مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
حتى لا تستلب الجهود الإسلامية
حتى لا تستلب الجهود الإسلامية

الجزائر والمغرب ومصر نموذجاً

د. محمد العبدة



هناك سؤال كبير يطرح دائما ويلح البعض في طلب الجواب عليه، لماذا آلت الجهود الإسلامية التي دافعت الاستعمار الأوروبي في القرنين الماضيين، في شمالي أفريقيا وبلاد الشام ومصر وشبه القارة الهندية وداغستان، لماذا آلت لغير صالح الإسلام والمسلمين، ولغير صالح الذين بدأوها واكتووا بحرها؟ هل سرقت هذه الجهود أم استغلها واستثمرها من يتقن لعبة المناورات والدسائس السياسية من الانتهازيين والمنتفعين الذين هم قراصنة التاريخ؟ هل حشر هؤلاء أنفسهم على مائدة المفاوضات والتنازلات ثم تسنموا الأمور بعد رحيل الاستعمار العسكري وبقاء الاستعمار الثقافي والاقتصادي، كما عبر المجاهد الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، حين وصف هذه الحالة ب (الاحتقلال) لأن الحالة كانت في الظاهر استقلالاً وفي الباطن استعماراً داخلياً ربما يكون أسوأ من الاحتلال الظاهري.

هل سرقت هذه الجهود أم أن في الأمر شيئاً آخر فات الذين لم يحققوا في التاريخ الحديث وأطلقوا القول بأن جهود المسلمين تذهب لغيرهم دائماً. هل بذلت الأحزاب التي يقال أنها سرقت جهود المسلمين جهوداً أيضاً، ولكنها في الوقت نفسه استفادت وسخرت أعمال الآخرين لمصلحتها؟ كيف استطاع المغرّبون التسلل عبر صفوف الوطنيين (والوطنية في المغرب العربي تعني الدفاع عن الإسلام ) وكيف تسلموا قيادة السفينة وأزاحوا المؤسسين الذين حملوا همّ الإسلام وهمّ الأوطان؟

هذا حديث مهمّ وضروري لتعلم الأجيال القادمة ما الذي حدث، هذا ما نحاول الإجابة عليه، ولنبدأ بالجزائر مثالاً على هذه الظاهرة.

في الثلاثينات من القرن الماضي (القرن العشرين) كان الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله قد وضع خطة مع صديقه ورفيق دربه الشيخ البشير الإبراهيمي للنهوض بمسلمي الجزائر. الخطة بسيطة وواضحة وغير ملفتة للنظر: علمٌ قليل وتربيةٌ كثيرة وإحياء المساجد بالتعليم، لم يتنبه الأعداء لهذا العمل إلا بعد أن أثمر وأينع، كان ذلك في جامع قسنطينة حيث بدأ الشيخ دروس التفسير ومن خلال التفسير كان تصحيح الاعتقاد وتعليم العربية، وكان شحذاً للنفوس للدعوة ومقاومة الاحتلال الفرنسي، وتخرج الجيل الذي انتشر في المدن والريف في جبال أوراس وصحراء الجنوب يعلمون الناس دينهم تعليماً تربيةً تطال كل فئات الشعب. يتذكر مالك بن نبي عام 1932 عند عودته من فرنسا لزيارة الجزائر أن الحمّال الذي حمل أمتعته إلى فندق (الحمامات) كانت تلوح على هيئته الكرامة النفسية وفي الطريق ظهرت لافتة (نادي الترقي) قال الحمّال : أنا من مريدي الشيخ العقبي في هذا النادي، ويعلق مالك : ’’أيقنت أن هذا التغيير البسيط سيتلوه تغيرات جذرية لا محالة، لم تكن الإدارة الاستعمارية تتصور هذا التغيير’’.

بعد هذا الجهد المبارك أصدر الشيخ ابن باديس صحفاً إسلامية وبدأ الوعي يدب بين الناس بعد طول رقاد، وهنا تنبهت فرنسا لخطر هذا الشيخ ومنعته من التدريس فانتقل إلى مسجد آخر، كان تنبه فرنسا بعد فوات الأوان فقد تأسست جمعية العلماء التي يصفها مؤسسها ابن باديس : ’’ لم تقم في أمة إسلامية هيئة علمية منظمة تعلن الدعوة وتصمد للمقاومة غير الأمة الجزائرية فكان من علمائها الأحرار المستقلين الذين نهضوا بالإصلاح وجاهدوا حتى أصبحت الدعوة الإصلاحية ثابتة الأركان’’.



