مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
رجاء جارودي والدعوة إلى وحدة الأديان 1 / 2
رجاء جارودي
والدعوة إلى وحدة الأديان
1 / 2


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فرح المسلمون كثيراً حينما أعلن الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي إسلامه، وذلك لشهرة الرجل في العالم أولاً، والتأثير الإعلامي لإسلامه في العالم الغربي ثانياً، وثالثاً: حب المسلمين الخير للشعوب غير المسلمة بدعوتها إلى الإسلام متمثلين بقول الله جل جلاله مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم :{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }[الأنبياء:107] وأكبر رحمة للناس دعوتهم للدين الحق، وهو الإسلام.
وبعد ربع قرن تقريبا اتضح لنا أن الرجل في وادٍ، وما يدعيه من إسلام في واد آخر. بل هو يدعو إلى دين تلفيقي انتقائي بين الأديان كلها، ومن فمه ندينه كما سيتضح للقارئ الكريم.
والرجل وإن كان له موقف من مبالغة اليهود فيما تعرضوا له على أيد النازيين من حرق وقتل، ورأى أن الأعداد المذكورة مبالغ فيها، وغير صحيحة، فقد سبقه إلى هذا الإنكار أناس قبله في الغرب وفي غيره، كما تبعه آخرون في اتخاذ مواقف مماثلة، وهو موقف لا أرى فيه ميزة بقدر ما هو واجب على أمثاله ممن علم كذب اليهود وافترائهم، فالعدل مما يتفق عليه عقلاء البشر، والإنصاف سمة من سمات العالم المتحضر.
وقد يسأل سائل: ما سبب إثارة موضوع كهذا في مثل هذا الوقت؟ والجواب: هو أن الدعوة إلى وحدة الأديان كثرت هذه الأيام لأسباب يطول شرحها، وظهر في وسائل الإعلام المقروءة والمتلفزة من يدعو صراحة إلى وحدة الأديان؛ مستندين في دعواهم إلى رجال أمثال جارودي. كذلك فإن الرجل مافتيء بين وقت وآخر ينشر دعوته لوحدة الأديان بوسائله الخاصة، بل أنشأ في قرطبة مركزاً لدعوته وضع فيه معابد عدة لمختلف الأديان والمذاهب. أيضاً فإن الرجل لم يتخل عن نصرانيته كما صرح هو، فهدفه هو إخراج المسلمين عن دينهم، ومزج الإسلام بالأديان الكتابية المحرفة والأديان الوضعية، وبالتالي هدم الدين الوحيد الذي ارتضاه الله للناس كافة.
وقبل بيان حقيقة ما يدعو إليه هذا الرجل، نعرف بشخصية جارودي، فهو: روجيه جان شارل جارودي، من مواليد مارسيليا بفرنسا، في 17/7/1913م فيلسوف فرنسي معاصر تنقل بين الفلسفات المختلفة فانضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي سنة 1933م، واعتنق البروتستانتية في نفس العام- وكان قبلها يهودياً على قول بعضهم- ورأس جمعية الشبان المسيحيين البروتستنت. تعرف على الإسلام حين أودع سجناً في الجزائر أثناء الحرب العالمية الثانية. أشهر إسلامه في 11/9/1402هـ الموافق 2/7/1982م في المؤسسة الثقافية الإسلامية في جنيف، وتسمى بإسم محمد رجاء (رجى) جارودي (عاد لاحقاً إلى اسمه الأول روجيه) ثم تزوج من الفلسطينية سلمى نور الدين الفاروقي التاجي وهي ممن شهد إسلامه. تبنى بعد إسلامه فلسفة تلفيقية على أساس من الدين الإبراهيمي الذي يدعو إليه؛ وهي دعوة ذات صبغة شمولية بحيث تشمل الأديان الإبراهيمية الثلاثة، والرجل ينكر أي دور تشريعي للسنة النبوية، ويؤول العبادات الشرعية تأويلاً باطنياً فالصلاة عبارة عن تفكير عميق في الذات الإلهية، والحلال والحرام أمور نسبية تختلف بحسب الظروف، والحدود في نظر جارودي نوع من الهمجية ينبغي منعه، فضلاً عن إنكاره للقدر وتأويله للبعث.. وهكذا. وقد عقدت حلقة نقاشيـة بجامعة الأزهر شارك فيها بعض العلمـاء والأساتذة دعا فيها المجتمعون إلى إعادة النظر في إسلام جارودي_ على حد تعبير الدكتور محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف المصري( ).
