مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
إسرائيل و«الحرب العادلة» وحماية المدنيين
إسرائيل و«الحرب العادلة» وحماية المدنيين
خالد الحروب
- 03/05/09//

مايكل وولتزر مؤلف الكتاب الشهير «الحروب العادلة والحروب غير العادلة» (Just and Unjust Wars) - 1977، يُعد من كبار منظري العلاقات الدولية الذين كتبوا بعمق وإسهاب حول نظريات الحرب وبخاصة فكرة «الحرب العادلة». مقاربات وولتزر تندرج تصنيفيا في المدرسة المعيارية في نظريات العلاقات الدولية، والتي تولي اهتماماً للقيم والأخلاق لا توليه إياها بقية المدارس والنظريات وبخاصة تلك المُقادة بمنطق المصلحة القومية والواقعية الصارمة. بحسب هذه الأخيرة لا تقوم السياسة بين الدول على منطق الأخلاق بل انتزاع المصلحة رغم إرادة الطرف الآخر، والقوة والنفوذ ومكانة الدولة هي في المبتدى والمنتهى المعايير المؤسسة للعلاقات الدولية. وفوق ذلك الأساس يمكن أن تتطور أشكال من التعاون الدولي، وليس من دونه أو في تنافس معه. في كتابه المذكور والذي يعد أحد أهم الكتب المقررة في مساقات نظريات العلاقات الدولية في الجامعات يناقش وولتزر ويعارض كارل كلاوزفيتز، المنظر الألماني البروسي صاحب الكتاب الشهير «في الحرب»، والذي يقول فيه إن الحرب قد لا تكون شاملة، متسعة، وبلا نهاية.
الإضافة الحقيقية للنظرية التي قدمها وولتزر لدراسات علم الحرب تنطلق من هذه النقطة بالتحديد: الحرب يجب أن تكون مقيدة إلى الحد الأدنى، وأن لا تتخطى الأطراف المتحاربة في الزي العسكري، وهي بين الجيوش وليس الشعوب، ومعظم الحروب إن لم يكن كلها ليس هناك أسباب حقيقية ومقنعة لخوضها، فكل طرف متحارب يزعم أن حربه عادلة. في الطبعة الثانية لـ «الحروب العادلة والحروب غير العادلة» - 1992، أضاف وولتزر تحليلا مطولاً عن حرب الخليج الأولى 1991 وأداء قوات التحالف ضد العراق، وانتقد توسيع نطاق قتل الجنود العراقيين بخاصة الذين فقدوا أسلحتهم، أو تاهوا في الصحراء بعدما تبدت هزيمة جيش صدام حسين، واعتبر استهداف قوافلهم التي فقدت القدرة العسكرية وحتى البوصلة الجغرافية في الصحراء وقصفهم بالطائرات جرائم تخطت حدود احتياجات الحرب.
في العدد الأخير من المجلة المرموقة «نيويورك ريفيو أوف بوكس»، (14-27 ايار / مايو 2009)، نشر مايكل وولتزر مع أفيشاي مارغاليت، وكلاهما الآن بروفسور في العلاقات الدولية في جامعة برنستون، مقالا مشتركاً بعنوان «إسرائيل: مدنيون ومحاربون». المقال تحليل معمق ونقد لموقف وممارسة الجيش الإسرائيلي خلال حرب غزة لجهة عدم إيلاء المدنيين الفلسطينين أي اهتمام. وولتزر ومارغاليت يعتبران أن مسؤولية حماية المدنيين وعدم تعريضهم لخطر الموت مسؤولية الجيوش المتحاربة. وفي حالة حرب غزة فإن مسؤولية حماية المدنيين الفلسطينين تقع على عاتق الجيش الإسرائيلي. وهنا يفنّد الكاتبان من ناحية نظرية واستنادا إلى اعتبارات «الحرب العادلة» المسوغات التي ساقها قادة الجيش الإسرائيلي وأهمها أن المقاتلين الفلسطينين كانوا يستخدمون المدنيين كدروع بشرية، وأنهم كانوا يتخذون من المواقع المدنية والمكتظة أماكن للتمترس ولإطلاق النيران.