لقد أصبحت هذه الجمعية ملء السمع والبصر، وما كتب كاتب عن الجزائر إلا وله حديث عن الجمعية، وإذا ذكرت الجزائر ذكرت الجمعية.

توفي الشيخ ابن باديس عام 1940 وقاد الجمعية بعده البشير الإبراهيمي وقررت فرنسا ضرب الجمعية فسجنت الإبراهيمي وافتعلت أحداثاً كان من ضحاياها عدد كبير من منتسبي الجمعية.

بدأت المقاومة المسلحة ضد فرنسا عام 1954 وكان الذي بدأها أطراف أخرى غير الجمعية، كانت هناك أحزاب سياسية بعضها وطني يسعى إلى الاستقلال دون أن تضع في حسابها مخاطر الاستلاب الثقافي الفرنسي، وبعضها اندماجي تغريبي (فرانكو- برجوازي- شيوعي) مثل حزب البيان الجزائري. التيار الاستقلالي كان أكثر فاعلية وقد تمثل في حركة انتصار الحريات التي تركزت أخيراً في جبهة التحرير الوطني وهي التي أشعلت الثورة في أول نوفمبر1954، ولكن كما يقول مالك بن نبي: ’’ إن رأس مال هذه المقاومة الذي كان متوافراً عشية الواحد من نوفمبر كان في الأساس ثمرة هذا التطور الذي قامت الحركة الإصلاحية فيه بدور رئيسيّ ’’ وذكر هذه الحقيقة مهم جداً رغم خلاف مالك مع الجمعية. ويمكن القول أن الجمعية هي الأصل الذي قامت عليه مقاومة المحتلّ ولكن الأمور سارت على غير ما يريد رجال الإصلاح، بل على غير ما يريد رجال السياسة الاستقلاليين الذين يحملون فكراً عروبياً إسلامياً.

يقول المؤرخ ناصر الدين سعيدوني ’’ كانت الثورة على مستوى القيادة يسودها الانتماء العربي الإسلامي ولكن بعد مؤتمر الصومام عام 1956 غيّب هذا الانتساب الحضاري لفائدة المشروع الوطني العلماني للدولة الجزائرية ’ وهكذا غابت مبادئ ابن باديس لتسود آراء فرانز فانون ’’

هل نقول أن الثورة سرقت أم أن هناك أخطاء كبيرة أدت إلى تحكم التيار الإندماجي صاحب الثقافة الفرنسية الذي ركب موجة الإستقلال خاصة وأن الحزب الذي ينادي بالاستقلال لم يكن له بناء ثقافي واضح أو أنه قد أجل البحث في هوية الدولة القادمة

لابد أن نعود مرة أخرى إلى الوراء، إلى جمعية العلماء، ففي عام 1936 دعا الشيخ ابن باديس إلى مؤتمر جزائري عام يضم كل أطياف الشعب الجزائري وقد عقد هذا المؤتمر في العاصمة وكان النجاح حليفه ولكن الخطأ الذي وقعت فيه الجمعية هو عندما دعت أحد السياسيين لقيادة المؤتمر وهو الدكتور صالح بن جلول حيث اتضح بعدئذ أنه شخص انتهازي. يعلق مالك بن نبي ’’ فماتت الفكرة بعد مرور شهر واحد لأن ذلك المثقف لم يكن أهلا بالحد الذي يجعل منه سندا لها ’’

وقد يتساءل البعض هنا هل كان العلماء يحملون عقدة النقص تجاه المثقفين السياسيين ولم يكن عندهم الحصانة الكافية التي تحول دون الوقوع في هذا المزلق ؟ هذا ما يتهمهم به المفكر مالك بن نبي وقد أبرز الشيخ الإبراهيمي هذا الاهتمام من السياسيين بالجمعية فقال: ’’ وقد اتصلت الجمعية بجميع الأحزاب واحتكت بها جميع الأحزاب من خاطب لودها إجلالاً إلى رائم من نفوذها استغلالاً إلى عامل على الكيد لها احتيالاً ’’ .

