يأتي القرار الأممي 2803 في لحظة سياسية شديدة التعقيد ، عقب حرب استنزاف طويلة أنهكت الأطراف كافة وغيّرت بنية المشهد الإقليمي والدولي حول القضية الفلسطينية . وبينما يُسوَّق القرار بوصفه خطوة نحو التهدئة وفتح مسار سياسي جديد ، فإن جوهره يعكس مسعى لإعادة تشكيل البيئة السياسية والأمنية في قطاع غزة تحت وصاية دولية موسَّعة ، بما يتجاوز مجرد إنهاء الحرب إلى إعادة هندسة المشهد برمّته .
هذه القراءة تتناول القرار من زاوية ما يمكن للمقاومة الفلسطينية أن تستفيد منه سياسياً واستراتيجياً في مرحلة انتقالية حسّاسة قد تطول أو تُعاد صياغتها بشكل متكرر ، وفقًا لموازين القوى .
*أولًا : طبيعة القرار ... إعادة هندسة لا تسوية :*
يهدف القرار 2803 إلى خلق نظام إدارة إنتقالية في غزة بغطاء دولي ، مع ترتيبات أمنية مشددة وتقييد واضح لدور الفصائل .
هذه الصيغة تُظهر أن المجتمع الدولي يتجه نحو إدارة الصراع لا حله ، ويفضل نموذج “ الاستقرار الأمني ” على أي نقلة حقيقية نحو دولة فلسطينية ذات سيادة .
وبالتالي فإن التحدي أمام المقاومة ليس ميدانياً فقط ، بل سياسي وجودي يتعلق بموقعها في النظام الفلسطيني المقبل .
*ثانيًا : ممرات استثمار القرار سياسيًا لصالح المقاومة :*
_1 - الإنتقال من الرفض الإنفعالي إلى الرفض المُدار ._
التعامل الذكي مع القرار يقتضي عدم الوقوف عند حدود الرفض المبدئي ، بل إستخدام الرفض كأداة تأثير من خلال :
* كشف ثغرات القرار قانونياً وسياسياً .
* فضح عجزه عن تقديم مسار حقيقي لتقرير المصير .
* تحويله إلى ملف تفاوضي يحدّ من سقف التدخل الدولي .
بهذا تتحول المقاومة من موقع رد الفعل إلى فاعل سياسي قادر على إعادة تعريف شروط اللعبة .
_2 - تعزيز الشرعية الشعبية بوصفها خط الدفاع الأول ._
في ظل بيئة انتقالية مضطربة ، يبقى الرأسمال الشعبي للمقاومة أقوى أوراقها .
فكلما زادت ثقة المجتمع بها ، صَعُب على أي طرف دولي أو محلي تجاوزها أو فرض بدائل سياسية تُهمّش دورها .
الشرعية الداخلية ليست حاجة معنوية فقط ، بل ضرورة استراتيجية تحدد شكل المستقبل الفلسطيني .
_3 - الدفع نحو إطار وطني موحد يمنع فرض الوصاية :_
اللحظة الحالية تتيح فرصة نادرة لإعادة بناء وحدة وطنية قائمة على قواعد واضحة ، لا على محاصصة ظرفية .
توحيد الموقف الفلسطيني — حتى بمستوى الحد الأدنى — كفيل بتقليل أثر أي نشاط دولي يهدف إلى خلق هياكل انتقالية تتجاوز الإرادة الوطنية الفلسطينية .
فالمعركة الحاسمة اليوم ليست عسكرية ، بل معركة على تمثيل القرار الفلسطيني .
_4 - تحويل ملف الإعمار إلى ورقة تفاوض لا ورقة ابتزاز ._
الإعمار سيكون بوابة رئيسية للتدخل الدولي . لكن يمكن للمقاومة الاستفادة منه بالطرق التالية :
* ربط الإعمار بخريطة سياسية تمنع خلق كيانات موازية للسلطة الوطنية .
* عدم السماح بتحويل المساعدات إلى أداة لإعادة تشكيل النظام السياسي على حساب الإرادة الشعبية .
* المطالبة بضمانات تفصل الإغاثة عن المشاريع الأمنية .
بهذا يتحول الإعمار إلى أداة مقاومة سياسية لا أداة نفوذ خارجي .
_5 - إدارة العلاقات الإقليمية بذكاء يقي من العزل ._
تعدد الأطراف الإقليمية المهتمة بغزة يمكن أن يكون تهديدًا أو فرصة .
تُحسن المقاومة الاستفادة منه إذا حافظت على :
* علاقات متوازنة تمنع الاحتكار أو الارتهان .
* تواصل دبلوماسي يوضح حدود أي تدخل في الشأن الفلسطيني .
* شبكة دعم سياسي وإعلامي تُعزّز الرواية الفلسطينية .
فالمعادلة الإقليمية لا تقل أهمية عن المعادلة الداخلية .
*ثالثًا : التهديد الأكبر ... إعادة تعريف التمثيل الفلسطيني*:
القرار 2803 قد يكون مدخلًا لإعادة تشكيل “ من يملك الحق في التحدث باسم الفلسطينيين ” .
وهذا خطر جوهري يتطلب من المقاومة التأكيد على :
* أنها ركن أصيل في المعادلة الوطنية .
* أن أي ترتيبات إنتقالية يجب أن تمر عبر إرادة فلسطينية جامعة .
* أن القضية ليست ملفًا إنسانيًا بل قضية تحرر وطني .
فالمعركة اليوم ليست على الأرض وحدها ، بل على الشرعية والتمثيل .
*رابعًا : خلاصة استراتيجية :*
القرار 2803 ليس نهاية الحرب، بل بداية مرحلة سياسية معقدة قد تحدد شكل القضية الفلسطينية لسنوات .
والمقاومة الفلسطينية تملك القدرة على تحويل هذه اللحظة من تهديد إلى فرصة إذا اعتمدت استراتيجية تجمع بين :
* حفظ الشرعية الشعبية .
* إدارة الرفض السياسي بذكاء .
* تعزيز وحدة الموقف الفلسطيني .
* استثمار الإعمار كأداة تفاوضية .
* بناء شبكة دعم إقليمية ودولية متوازنة .
بهذه المقاربة يمكن للمقاومة أن تنتقل من موقع المُستهدَف بالقرار إلى فاعل رئيسي في صياغة ترتيبات المرحلة المقبلة ، وأن تحافظ على حضورها الوطني ودورها السياسي في معادلة لا تزال مفتوحة على احتمالات متعددة .