ولعل أخطر دعوات جارودي هي دعوته لوحدة الأديان فهو ذو نزعة تلفيقية ترمي إلى جمع مصطنع بين أشتات من أفكار أو دعاوى غير متلائمة لتكوين مذهب واحد. وقد دعا جارودي للوحدة بين الأديان ذاتها المنبعثة من مشكاة واحدة: الأديان الكتابية، تحت مسمى الدين الإبراهيمي وفي ظل الماركسية التي يؤمن بها. والهدف من الدعوة إلى الإبراهيمية هو بيان أن الإسلام هو صورة مطورة عن اليهودية والنصرانية بما تحويانه من تحريف وكفر وعقائد باطلة؛ وإثبات أن ((الإسلام اليوم لن يستطيع أن يستأنف مسيرته إلا إذا وسع كل حكمة وكل عقيدة يمكن أن يتضمنها ويضمها إليه))( ) على حد تعبير جارودي. ومع ذلك فهو لا يستثني حتى الأديان الوضعية كالهندوسية والبوذية من دعوته لوحدة الأديان. ومما يدعو للغرابة أن روجيه جارودي في دعوته للإبراهيمية يوجه حديثه للمسلمين فقط دون غيرهم، والتنازل يكون منهم دون أن يوجه خطاباً لليهود أو النصارى أو لإخوانه الماركسيين.
يقول جارودي في إجابة له على سؤال من قبل محرر جريدة تشرين السورية حول تخليه عن الماركسية: ((أما لجوئي إلى التجربة التاريخية فأنا مصر عليها؛ لأنها الجانب الموضوعي الإيجابي في الماركسية. كما أصررت على كل ما قلته حول هذه التجربة التاريخيـة في كتابي ’’الماركسية’’ وأحب هنا أن أؤكد بأنني لم أدر ظهري للماركسية على الإطلاق ولم أقل ذلك... اخترت الحزب الشيوعي... ولا أرى تناقضاً في اختياري هذا، أي في الإزدواجية... لقد منحت الماركسية السبل والطرائق الكفيلة بوضع حد للعداوات أو الصراعات الاجتماعية... وبرغم حيرتي وقلقي، فقد حافظت على هذه الإزدواجية طيلة خمسة وثلاثين عاماً، ولست نادماً على ذلك الآن بل العكس))( ). ويقول جارودي: ((دخلت الإسلام وبإحدى يدي الإنجيل، وباليد الأخرى كتاب رأس المال لماركس، ولست مستعداً للتخلي عن أي منهما))( ) .
ويقول: ((عندما أعلنت إسلامي لم أكن أعتقد بأني أتخلى عن مسيحيتي ولا عن ماركسيتي، ولا أهتم بأن يبدو هذا متناقضاً أو مبتدعاً))( ) .
ويقول أيضاً: ((أنا جئت للإسلام بعد مسيرة طويلة تنقلت فيها بين الفلسفة المحضة والمسيحية والماركسية، وانتهيت إلى الإسلام دون التخلي عن اعتقاداتي الخاصة وقناعاتي الفكرية؛ لأن انتقالي إلى الإسلام لا يعتبر انقطاعاً من ماضي؛ بل هو تواصل لذلك الماضي الطويل الذي عشت فيه تجارب كثيرة، والدين الذي أناعليه اليوم هو توفيق بين الإسلام وما سبقه من ديانات... وكوني أصبحت مسلماً فهذا لا يعني أني تخليت عن اعتقاداتي الدينية والفلسفية السابقة. لذلك فأنا عندما أنشأت متحف قرطبة للحضارة الإسلامية قبل ست سنوات في أسبانيا؛ قمت في هذه المناسبة بعقد مؤتمر ديني إبراهيمي، أسندت رئاسته بالتساوي إلى ثلاث شخصيات إسلامية ومسيحية ويهودية))( ).
وفي سؤال عن الازدواجية التي يمارسها جارودي عن إيمانه بأديان متباينة، وفلسفات متناقضة، وكان السؤال بهذه الصيغة: كيف يمكننا أن نفهم غارودي المسيحي، وغارودي الماركسي، وغارودي المسلم؟ أجاب جارودي: ((لقد قادتني حكمة الحكماء، وفي مقدمتهم ’’كيركغارد’’( ) إلى العقيدة الإبراهيمية... وعليه فإنني لا أرى تناقضاً في اختياري هذا، أي في الإزدواجية، بل على العكس إني أرى تكاملاً بين الغايات والوسائل... إن إيماني بالإسلام هو إنجاز وليس انشقاقاً، في الوقت الذي لا أنكر فيه المسيح ولا ماركس.. أنا سعيدٌ الآن وأنا في السبعين من عمري لأنني بقيت مخلصاً لأفكاري))( ).
وجارودي يأمل في ((تعايش في فلسطين- بين- يهود ونصارى ومسلمين، دون أن يكون أحدهم تابعاً للآخر، في وحدة التقليد الإبراهيمي المشترك))( ). ويتم هذا الأمل بـ ((التلاقي الأخوي بين الأديان الكبرى الإبراهيمية في فلسطين لجميع قبائل الأرض كما جاء في سفر التكوين))( ).ويؤكد جارودي عدم استقلالية دين من الأديان الكتابية بالتشريع دون الآخر بـل لا بد من الأخذ بها جميع، وأن يفسر الحديث منها في ضوء القديم، يقول جارودي: ((التشريعات تتباين في التوراة والإنجيل والقرآن؛ بينما يشدد الله على تواصل رسالته: ينصح بالرجوع إلى أولئك الذين تلقوا الرسالة قبل القرآن، وبالتالي يوصي بالعودة إلى التوراة والأناجيل))( )، وسبب ذلك أن الشريعة ((مشتركة بين الديانات في حين أن الفقه يختلف بين ديانة وأخرى))( ) .