إذن هناك من يريد استغلال الجمعية، فكيف كان رد الفعل ؟ يقول الإبراهيمي : ’’فأرتهم الجمعية بمعاملاتها أنها فوق الأحزاب، ودعت الأحزاب إلى الصلح والاتحاد، وجمعتهم للاشتراك في العمل’’ .

هذه الدعوة من الجمعية ربما هي التي أيقظت الأحزاب لممارسة الدجل السياسي واستغلال سذاجة الشعوب التي تصفق للزعيم الذي يخدرها بالوعود الخلابة وكأن هذه الدعوة من الجمعية أخرجت المارد من القمقم، هذه هي البداية وليس هو السبب الوحيد لاستلاب الجهود فالتيار الاندماجي لم يسرق جهود الجمعية وحسب بل سرق جهود رجال الثورة ممن يحملون الانتماء العربي الإسلامي. والسبب كما يؤكد المؤرخ سعيدوني ’’ اتصف هذا التيار الاندماجي بالفاعلية والتخطيط، فقد ساير الثورة وخدمها دون أن يتخلى عن تصوره، وعمل على تدعيم مركزه باستمرار على مستوى قيادات سياسية مؤثرة، وقد تحكم هذا التيار من خلال الثقافة الفرنسية في المؤسسات ’’ .

ويتابع سعيدوني ’’ بقدر ما كان التيار الاستقلالي أصيلاً في مطالبه فإنه كان يحمل مخاطر كبيرة بالنسبة لبناء الهيكل الثقافي وتنمية التوجه الحضاري ’’.

إن التيار الاستقلالي حسب كلام سعيدوني قد غفل عن المخاطر التي قد تنجم عن إهمال الفرز الأيديولوجي وكأن همه الأول هو الاستقلال وهذا هو الخطأ الكبير الذي وقع فيه، والتيار التغريبي الفرنسي هو نفسه الذي برز أخيراً واستطاع ضرب جبهة الإنقاذ بعد فوزها في الانتخابات العامة.

لم تكن الجمعية ممن قام بثورة 1954 بل إن الشيخ الإبراهيمي – وكان عند قيام الثورة زائراً في مصر – لم يكن على علم بتوقيتها بل استغربها وأنكرها وبعد أسبوعين أصدر بياناً بتأييدها، وهنا لا بد من القول أن الجمعية كانت قد تلقت ضربة قاسية عندما قامت فرنسا بمجزرة 1945 وقتل من الشعب الآلاف وساقت فرنسا إلى المعتقلات سبعين ألفاً معظمهم من أتباع الجمعية، فالذي قام بالثورة هي أحزاب وطنية يحمل بعض زعمائها فكراً عربياً إسلامياً وشارك فيها شخصيات كبيرة من الجمعية، ولم تكن هذه الثورة لتنجح لولا أن الجمعية كانت قد أسست ورسخت عروبة الجزائر وإسلامها



المغرب:

بعد أن أبعدت فرنسا القائد الفذ محمد بن عبد الكريم تأسست حركات وأحزاب وطنية إسلامية،ولم يكن هدفها الإستقلال وحسب بل أضافت إلى ذلك الاهتمام بمقاومة التخلف وإصلاح الفكر.كان المؤسسون يحملون فكراً مزيجا بين الوطنية والإسلامية ولا تعارض بينهما عندما تؤول الأولى إلى الثانية،تأسس حزب الإستقلال برئاسة خريج القرويين الزعيم علال الفاسي وتأسس حزب الشورى والاستقلال برئاسة محمد بن الحسن الوزاني وكان من قادة الحزبين علماء وطلاب علم.ولكن هذه الأحزاب الوطنية الإسلامية اختلست وحول مجراها وتسلل اللادينيون إليها،وسكت الزعماء عن هذا التسلل إما لغفلة عن آثاره السيئة في المستقبل أو لظنهم أن أمثال هؤلاء لا يؤثرون على مجرى العمل السياسي، ويستقيل إدريس الكتاني من حزب الشورى ويذكر الأسباب ’’ بوادر في الحزب تروم تحويل الشورى إلى ديمقراطية لا دينية تمهد لفصل الدين عن الدولة على الطريقة الغربية ’’

عندما أبعدت السلطات الفرنسية الزعيم علال الفاسي اهتبل هذه الفرصة الشاب النشيط المهدي بن بركه وسيطر على الحزب واتهم علالا وأمثاله من العلماء بالجمود الفكري والعجز عن فهم العصر!!،لم يستطع علال بعد رجوعه أن يجمع شمل الحزب واتهمه ابن بركه بأنه يستقبل الأغنياء وأنهم يندسون في الحزب لمصالحهم الخاصة.

