همسة تربوية
بقلم الدكتور / خليل بن عبد الله الحدري
كلية التربية – جامعة أم القرى
كيف تشتري ذهبا أو برتقالا أو أرزا أو حتى خيارا من غير ميزان ، وكيف ترضى أن يسوق لك البائع هذه البضاعة من غير معيار ؟! ألست تَظلم أو تُظلم إن فعلت ذلك ، أجل فكيف تقبل أمرا يتعلق بعقيدتك أو عبادتك أو أخلاقك أو سلوكك ، يسوِّقها لك الآخرون من غير ميزان تعرف به صواب هذا الأمر من خطئه ، ونفعه من ضرره ؟!
وما رأيك حين يكون ميزان هذا الأمر من عند ربك الخالق المدبر العليم الحكيم الخبير ، العالم بما يصلح الفرد والأسرة والمجتمع والأمة والعالم كله ، ألست تحسن التعامل من خلاله قبولا أو رفضا ، وأنت في غاية الطمأنينة والسرور ، دون أن تجد في نفسك حرجا ولا ممانعة .
إذن فاعلم – يا رعاك الله - أن الوحي الرباني الخاتم هو معيار هذه الأمة العالمية الخاتمة وميزانها الإلهي في الحكم على الأشياء والأشخاص والأفكار من حيث الصواب والخطأ ، والقبول والترك ، في خلودٍ ومرونة ، وأصالةٍ ومعاصرة ، ووضوح وشمول ، ومثالية وواقعية ، لن تبلغ عقول واضعي الأنظمة البشرية ، وسدنة القوانين الوضعية عشر معشارها ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، تمثلت هذه المعاني في كون هذا المعيار قد جاء على صورتين اثنتين :
أولاهما : قواعد كلية ، وأطر عامة ، تتعلق بالقضايا المتجددة في حياة الناس ، يعمل فيها العقل البشري بكل حرية ، ما دام يدور في إطار مرجعي من الوحي الرباني ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وقد أخذت هذه القواعد الكلية والأطر العامة مساحة كبيرة من التشريع الرباني ، تفوق مساحة ما جاءت به القضايا التفصيلية ، لتترك للبشر فرصة تكييف عيشهم ، والترقي في سلم حضارتهم ، وفق مردا خالقهم ، العالم بما يصلحهم وما يصلح لهم .
وثانيهما : قضايا تفصيلية تولى الخالق البارئ العليم الحكيم تحديدها ، معطياً العقل البشري فيها إجازة سرمدية ، لعجزه وقصوره عن أن يقدم للإنسان فيها جديدا ، كالعبادات والمواريث والطلاق والعِدد ، وغيرها ، وإذا ورد نهر الله بطل نهر معقل .
وما من شك أن على مؤسساتنا التعليمية والتربوية أن تحمل الناس على ( القضايا التفصيلة ) حملا، وأن تأطرهم عليها أطرا ، وأن تحمي جناب الشريعة ــ فيها ــ من تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين .
وعليها في ( القواعد الكلية ) أن تدفع بالعقل البشري إلى مهمته الأساسية ، ووظيفته الحقيقية ، و هي التفكير الإيجابي المبدع ، فيما يحقق مصالح البلاد والعباد ، دون أن يتجاوز مرجعيته الربانية في خطوطها العامة ، ومعالمها العريضة ، فيكون الوحي مع العقل حاكما لا محكوما ، وقائدا لا مقودا ، وموجِها لا موجَها ، ليضمن العقل البشري السلامة من الشطط في إدارة أمور الدين والدنيا ، فيحسن الاستخلاف في الأرض ، لتحقيق الهدف ( الغائي ) من الوجود البشري ، وهو عبادة الله تعالى بمفهومها الشامل ، تلك العبادة التي توسع مدلول العمل الصالح ليشمل مصالح البلاد والعباد ، ومطالب الدنيا والآخرة .
وإذا لم تنطلق مؤسساتنا التعليمية والتربوية لتحقيق هذه الغاية ، في مسيرة تنموية شاملة فمن يحقق هذه الغاية إذن ؟!