مقاربة الكاتبين لموقف وممارسة الجيش الإسرائيلي تقوم على أساس أن «العقيدة العسكرية» الإسرائيلية في مواجهتها لـ «حماس» وفصائل المقاومة الفلسطينية ترتكز على أن «حياة الجنود الإسرائيليين أهم من حياة المدنيين الفلسطينيين»، وبالتالي فإن الأولوية في ميدان الاشتباك يجب أن تكون لحماية حياة الجندي الإسرائيلي حتى لو أدى ذلك إلى قتل المدني الفلسطيني. وتبعا لهذه الأولوية تتشكل الممارسة العسكرية العملياتية، والتي شهدناها في حرب غزة، حيث الاستراتيجية الإسرائيلية اعتمدت على كثافة نيران هائلة، وتدمير مناطق فلسطينية مدنية كاملة بزعم أن مقاتلين فلسطينيين كانوا يستخدمونها. ولأن تلك الاستراتيجية اعتمدت عن قصد ووضوح عدم الاهتمام بالمدنيين فإن النتيجة كانت مقتل أكثر من 1400 فلسطيني غالبيتهم من المدنيين مقابل 13 جندي إسرائيلي. يعتبر الكاتبان أن الجيش الإسرائيلي تخلى في تلك الحرب عن المسؤولية الأخلاقية التي يجب أن يلتزم بها أي جيش أو طرف محارب.
والشيء المثير هنا هو ما يُشير إليه الكاتبان من أن تلك الاستراتيجية التي تبناها الجيش الإسرائيلي عن وعي تأثرت كثيراً بورقة تنظيرية «أكاديمية» نشرها إسرائيليان من قلب المؤسسة الرسمية عام 2005، هما آسا كاشر وعاموس يادلين، بعنوان «الاغتيال والقتل الوقائي»، وفيها نظّرا لمشروعية تهديد خطر حياة المدنيين في «جبهة العدو» خلال «المواجهة ضد الإرهاب». كاشر يعمل أستاذا للفلسفة وعلم الأخلاق في جامعة تل أبيب ومستشارا أكاديميا للجيش الإسرائيلي. يادلين جنرال في الجيش كان يعمل ملحقاً عسكرياً للسفارة الإسرائيلية في واشنطن في وقت نشر الورقة البحثية. ورغم أن الإثنين، وكما يشير وولترز ومارغاليت، أكدا في تلك الورقة أن الآراء التي تضمنتها لا تعبر عن أية وجهة نظر إسرائيلية رسمية إلا أن أهمية تلك الآراء برزت من خلال مدى تأثيرها في التفكير الإسرائيلي العسكري في حربي لبنان 2006 وغزة 2009. فعاموس يادلين كتب في «هآرتس» في 6 شباط (فبراير) 2009، وكما يقتبس وولتزر ومارغاليت، قائلاً بأن الخطوط الإرشادية العريضة التي وردت في ورقتهما البحثية المنشورة عام 2005 هي التي حكمت الأداء العسكري الإسرائيلي في حرب غزة.
الورقة التي كتبها آسا كاشير وعاموس يادلين تنطلق من رؤية ذاتية وغير موضوعية تفترض أن «الحرب العادلة» هي في جانب إسرائيل، وبالتالي فإن جنودها يخوضون حربا مفروضة عليهم من قبل «إرهابيين» يختبئون خلف دروع بشرية. وأن الأولوية القصوى للجيش الإسرائيلي يجب أن تكون حماية أرواح جنوده، أما المدنيون على الطرف الآخر فهم في آخر سلم الأولويات، والمسؤولية عن حياتهم تقع على عاتق من يعرضهم للخطر.