كان ابن بركة يؤمن بالحزب الواحد الذي يسيطر على كل المرافق،ولذلك هاجم الحزب الآخر( الشورى والاستقلال ) وحاربه بالقتل والاضطهاد وأخيرا انشق ابن بركة عن حزب الاستقلال وشكل حزبا آخر عام 1959

اقترح إدريس الكتاني على الزعيم الفاسي أن يقوم بانتفاضة يتخلص فيها من الجناح الثوري وينفتح على الإسلام انفتاحا كاملا ويجيب علال : يؤسفني أن أعترف لك بأننا فقدنا المبادرة كانت غفلة من الجيل المؤسس عما يدور في رؤوس الشباب وما هي قراءاتهم وتطلعاتهم،ومن الذي يخادعهم بالألفاظ البراقة والشعارات الفارغة،ويفاجأ المؤسسون بشئ لم يكن لهم فيه يد،ويمكن ان نقول :دون أن يشعروا بما تموج به الساحة الفكرية مابين جمود راسخ وتفلت من الأسس والثوابت ويتلفتون للجيل الطارئ ليقولوا :من أين جئتم ؟

تستغل فرنسا هذه الفوضى وتدعو للمفاوضات السياسية حتى تتخلص من المقاومة ولتتفرغ لثورة الجزائر المجاورة،وتذهب الوفود إلى (اكس لبان ) وتبدأ التنازلات ويرفض علال مبدأ التفاوض ولكن عندما وقع الاتفاق عاد وأذعن لأنه يعلم أنه ليس قائدا فعليا للحزب، وهكذا تسللت إلى المفاوضات الطبقة التي لها مصالح خاصة ولا مانع عندها من استقلال محدود، والواقع أن الذي تصدى للمقاومة هم عامة الشعب،ويكتب المحامي الفرنسي (جان لوكران ) عن هؤلاء ’’ الذين جعلوا من السلطان محمد بن يوسف محمدا الخامس هم العامل الإسكافي والخباز وبائعوا الثياب البالية وبائعوا النعناع الذين غادروا ذات يوم عملهم وأسرهم ونذروا أنفسهم للقتال ’’ . وبعد عقود يتذكر زعماء المقاومة الوطنية أن غياب الرؤية الفكرية الواضحة وقلة الخبرة بالقوى العالمية وقلة الخبرة بقوى الداخل التي يمكن أن تعبأ،كل هذا كان من أسباب اختلاس الجهود.



مصر:

نعود إلى المشرق العربي وإلى مصر وعلاقة الأخوان المسلمين بثورة 1952 وهل كان جمال عبد الناصر من الأخوان،وهل كان الأخوان يظنون أن هذه الثورة هي ثورتهم أوهم طرف رئيس فيها ثم تحولت مجريات الأحداث وسرق جمال جهود الآخرين لابد من المراجعة لتتضح الحقائق وليعتبر من يعتبر.

قبل قيام الضباط بحركتهم 1952 كانت الحالة السياسية في مصر في حالة غليان،فالأحزاب التقليدية ( الوفد، السعديون...) تتراجع شعبيتهم بسبب بقاء الاحتلال الإنكليزي وبسبب الفساد الإداري، وفي الوقت نفسه ظهر الأخوان على الساحة السياسية كأكبر حركة جماهيرية، وكذلك برز حزب (مصر الفتاة) بزعامة أحمد حسين، وكان من أهداف الأخوان تحرير مصر من المستعمر فكانت لهم كتائب قاتلت الإنكليز في معسكراتهم بجوار قناة السويس،وعندما برزت مشكلة فلسطين عام 1948 ذهبت كتائب الأخوان وقاتلت المحتل الصهيوني،وقد شارك في تدريب هذه الكتائب الضابط جمال عبد الناصر الذي شارك أيضا في القتال في فلسطين وحوصر في الفالوجا . ودون الدخول في التفاصيل فالأخوان يقولون أن جمال بايع المرشد ودخل في صفوف الأخوان وكذلك بايع غيره ممن شكلوا بعدئذ مجموعة الضباط الأحرار مثل : كمال الدين حسين ،حسين الشافعي ’البغدادي،وكان المنسق بين ضباط الأخوان ومجموعة الضباط الأحرار الصاغ محمود لبيب وهو ضابط سابق من الأخوان. وهناك مجموعة من الضباط انضموا لليسار مثل خالد محي الدين وأحمد حمروش والبغدادي بعد أن ترك الأخوان.