ويرى جارودي أن الشريعة الإسلامية ليست صالحة لكل زمان ومكان، حتى لو كانت صادرة من وحي سماوي فيقول: ((نحن لا نسعى أبداً لأمثلة انجازات كل المجتمعات الإسلامية التاريخية، بل نفكر بأن الإدعاء باستخلاص تشريع صالح لكل الأزمنة، من نص موحي به، يصدر عن تمامية ضارة))( ). ويقول: ((إن اعتبار القرآن كتاباً يتضمن تشريعاً صالحاً لجميع الشعوب وجميع الأزمنة، هو بالتأكيد تأويل ضيق ومميت لمستقبل الإسلام))( ) ((سيكون من المحال أيضاً الادعاءُ باستنباط قوانين سياسية عالمية أبدية مباشرة من القرآن))( ).
وبهذا المفهوم الفاسد أسقط جارودي حق المسلمين في الاحتكام إلى كتاب الله أو أخذ التشريع منه؛ قبل أن يعرض ذلك على التوراة والأناجيل؛ ولاحظ أنه يقصد هذه الكتب بوضعها الحالي المحرف بدلالة ذكره للأناجيل بصيغة الجمع، مع ما هو معروف له ولغيره أن الإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه السلام إنجيل واحد، وجارودي مقتنع بصحة الإنجيل مثله مثل القرآن، وكثيراً ما يقارن بينهما ويستدل بهما معاً( ).
ولو سلمنا جدلاً أن الكتب السابقة بقيت على حالها لم تحرف فإن الله نسخها بالقرآن الذي هو الحكم الفصل في كل الأزمنة إلى يوم القيامة كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ } (المائدة 48) وقال تعالى عن كتابه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت:42] وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، فإنكم إما أن تصدقوا بباطل، أو تكذبوا بحق، فإنه لو كان موسى حياً بين أظهركم، ما حل له إلا أن يتبعني)) وفي رواية: ((والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حياً وأدرك نبوتي لاتبعني))( ).
ويقر جارودي بإيمان واحد شامل لجميع الأديان والمعتقدات، هذا الإيمان يستطيع من خلال ثقافات مختلفة ((إنجاب ديانات متعددة، وإن هذا التعدد هو غنى؛ لأنه يتيح لنا فرصة تعميق إيماننا وإدراك تميزه: يتيح لنا فرصة التخلص من وهمنا القائم على اعتبار ديانتنا الديانة الحقيقية الوحيدة لأننا نجهل الديانات الأخرى))( ).
ويقول أيضاً : ((ليس الأمر تسامحاً... بل إنه احترام التجارب المختلفة عن تجاربنا احترام الوجود الذي يتجاوزنا)) ويلزم من احترام التجارب المختلفة عند جارودي ((عدم الطلب إلى المسيحي بأن يصبح بوذياً أو إلى المسلم بأن يصبح مسيحياً بل مساعدة البوذي على أن يصبح بوذياً أفضل، والمسيحي مسيحياً أفضل، والمسلم مسلماً أفضل. الأفضل يعني: القادر على تعميق إيمانه وإدراكه لله))( ).
يقول جارودي: ((لقد حان الوقت للقول بوضوح: إن المرء يكون هندوسياً أو بوذياً، أو يهودياً، أو مسيحياً، أو مسلماً، ليس بما يعتقد، وإنما بما يفعل. وانطلاقاً من هنا، أن نقدر ما تقدمه كل عقيدة دينية لتأنيس الإنسان)) ثم يستشهد على ذلك بقوله تعالى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم }[المائدة:48]))( ).
وبَتْرُ جارودي للآية، واستدلالُه ببعضها كمن يستدل بقوله تعالى: { لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ } [النساء:43] ويسكت. فالله سبحانه وتعالى قال في الآية السابقة التي استدل بها جارودي : { فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ } [المائدة:48] فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالحكم بين اليهود والنصارى إذا اختصموا إليه بالقرآن الكريم وحده أو بما أوحاه الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يجوز الحكم بغير ذلك ولو كان شريعة سابقة؛ لأن نزول القرآن مهيمناً أبطل ما خالفه، وإن كان الحكم فيما سبق من الشرائع موافقاً للحكم في القرآن ففي القرآن كفاية وهو ناسخ لما قبله.
ثم قال تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً }[المائدة:48] فهذا تعليل لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اتباع أهوائهم؛ أي إذا كانت أهواؤهم في متابعة شريعتهم التي حرفوها وبدلوها بأيديهم أو عوائدهم الجاهلية فدعهم وما اعتادوه وتمسكوا بشرعكم الميهمن على غيره الناسخ لما سبقه.

د. سعيد بن محمد بن معلوي
أستاذ العقيدة المساعد بكلية المعلمين بأبها
ووكيل الكلية لشئون الطلاب
.تربيتنا
أضافة تعليق