ولنقد هذه المقاربة عن طريق دراسة حالة افتراضية يناقش وولتزر ومارغاليت إشاعة ترددت قبيل حرب 2006 على «حزب الله» في جنوب لبنان كانت تقول بأن الحزب يفكر بالاستيلاء على كيبوتس منارا في شمال إسرائيل والمحاذي للحدود اللبنانية. لغايات النقاش ولتقريب وجهة نظرهما من الواقع يفترض الكاتبان أن «حزب الله» استولى فعلا على الكيبوتس وأن السيطرة عليه قد تأخذ واحداً من أربعة سيناريوهات: الأول، أن يحتجز الحزب سكان الكيبوتس الإسرائيليين كرهائن ودروع بشرية لمنع وإعاقة أي هجوم للجيش الإسرائيلي لإعادة السيطرة عليه. الثاني، أن يحتجز الحزب مجموعات من مؤيدي إسرائيل ممن كانوا يعملون في الكيبوتس أو قريبا منه، ويجعل منهم دروعا بشرية. الثالث، تأتي مجموعات من معارضي إسرائيل وسياستها إزاء لبنان لإعلان التضامن مع «حزب الله»، ويقيمون داخل الكيبوتس وعملياً يصبحون دروعا بشرية لـ «حزب الله». الرابع، قبل احتلال «حزب الله» للكيبوتس كانت إسرائيل قد أخلته من السكان، لكن عندما سيطر عليه الحزب دعا إليه مباشرة مزارعين لبنانيين بدعوى أن أرض الكيبوتس ارضهم ويعيدها لهم، لكن بهدف استخدامهم بشكل غير مباشر كدروع بشرية تعيق أي هجوم إسرائيلي.
كيف يمكن التعامل مع هذه السيناريوهات الأربعة حيث يختلط مقاتلون (أو «إرهابيون» بحسب رؤية إسرائيل) مع مدنيين؟ من المؤكد أن الجيش الإسرائيلي سوف تكون له حسابات وردود أفعال مختلفة إزاء كل سيناريو. فعندما يكون المحتجزون إسرائيليين كما في السيناريو الأول ستكون خيارات التدخل العسكري محدودة جداً ومختلفة عن اتساعها ومرونتها المتوقعة عما ستكون عليه في السيناريو الرابع مثلاً.
ما يطرحه وولتزر ومارغاليت هو أن مسؤولية الجيش الإسرائيلي، أو أي جيش آخر يواجه هذه السيناريوهات الأربعة، إزاء المدنيين الموجودين في الكيبوتس يجب أن تكون متناظرة. بمعنى ان المدنيين الإسرائيليين ليسوا أرقى مرتبة من المدنيين اللبنانيين (في المثال المضروب)، او المدنيين الفلسطينين (كما في حرب غزة). وعندما يتردد الجيش الإسرائيلي في اقتحام الكيبوتس، في المثال المفترض، خشية تعريض حياة المدنيين الإسرائيليين للخطر، فإن عليه أن يمارس نفس الدرجة من التردد في اقتحام الكيبوتس خشية تعريض حياة المدنيين الآخرين في بقية السيناريوهات المتخيّلة. من دون تطبيق هذه السياسة الموحدة والنظرة التي ترى المدنيين غير محاربين، كما يقول وولترز ومارغاليت، فإن اتهام إسرائيل «للإرهابيين» بأنهم يستخدمون المدنيين كدروع بشرية يصبح فارغا، لأن نفس النظرة المستهترة بالمدنيين تتساوى عند الطرفين في هذه الحالة.
ربما لا تفي هذه العجالة في تلخيص التحليل المعمق والدقيق لمقالة وولتزر ومارغاليت، فهناك كثير من النقاش حول مفهوم المدنيين، بخاصة لجهة التفريق بين موقفهم المؤيد للجيش أو الطرف المحارب الذي يمثلهم، وبين ممارستهم غير الحربية. كما ثمة تفريق بين الجهد المدني المؤيد للجيش، فهناك مدنيون يعملون في مصانع السلاح والتي تورد أجهزة القتل المباشر، وهناك من يعمل في شركات ومصانع الطعام والتموين وسوى ذلك. هذا وكثير من التفاصيل الأخرى، وبحسب رؤى وتنظيرات «الحرب العادلة»، يُراد من ورائها تقليص رقعة الحرب وحشرها بين المتحاربين وليس توسيعها.

* باحث وأكاديمي أردني فلسطيني - جامعة كامبردج

[email protected]
الحياة
أضافة تعليق