كان عبد الناصر هو لولب الحركة، وهو يعلم حجم الأخوان وعلى علم بتفاصيل النظام الخاص وله لقاءات مطولة مع عبد الرحمن السندي المشرف على هذا النظام ’’ وكان يعرف أسلوب السندي وأنه يقوم على السيطرة الكاملة ولذلك رفض أن يعمل تحت رئاسته، والحقيقة أنه كان على صلة بالنظام الآخر الذي يقوده صلاح شادي’’.

ومع هذه الصلة بالأخوان لكن عبد الناصر كان يرى أن طريقهم طريق طويل وهم (حتة) مشايخ لا يصلحون للحكم ويقول: ما جدوى أن نجمع الضباط لحفظ القرآن والحديث، ويرى أنه لابد من إدخال كافة العناصر العسكرية وطلب من الأخوان أن يبتعد عنهم مع بقاء الصلة والصداقة، وقد وافق الأخوان وبقيت الصلة. وهنا لابد أن نذكر أن جمالا انتمى في الوقت نفسه إلى مصر الفتاة والى الشيوعيين ’’ كان عبد الناصر يتخذ لنفسه معي اسما مستعارا هو زغلول عبد القادر،وقد اعتاد هذا في كل هئية انتمى إليها،ومع الشيوعيين كان اسمه (موريس) ولابد أنه كان له اسم في

الحركة الوفدية’’.

من الواضح أن جمالا كان يستكشف كل الحركات ويحاول الاستفادة منها ويقيم صداقات معها دون أن يرتبط فكريا، وهذا ينطبق على الأخوان أيضا. شخصية انتهازية واضحة ولكن علاقته مع الأخوان استمرت قوية، وقبل موعد الانقلاب كان له لقاء مع السندي وبحضور ضباط الأخوان: عبد المنعم عبد الرؤوف وأبي المكارم عبد الحي وقد طلب في هذا اللقاء التعاون ولكن السندي بدأ بإملاء الشروط وقال:لابد من معرفة الأهداف والخطوات، فقال له جمال:أنت لم تعد من الأخوان، لأن الأخوان اتفقوا معي ولم يشترطوا وقد نفذ الأخوان تعاونهم رغم تحفظ المرشد العام حسن الهضيبي حيث أبلغهم أنه لا يطمئن إلى الانقلابات العسكرية، ولكن الأخوان كانوا يثقون بعبد الناصر واستمروا في التعاون معه.

قامت الحركة بتاريخ 23/ 7/ 1952 ونجحت في إزاحة النظام السابق وشارك فيها ضباط الأخوان حيث كلف عبد المنعم عبد الرؤوف بمحاصرة قصر التين في الإسكندرية لوجود الملك فاروق هناك، كما حاصر أبو المكارم قصر عابدين في القاهرة، وقام شباب الأخوان بحماية المنشآت العامة، وهكذا ساهم الأخوان في إنجاح الثورة ولكن دون مقابل.

كان عبد الناصر هو لولب الحركة كما ذكرنا وقد بنى كل مخططاته ليكون الزعيم المتفرد الذي يضغط الزر فتتحرك مصركما صرح هو لفريد عبد الخالق،ولكنه لا يستطيع ذلك دفعة واحدة ولذلك طلب من الأخوان الاشتراك في الوزارة وكان الرد هو الرفض لأن موقفهم كان المطالبة برجوع الحياة البرلمانية وعمل دستور جديد ولم يفطنوا إلى هذا الضابط وطموحاته،واستطاع عبد الناصر استمالة شخصية كبيرة من الأخوان وهو الشيخ أحمد حسن الباقوري الذي عين وزيرا لللأوقاف،ويطلب عبد الناصر من صديقه حسن عشماوي أن يترك الأخوان ويعمل معه ويقول له :إني جاد في حربي للأخوان وسأقضي عليهم بأي وسيلة وفي عام 1953 يحل مجلس الثورة جميع الأحزاب ويستثني الأخوان ويتنبه اثنان من قادة الأخوان وهما أحمد عبد العزيز جلال وتوفيق الشاوي لخطورة هذا الاتجاه،ولكن ضاعت أصواتهما وسط الزحام،وفي عام 1954 أزاح جمال الرئيس محمد نجيب وحل جماعة الأخوان وبدأت المحنة التي اسمرت إلى ما بعد هلاكه

