسـنن الإلهية الكونية. والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان في أشدِّ الظروف بل في أعظم مصيبة يُصاب بها أهل الإسلام، وهي قرب مفارقـته -صلى الله عليه وسلم- للدنيا ومع ذلك لم يمنعه من القيام بالدعوة إلى الله، حيث كان يقول وهو يعالج سكرات الموت: «الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم»(1).
إن عدم قيام الدعاة والمربين برسالتهم وقيادة المجتمع سوف يجعل المجتمع يموج كما يموج البحر تتلاطمه هواة أقلام الصحف والمجلات ومقدِّمو القنوات الفضائية والتحليلات الإخبارية.
إن الداعية والمربِّي البصير من يسعى إلى أن يحوّل المحنة إلى منحة، والخوف من المستقبل إلى الثقة به.
وأن يوظف ما لديه من إمكانيات التوظيف الإيجابي لتحقيق رسالته.
الـمَعْلم التاسع:
أن متابعة الأحداث والتعايش معها والتأثر لأحوال المسـلمين... ينبغي أن لا يكون مانـعـاً للمؤمن من السعي في عـمـارة الكـون وتحـصيل رزقه ومصالحه، ولا يعتبر هذا تعلّقاً بالدنيـا وعدمَ اهتمامٍ بأحوال المسلمين. والنبي -صلى الله عليه وسلم- وجّــه بعـمـارة الأرض حـتى آخـر لحـظة من عمر الدنـيا، إذ يقـول -صلى الله عليه وسلم-: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها»(2).
إن الواجـب على أهـل الإيمان خصوصاً وقت الأحداث المبادرةُ والسـعي بأخذ أسباب القدرة والنصر المادية والمعنوية، كما قال ـ تعـالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، وأن لا يكون موقفهم موقفَ المتفرج الذي ينتظر ويستجدي وسائل النصر من غيره بل أحياناً من عدوه.
الـمَعْلم العاشر:
أن نظرية المؤامرة يجب أن لا تكون مصاحبة لنا في كل حدث نعايشه بحيث تكون هذه النظرية عقدة ملازمة لنا مع كل حدث، فإن الاختلاف بين البشر أمر فطري وسنّة ماضية، وتعارض المصالح بينهم أمر موجود حتى بين الأصدقاء أنفسهم، وخير شاهد على ذلك ما وقع في الحرب العالمية الأولى والثانية، والتي قتل فيها ما يزيد عن خمسين مليون إنسان، فقد كانت نتيجةَ اختلاف على الأطماع وسيادة بين الدول الغربية، كما أن الصراع بينهم قد يكون فيه مصلحة لأهل الإسلام وفرج لهم، ولهذا لما وقع القتال بين الدولتين العظيمتين الكافرتين الروم وفارس في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وانتصر الروم فرح الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بذلك لكون الروم أقرب للحق، فهُمْ أهل كتاب.
الـمَعْلم الحادي عشر:
في زمن الفتن والأحداث يروج سوق الشائعات والأخبار، وتصبح حديث المجالس، وتتعلق بها القلوب من دون تثبّت، مع أن مصدرها قد يكون تحليلاً إخبارياً عبر قناة إعلامية والتي أصبحت أكبر مصدر لها؛ لجذب أكثر عدد من المتابعين.
إن الإشاعة ونقل الأخبار بمجرد سماعها وعدم التثبّت منها قد يترتّب على ذلك عواقب وخيمة في المجتمع واضطراب للأمن وخلل في الاقتصاد، وهذا أمر مُشاهد معلـوم، ويكـفي لبـيان أثـر ذلك مـثال واحـد حدث زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما أُشيع خبر مقتله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة أحد، فكان من أثر ذلك أن قعد بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ عن القتال(3).
والإسلام جعل منهجاً واضحاً عند سماع الأخبار ونقـلها، وهـو التثـبّت والتبـيّن منـها، بل جـعل من يحدّث بكل ما سمع كذّاباً، كما في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عـنه ـ أن النـبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع»(4).
وهذا المنهج لا يتغير سواء حال السِّلم أو الحرب، بل إنه ليتأكد حال الحرب والفتن؛ حفاظاً على أمن المجتمع وسلامته.
وفي الختام نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يحفظ بلاد المسلمين من كل مكروه، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(*) القاضي في المحكمة العامة في الرياض.
(1) أخرجه مسلم في كتاب القدر، باب: حجاج آدم موسى، رقم (2653).
(1) أخرجه الإمام أحمد (388/5)، وحسّنه الألباني.
(2) انظر تفاصيل هذه الغزوة في: صحيح البخاري (378/1 ـ 381)، وصحيح مسلم (104/2)، وزاد المعاد (122/2 ـ 127).
(3) أخرجه الإمام أحمد (103/4)، وصححه الألباني.
(4) أخرجه البخاري: رقم (3612).
(1) أخرجه الإمام أحمد (290/6)، وصححه الألباني.
(2) أخرجه الإمام أحمد (290/6)، وصححه الألباني.
(3) انظر ذلك في: قصة غزوة أحد في البداية والنهاية، وسيرة ابن هشام، وغيرها من كتب السيرة.
(4) رواه مسلم في مقدمة صحيحه
مجلة البيان، العدد ( 233) .