مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
لحظة تفكير
لحظة تفكير

فضيلة الشيخ / سلمان بن فهد العودة


كثيرة هي الأوقات التي نقضيها في انتظار الطبيب، أو الموظف، أو الإشارة المروريّة، والأكثر يضيّعونها في التذمّر والتأفف والانفعال المعبّر عن نفاد الصبر، وكأنّه لا يعنيهم إلا أمر أنفسهم ، (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) [آل عمران/154].

ونقرأ في العديد من المطويات الإرشادية التحفيز إلى استثمار هذه الأوقات الضائعة بالذكر، ونعمّا أوصت به، فإن ذكر الله تعالى حياة القلوب والأرواح، وطمأنينة النفوس، ورفع الدرجات، وحط الذنوب، ورضا علّام الغيوب، وسعة الرزق، وصحة البدن، وخير الدنيا والآخرة.

وقد أثنى الله تعالى على الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وأمر سبحانه بأن نذكره ذكراً كثيراً ، ونسبّحه بكرة وأصيلاً، ووعد من ذكروه بأن يذكرهم، وأمر بإقامة الصلاة لذكره ، وبذكره تطمئن القلوب، وتخشع النفوس، وتذلل الصعاب، وتقطع الفيافي؛ فهو سلوة الحزين، وريّ العطشان، وزاد الجائع، ووجدان المحروم ، وتنفيس المهموم، وعزّ المضيم، ونفس الكظيم.

على أن التفكر وإعمال العقل لا يقلّ منزلة عنه، بل هو قرينه وشريكه وصاحبه ، فالذكر من غير فكر إنما هو حركة لسان، وعادة إنسان، فإذا تواطأ الذكر والفكر صار نوراً على نور، (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) [النور/35].

والتفكر جاء ذكره في القرآن في معرض المدح فقال سبحانه : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لذكرى لأُوْلِى الألباب } [ الزمر : 21 ] ، { إِنَّ فِى ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِى الأبصار } [ آل عمران : 13 ] ، { إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ لأُوْلِى النهى } [ طه : 54 ، 128 ] وأيضاً ذم المعرضين فقال : { وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى السموات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] ، { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } [ الأعراف : 179 ]

وقد ثبت عن الحسن قوله : ’’ تفكر ساعة خير من قيام ليلة ’’، كما في الزهد لأحمد، ومصنف ابن أبي شيبة.

وفي قوله تعالى (سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ )[الأعراف/146] قال الحسن : أمنعهم التفكر فيها.

وسأل رجل أم الدرداء بعد موته عن عبادته؛ فقالت: كان نهاره أجمعه في بادية التفكر ، وكان سفيان كثيرا ما يتمثل :

إذا المرء كانت له فكره... ففي كل شيء له عبره

وقال عمر بن عبد العزيز: الفكرة في نعم الله من أفضل العبادة.

ولعل لهج السلف بفضيلة التفكر؛ لأنه يوصل إلى الله تعالى والعبادة توصل إلى ثواب الله تعالى، وثمت فرق بين الحالين، ثم إن التفكر عمل القلب والطاعة عمل الجوارح ، والقلب أشرف من الجوارح فكان عمل القلب أشرف من عمل الجوارح.

وقد يكون التفكير أوسع من ذلك بأن يفكر في كل ما يهمه ويعنيه من أمر نفسه وتدبير مصالحها، أو أمر أسرته، أو شركته أو مؤسسته، أو شعبه وأمته، أو يحاول إبداعاً أو اختراعاً ينفع النفس أو الناس، وتتوارثه الأجيال، ويسهّل الحياة أو يحلّ مشكلاتها أو يزيد عطاءاتها.

إن هذه اللحظات الهاربة يمكن أن تستثمر في قدح زناد العقل للتأمل الذي هو أحد الطرق للوصول إلى الحقيقة وفهم الأشياء، وكشف الالتباس، واختيار الأفضل من الأقوال والأعمال والمواقف والآراء والاجتهادات والخيارات.

أراك سارحاً شارد الذهن ، قد انقطع حبل تفكيرك ، فهو يهيم في كل واد، ويصيخ لكل مناد، وما هكذا يكون الفكر والتأمل، فالفكر حركة إرادية موفورة يوجهها المرء إلى حيث يحب، ويسلطها على الصخور الصمّاء ؛ فتفتتها وتستخرج منها كوامن العبر والعجائب.

ألا يحزنك أن تدري أن الإنسان لا يستخدم أكثر من 10% من مكوّنات عقله، ومع هذا وصل فيها إلى ما وصل، والكثير منا لا يستخدم عقله إلا في حالات قليلة؛ فكل سؤال عنده له جواب قد فرغ منه، وكل مشكلة لها حلّ، وكل معضلة فأمرها سهل، وما هي إلا عبارات مزوّقة، مزخرفة منمّقة، وأقوال مقلّدة، وكلمات من طرف اللسان ليس فيها تحقيق ولا تدقيق، وكم أضل هذا من أقوام، وأضاع من فرص!!

فيا لحركة العقل المسدد النشط الفعال، حين يطلق صاحبه عقاله، ويسلّطه على البحث والارتياد والتحرّي والترجيح والنظر؛ فهو الهادي الذي لا يضل، والحادي الذي لا يمل، والرائد الذي لا يكذب، إنما يكذب الهوى والغرور باسم العقل (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرعد/4]، ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف/2] ولا تكليف شرعاً إلا بعقل، بيد أن الفرق شاسع بين عقل لا يفيد منه صاحبه إلا التكليف والمؤاخذة، وبين عقل يمنح صاحبه أعلى الدرجات والمنازل في الدنيا والآخرة، وكان بعض الصحابة يقول لمن أبطأ عن الإسلام :’’إني أرى لك عقلاً’’؛ فالعقل المتّزن نعمة بها يتميّز المختارون من العباد عن الدهماء والعوام والمقلّدة، كما يتميز سائر المكلفين بأصل العقل عن البهائم. والله أعلم.


أضافة تعليق