هل كان جمال عبد الناصرمن الأخوان ؟

أستبعد ذلك،نعم تظاهر بالإنتساب للإخوان وبايع ولكنه كان يستكشف ويخطط للإستفادة من كل الأحزاب التي يستطيع تسخيرها لمآربه وطموحاته الإستبدادية،ولا أظن أنه كان مقتنعا بالإخوان أو غيرهم. يقول أحد قادة التنظيم الخاص ’’ هل كان جمال من الأخوان ؟ لكي يكون الجواب بالإيجاب فلا بد أن نثبت أنه كان مقتنعا سلفا بفكر الأخوان،فهل حدث هذا ؟ ’’ والعجيب أن الأستاذ صلاح شادي في مذكراته يعتذرعن انحراف عبد الناصر بأن هناك من الأخوان من غير وبدل وقبل الوزارة أو تكلم عن الأخوان مثل الباقوري وسيد سابق والبهي الخولي وعبد العزيز كامل، ويقال للأستاذ شادي رحمه الله: وهل ابتعاد هؤلاء عن الأخوان مثل عبد الناصر الذي ضرب الحركة الإسلامية إرضاء للغرب وألغى المحاكم الشرعية وحكم مصر بالقهر والفساد الذي أدى إلى هزيمة 1967. يقول الشيخ الباقوري متذكرا أن عبد الناصر قال له: أريد أن أستبدل اللجان الدستورية ب (المجلس الوطني الكبير) ويعقب الباقوري:أراد أن يقلد كمال أتاتورك في جعل الدولة علمانية.

كيف لم يكتشف الأخوان عبد الناصر وقد ظهرت دكتاتوريته من بداية الثورة حين حل الأحزاب وأبعد محمد نجيب وأبعد كل معارض له حتى من زملائه، واستقال البعض ابتعادا عن استبداده، وفي بداية حكمه يقول السادات لأحد قادة الأخوان: ’’ سأقول لك رأيا قررت أن أنتفع به وأنصحكم أيضا بذلك، لاتعادوا جمالا فإنه سيأكل الجميع، لن يبقى إلا من (يلبد ) بين أسنانه ’’ والواقع أنه لم يبق إلا الذي لبد وهو السادات نفسه.

كان محمد نجيب واجهة أقامه ضباط الثورة لرتبته العالية وسمعته الطيبة في الجيش ولكنه لم يكن ممن خطط ودبر، ولم يكن ذلك الشخصية القوية ولا ممن يحمل فكرا إسلاميا ولكنه رجل وطني مخلص، فكيف يضع الأخوان ثقلهم لإرجاعه والوقوف في صفه مقابل عبد الناصر وبقية الضباط.

ويعترف أخيرا الأستاذ صلاح شادي:’’ يجب أن ندرك حقيقة غابت عنا في غفلة النشوة صاحبت حركة الأخوان داخل الجيش، فكان الكم عندنا أغلى من الكيف ’’. ويبدو أن ذكر هذه الحقيقة جاء بعد فوات الأوان مع أن كل الارهاصات كانت تنبئ عن الذي كان يدبر للأخوان وعما سيحل بالشعب المصري من كوارث الاستبداد، وكذلك أدرك علماء المغرب أخطاءهم ولكن بروح ايجابية تتمتع بالنقد الذاتي وتطلب من الجيل الحاضر الاستفادة من الأخطاء.

هذه أمثلة من بلدان ثلاثة والقائمة تطول من تونس بورقيبة حين اختلست جهود صالح بن يوسف وعبد العزيز الثعالبي، وفي باكستان حين طالب محمد إقبال بدولة مسلمة منفصلة عن الهند ولكن الذي فاوض الإنكليز كان محمد علي جناح العلماني الإسماعيلي.