إن عقلا أو فلسفة أو نظاما يقف بالإنسان عند حدود الحياة الدنيا ، مرابطا عند ( الأهداف الوسائل ) ، غافلا أو معرضًا عن ( الأهداف الغايات ) ، عقلٌ قد تُودِّع منه ، يأبى الله أن يحب صاحبه ، وقد عرض حياته للمقت ، أو يكرمه وقد رضي لنفسه الهوان ، ولا يمكن أن يرضى المولى العليم الخبير في قدره الشرعي لعبده مثل هذا السلوك .
أجل .. إن حكمة الوجود البشري على الأرض ، تقتضي تحقيق غاية نهائية ترتبط بها جميع أعمالنا الفردية والجماعية ، الدينية والدنيوية ، تصل الدنيا بالآخرة في صنعة تربوية محكمة ، كيما يكون للأولى قيمة إيجابية يهون فيها البذل ، وتُستسهل معها الشدائد ، ويُتصبر فيها على اللأواء ، أما حين يحصل العزل بين الحياتين ، فتغيب النظرة الأخروية عن حسابات أفرادنا ومؤسساتنا ؛ فإن خللا ضخما سيقع بلا شك ، وستكون مسالكنا الفردية والجماعية مادية نفعية ذرائعية ( براجماتية ) صرفة ، تحكمها معايير السلطة والمصلحة الماديتين ، فترسخان في النفس البشرية معالم ( الأنا ) الجشعة البشعة ، وهو ما جاء واضحًا في الحقيقة التربوية القرآنية ، التي قسَّمت الناس في تحقيق أمنياتهم إلى فريقين :
= فريق تقف به أمنياته عند حدود الحياة الدنيا فقط ، دونما نظرة استراتيجية إلى المستقبل الأخروي البعيد ، فيردد بلسان حاله ومقاله :’’ ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ’’ .
= وفريق يربط الحياتين برباط إيماني عملي لا انفصام له ، في نظرة استراتيجية واعية ، تسمو بصاحبها فوق معطيات المادة الخانقة ، في أجواء من العطاء والنقاء والوفاء ، يردد معها بلسان حاله ومقاله : ’’ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ’’ .
ومع الأمنيات تصنع الأهداف قريبها وبعيدها ، حقيرها وعظيمها ، فانيها وباقيها ، وينقسم الناس تجاهها إلى فريقين ، فريق لا تتجاوز نظرته أصابع قدميه ، يرضى بالقريب والحقير والفاني ، وفريق تخترق نظرته حجب المستقبل القريب والبعيد ، لا يُشبع نهمته ، ولا يسد جوعته إلا رضا الله والدار الآخرة ، فلا يرضى بغير البعيد والعظيم والباقي ، دون أن يفرط في حقه المشروع من الأهداف الدنيوية ، بل إن تحقيق هذه الأهداف الدنيوية القريبة ــ بكل كفاءة واقتدار ــ جزءٌ من هدفه الاستراتيجي البعيد : ’’ وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ’’ . فاللحم والحلية والتجارة ( أهداف دنيوية ثلاثية الأبعاد قريبة المنال يشترك في السعي لتحقيقها المسلم وغير المسلم ) ، وينفرد المسلم بـ ( الهدف الرابع ) المتعلق بالغاية النهائية من الوجود البشري والمتمثل في ( ولعلكم تشكرون ) ، ليكون هدفا استراتيجيًا تتبناه الفئة الممتازة في الأرض ، وهم الحاملون للإسلام قولا وعملا واعتقادا ، الشاكرون لنعماء الله تعالى على خلقه وإيجاده ، ثم هدايته للإسلام وهي أجل النعم على الإطلاق .
فكيف تحقق مؤسساتنا المعنية بصناعة القلوب والعقول هذا الشكر بمفهومه الشامل ، ؟ وكيف تستهدف بمقتضياته الإنسان استهدافا أمثل ، فتحقق له سعادة الدارين ، في توازن مطرد بين مطالب الروح والجسم ، والفرد والجماعة ، والراعي والرعية ، والأولى والآخرة ، وبصنعة تكاملية تجمع شتاتها الغاية ، وتوحد جهودها المهمة ، وتؤلف بين أعمالها المصلحة ، فيتهادى مسيرها في انسجام إداري حصيف ، كأن صورته الواعية المنتجة ترى من وراء ستر رقيق .
.تربيتنا
بقلم الدكتور / خليل بن عبد الله الحدري
كلية التربية – جامعة أم القرى
كيف تشتري ذهبا أو برتقالا أو أرزا أو حتى خيارا من غير ميزان ، وكيف ترضى أن يسوق لك البائع هذه البضاعة من غير معيار ؟! ألست تَظلم أو تُظلم إن فعلت ذلك ، أجل فكيف تقبل أمرا يتعلق بعقيدتك أو عبادتك أو أخلاقك أو سلوكك ، يسوِّقها لك الآخرون من غير ميزان تعرف به صواب هذا الأمر من خطئه ، ونفعه من ضرره ؟!
وما رأيك حين يكون ميزان هذا الأمر من عند ربك الخالق المدبر العليم الحكيم الخبير ، العالم بما يصلح الفرد والأسرة والمجتمع والأمة والعالم كله ، ألست تحسن التعامل من خلاله قبولا أو رفضا ، وأنت في غاية الطمأنينة والسرور ، دون أن تجد في نفسك حرجا ولا ممانعة .
إذن فاعلم – يا رعاك الله - أن الوحي الرباني الخاتم هو معيار هذه الأمة العالمية الخاتمة وميزانها الإلهي في الحكم على الأشياء والأشخاص والأفكار من حيث الصواب والخطأ ، والقبول والترك ، في خلودٍ ومرونة ، وأصالةٍ ومعاصرة ، ووضوح وشمول ، ومثالية وواقعية ، لن تبلغ عقول واضعي الأنظمة البشرية ، وسدنة القوانين الوضعية عشر معشارها ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، تمثلت هذه المعاني في كون هذا المعيار قد جاء على صورتين اثنتين :
أولاهما : قواعد كلية ، وأطر عامة ، تتعلق بالقضايا المتجددة في حياة الناس ، يعمل فيها العقل البشري بكل حرية ، ما دام يدور في إطار مرجعي من الوحي الرباني ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وقد أخذت هذه القواعد الكلية والأطر العامة مساحة كبيرة من التشريع الرباني ، تفوق مساحة ما جاءت به القضايا التفصيلية ، لتترك للبشر فرصة تكييف عيشهم ، والترقي في سلم حضارتهم ، وفق مردا خالقهم ، العالم بما يصلحهم وما يصلح لهم .
وثانيهما : قضايا تفصيلية تولى الخالق البارئ العليم الحكيم تحديدها ، معطياً العقل البشري فيها إجازة سرمدية ، لعجزه وقصوره عن أن يقدم للإنسان فيها جديدا ، كالعبادات والمواريث والطلاق والعِدد ، وغيرها ، وإذا ورد نهر الله بطل نهر معقل .
وما من شك أن على مؤسساتنا التعليمية والتربوية أن تحمل الناس على ( القضايا التفصيلة ) حملا، وأن تأطرهم عليها أطرا ، وأن تحمي جناب الشريعة ــ فيها ــ من تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين .
وعليها في ( القواعد الكلية ) أن تدفع بالعقل البشري إلى مهمته الأساسية ، ووظيفته الحقيقية ، و هي التفكير الإيجابي المبدع ، فيما يحقق مصالح البلاد والعباد ، دون أن يتجاوز مرجعيته الربانية في خطوطها العامة ، ومعالمها العريضة ، فيكون الوحي مع العقل حاكما لا محكوما ، وقائدا لا مقودا ، وموجِها لا موجَها ، ليضمن العقل البشري السلامة من الشطط في إدارة أمور الدين والدنيا ، فيحسن الاستخلاف في الأرض ، لتحقيق الهدف ( الغائي ) من الوجود البشري ، وهو عبادة الله تعالى بمفهومها الشامل ، تلك العبادة التي توسع مدلول العمل الصالح ليشمل مصالح البلاد والعباد ، ومطالب الدنيا والآخرة .
وإذا لم تنطلق مؤسساتنا التعليمية والتربوية لتحقيق هذه الغاية ، في مسيرة تنموية شاملة فمن يحقق هذه الغاية إذن ؟!