والخلاصة التي نريد أن نصل إليها من خلال هذا الاستعراض هي أنه ليس غريبا وجود المتربصين من السياسيين الذين يتحينون الفرص لقطف ثمار جهود الآخرين، ولكن الغريب هو غفلة المؤسسين والقادة عن الذين يتقنون التزلف والتظاهر بالوطنية، وربما تكون طهارة قلوب المدافعين عن الاسلام والأوطان تجعلهم لا يتخيلون أن هناك من يبيع الأوطان في سبيل التسلق والجلوس على كرسي الحكم.

كما أن غياب الرؤية الفكرية الواضحة أثناء العمل وأثناء المقاومة وعدم امتلاك المفتاح النظري الذي يسدد المقاومة وينير الطريق وعدم وجود مؤسسات قوية تحمي الجهود التي تبذل وتمتلك الآليات لتداول القيادة ووصول الأكفاء الأمناء، كل هذا مما يضعف الجهود وتسمح للآخرين باختلاسها.



ماذا لو طبق المسلمون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (طالب الولاية لا يولى) أليس هذا مدعاة لمنع وصول أصحاب المطامع والمطامح،وأن من يشم منه رائحة حب الرئاسة والتسلط على الناس يجب أن يبعد عن المناصب

ولماذا لا نقرأ التاريخ فهناك من المؤرخين من يرى أن كل جهة تتحالف مع ديكتاتورية فإن هذه الأخيرة سوف تستخدم الجهة الأولى كمخلب قط لأغراضها.



وأخيرا لابد أن نعترف أن معلوماتنا عن بعض الأحداث فيها قليل أو كثير من النقص فنظن أننا قمنا بكل شئ وجاء الآخرون واستغلوا جهودنا، ولكن تبين لنا من خلال استعراض النماذج السابقة أن أطرافا أخرى قامت بجهود أيضا ولكنها هي أو غيرها استطاعت استغلال الأحداث لصالحها.

إنه لا يكفي أن نقول:إن جهودنا سرقت وجهادنا بل يجب أن نبحث عن الأسباب.



أرسل تعليقك على هذا المقال

الهوامش :

- مذكرات شاهد للقرن / 256

- تركي رابح : ابن باديس باعث النهضة / 146

- من أجل التغير / 47

-الجزائر : منطلقات وآفاق / 216 والذي دعا إلى مؤتمر الصومام هو رمضان غبان الذي رفع شعار الدولة جزائرية وليست عربية ولا إسلامية.

- مشكلة الأفكار /82

- الآثار الكاملة 3 /69

- المصدر السابق 3 /69

- الجزائر : منطلقات وآفاق / 206

- المصدر السابق / 223

- عبد السلام ياسين : حوار الماضي والمستقبل /296

- وهذا يشعر بأن الحزب كان فيه خليط وهو من أسباب ضعفه

- حوار الماضي والمستقبل / 233

- المصدر السابق /183

- سماها الكاتب الصحفي محمد جلال كشك : (ثورة يوليو الأمريكية).

- ليس هنا مجال الكلام عن النظام الخاص عند الأخوان وكيف كان من أسباب ضعفهم ارتكابه لأخطاء مثل قتل القاضي الخزندار دون علم المرشد وتفجير المحكمة بعد أن رفض المرشد، ولهذه الأسباب قال الشيخ أبو الحسن الندوي : (( والواقع أن الأخوان لو لم يشاركوا – لفترة قليلة اخرى- في السياسة العملية أو لم يتورطوا في تلك السياسة لظهرت هناك ثورة اسلامية)) انظر : في مسيرة الحياة 1 / 235

- هناك علامات استفهام حول هذا الحصار فالذين كانوا معه يتهمونه بأنه أنشأ علاقة مع اليهود. انظر : أحمد عبد المجيد. الأخوان وعبد الناصر.

- هو تنظيم عسكري داخل الأخوان له قيادته الخاصة ويرتبط بالمرشد مباشرة.

- أحمد حسن الباقوري: بقايا ذكريات / 72 وصلاح شادي ضابط من الأخوان في قسم الشرطة.

- المصدر السابق / 106 والكلام لحسن عشماوي أحد قادة الأخوان

- أحمد عادل كمال : النقط فوق الحروف / 376

- أحمد عبد المجيد : عبد الناصر والأخوان / 315

- أحمد عادل كمال : النقط فوق الحروف / 371

- أحمد عبد المجيد : الأخوان وعبد الناصر / 316

- حصاد العمر / 134
أضافة تعليق