إن عقلا أو فلسفة أو نظاما يقف بالإنسان عند حدود الحياة الدنيا ، مرابطا عند ( الأهداف الوسائل ) ، غافلا أو معرضًا عن ( الأهداف الغايات ) ، عقلٌ قد تُودِّع منه ، يأبى الله أن يحب صاحبه ، وقد عرض حياته للمقت ، أو يكرمه وقد رضي لنفسه الهوان ، ولا يمكن أن يرضى المولى العليم الخبير في قدره الشرعي لعبده مثل هذا السلوك .
أجل .. إن حكمة الوجود البشري على الأرض ، تقتضي تحقيق غاية نهائية ترتبط بها جميع أعمالنا الفردية والجماعية ، الدينية والدنيوية ، تصل الدنيا بالآخرة في صنعة تربوية محكمة ، كيما يكون للأولى قيمة إيجابية يهون فيها البذل ، وتُستسهل معها الشدائد ، ويُتصبر فيها على اللأواء ، أما حين يحصل العزل بين الحياتين ، فتغيب النظرة الأخروية عن حسابات أفرادنا ومؤسساتنا ؛ فإن خللا ضخما سيقع بلا شك ، وستكون مسالكنا الفردية والجماعية مادية نفعية ذرائعية ( براجماتية ) صرفة ، تحكمها معايير السلطة والمصلحة الماديتين ، فترسخان في النفس البشرية معالم ( الأنا ) الجشعة البشعة ، وهو ما جاء واضحًا في الحقيقة التربوية القرآنية ، التي قسَّمت الناس في تحقيق أمنياتهم إلى فريقين :
= فريق تقف به أمنياته عند حدود الحياة الدنيا فقط ، دونما نظرة استراتيجية إلى المستقبل الأخروي البعيد ، فيردد بلسان حاله ومقاله :’’ ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ’’ .
= وفريق يربط الحياتين برباط إيماني عملي لا انفصام له ، في نظرة استراتيجية واعية ، تسمو بصاحبها فوق معطيات المادة الخانقة ، في أجواء من العطاء والنقاء والوفاء ، يردد معها بلسان حاله ومقاله : ’’ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ’’ .
ومع الأمنيات تصنع الأهداف قريبها وبعيدها ، حقيرها وعظيمها ، فانيها وباقيها ، وينقسم الناس تجاهها إلى فريقين ، فريق لا تتجاوز نظرته أصابع قدميه ، يرضى بالقريب والحقير والفاني ، وفريق تخترق نظرته حجب المستقبل القريب والبعيد ، لا يُشبع نهمته ، ولا يسد جوعته إلا رضا الله والدار الآخرة ، فلا يرضى بغير البعيد والعظيم والباقي ، دون أن يفرط في حقه المشروع من الأهداف الدنيوية ، بل إن تحقيق هذه الأهداف الدنيوية القريبة ــ بكل كفاءة واقتدار ــ جزءٌ من هدفه الاستراتيجي البعيد : ’’ وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ’’ . فاللحم والحلية والتجارة ( أهداف دنيوية ثلاثية الأبعاد قريبة المنال يشترك في السعي لتحقيقها المسلم وغير المسلم ) ، وينفرد المسلم بـ ( الهدف الرابع ) المتعلق بالغاية النهائية من الوجود البشري والمتمثل في ( ولعلكم تشكرون ) ، ليكون هدفا استراتيجيًا تتبناه الفئة الممتازة في الأرض ، وهم الحاملون للإسلام قولا وعملا واعتقادا ، الشاكرون لنعماء الله تعالى على خلقه وإيجاده ، ثم هدايته للإسلام وهي أجل النعم على الإطلاق .
فكيف تحقق مؤسساتنا المعنية بصناعة القلوب والعقول هذا الشكر بمفهومه الشامل ، ؟ وكيف تستهدف بمقتضياته الإنسان استهدافا أمثل ، فتحقق له سعادة الدارين ، في توازن مطرد بين مطالب الروح والجسم ، والفرد والجماعة ، والراعي والرعية ، والأولى والآخرة ، وبصنعة تكاملية تجمع شتاتها الغاية ، وتوحد جهودها المهمة ، وتؤلف بين أعمالها المصلحة ، فيتهادى مسيرها في انسجام إداري حصيف ، كأن صورته الواعية المنتجة ترى من وراء ستر رقيق .
.تربيتنا