عندما انكسرت المعارضة السياسية وتنظيماتها المسلحة في سوريا بعد التدخل الروسي مستخدما القوة بوحشية -بجانب إيران وحزب الله ومليشيات أخرى طائفية- لإنقاذ بشار الأسد من السقوط الذي كان وشيكا نهاية عام 2014، كتبت أن الحرب حُسمت، وأن عائلة الأسد قد امتلكت هذا البلد العريق إلى أمد مفتوح.
في ذلك الوقت كانت تجارب الربيع العربي تنهار الواحدة بعد الأخرى، ولم يتبق إلا تونس، فكنا نقول إنها الوحيدة التي نجت، وهى وحدها ترد على إسرائيل بأن صحراء العرب ليست كلها استبدادا، ففيها نقطة ضوء ومساحة خضراء، هي ديمقراطية تونس الخضراء، وبذلك تحرم إسرائيل من مقولتها بأنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، رغم أنها ديمقراطية تشوبها العنصرية في كيان فاشي.
ومن قلب اليأس من فشل كل حراك شعبي عربي، فاجأتنا ثورتا الشعبين الجزائري والسوداني، فخففتا من هذا اليأس، وأكدتا عدم واقعية الركون إلى فكرة موت الشعوب بالمطلق، وأثبتتا عدم دقة القطع بأن السياسة العربية تخلو من التمردات والمفاجآت، فهي متغيرة ومتحركة، وتضرب حيث لم يكن يتوقع أحد أن تفعل ذلك.
وجرى التغيير في البلدين في ما سُميت الموجة الثانية من الربيع العربي، ثم حدث ما هو مؤلم ليعيد الإحباط مجددا، إذ فشلت ثورة الشعب السوداني، وتحولت إلى اقتتال عنيف بين الجيش ومليشيا كانت جزءا من الجيش، ثم انقلبت ورفعت السلاح، ولا تزال الحرب الدموية مستمرة مخلّفة ملايين الضحايا والمشردين ودمارا واسعا.
ومن الجيد أن الجزائر آمنة هادئة، لم تحدث فيها فظاعات كما حدث في بلدان الربيع الأخرى من قمع ومعتقلات وحروب ودماء، لكن مسارها السياسي والديمقراطي عاد إلى ما كان عليه قبل إجبار الرئيس المريض بوتفليقة على الاستقالة.
وكانت الصدمة الحقيقية عندما انكسر ربيع تونس، وانتهت تجربتها الديمقراطية الواعدة، إذ لم يكن أحد يتوقع حدوث ذلك، وهذا البلد يعيش اليوم أوضاع ما قبل ثورة الياسمين، حيث الحاكم الفرد الذي يحتكر السلطة مقدّما نموذج المستبد المدني، دون فارق بينه وبين المستبد العسكري أو الديني.
لكن الشعوب لا تموت أبدا مهما بدا أنها هدأت ورضخت واستكانت وقبلت بالواقع المخيف، وأن السياسة، مهما تجمدت أوصالها وتيبست شرايينها وعروقها، خاصة في المنطقة العربية التي تعاند بشدة بالغة التغيير والإصلاح، هذه السياسة تقاوم وتمانع وتتمرد على المستبدين والطغاة الذين يُحرّمونها على الشعوب ويرسمونها ويسخّرونها لمصالحهم وحدهم فقط.
ها هي سوريا قد عادت بعد نحو 9 سنوات من إنقاذ الأسد من السقوط بواسطة حلفائه، لتستأنف ثورتها بقوة السلاح المتاح لديها، وتقضي على الديكتاتور وتُسقطه بالضربة القاضية هذه المرة بينما حُماته يتخلون عنه، أو لا يقدرون على إنقاذه ثانية.
خلال 12 يوما فقط، تنجح المعارضة المسلحة بشكل مذهل في تحرير كل المناطق التي كان يسيطر عليها الأسد، فقد انتقلت سوريا المفيدة إلى المعارضة فيما يشبه زلزالا عسكريا وسياسيا ومعنويا هائلا، بل هو زلزال تاريخي بأعلى درجة له.
من كان يتصور أن تكون هناك قيامة للمعارضة السورية التي تفتت وتوزعت بين المناطق التي يشملها “اتفاق أستانا” والمهاجر والملاجئ، حتى نسيناها ولم نعد نتذكر قادتها وناشطيها لطول فترة الركود التي عاشتها بعد أن كانت ساحات القتال قد هدأت قبل سنوات.
كان التصور أن الأسد وعائلته امتلكوا سوريا تماما، وأنه يستحيل تخليص البلد منهم، لكن لا مستحيل أمام الشعوب إذا أرادت التحرر من الطغيان، وإذا أرادت الحياة وتطلعت إلى الحرية التي كلفت السوريين ثمنا باهظا.
كيف حصل هذا الذي عايشناه على الشاشات خلال أقل من أسبوعين؟ حيث تسقط القرى والمدن والمناطق بشكل متسارع وكأنه لم يكن هناك نظام يحكمها، ولا جيش يدافع عنها، ولا شرطة وأجهزة حكومية توجد فيها.
ما جرى يكشف هشاشة النظام، ويُظهر أن العنف ضد مواطنيه كان أهم وسائل الترهيب ليحافظ على وجوده، وهذه السياسة انتقلت من الأسد الأب إلى الأسد الابن طوال أكثر من خمسة عقود من الإذلال والرعب للشعب السوري.
إذا كانت كل تجارب الربيع العربي قد واجهت الانكسار فإن الثورة السورية، وهي الأضخم في التضحيات على شعبها، لا ينبغي أبدا أن يكون لها طريق آخر غير النجاح وعدم الانحراف عن هذا الطريق قيد أنملة، فالمتربصون بها لا يُستهان بهم، وإذا استجمعت الثورة المضادة قواها فإنها ستؤسس لطغيان أشد، كما ستكون كارثة عظيمة أنه بعد كل هذه الدماء والدمار والتشريد لمعظم الشعب ألا تؤسَّس دولة جديدة لكل السوريين، قواعدها الحرية والعدالة والديمقراطية والحقوق.
السوريون مطالَبون بدراسة أسباب إخفاق الربيع العربي لكي يتجنبوا لعنة الفشل أو تسلل الثورة المضادة إليهم وصناعها من الداخل ومن الإقليم، والعالم الديمقراطي الباحث عن مصالحه سيقف مع من يحكم بغض النظر عن طريقة وصوله إلى الحكم وأهدافه؛ أهي وطنية رشيدة أم شريرة خبيثة؟ سوريا الجديدة لا تحتمل أي إخفاق أبدا، وليس خافيا أن هناك من يراهن على الفوضى، وهناك من لا يزال يدافع عن عائلة الأسد وممارساتها، ويبشر باقتتال أهلي بين قوى المعارضة المسلحة نفسها، وهناك مخدوعون بيننا بالشعارات القومية الزائفة ولافتات المقاومة الكاذبة التي كان يرفعها نظام دمشق ويتاجر بها.
يقولون في كرة القدم إن نتيجة هذه المبارة أو تلك لا تقبل القسمة على اثنين، أي لا بد من الفوز فيها لأهميتها القصوى، وهذا ينطبق على الثورة السورية الحمراء (نسبة إلى الدماء الكثيفة التي سالت)، هذه الثورة أمام حتمية تاريخية، هي الفوز فقط، فلا بديل عن الفوز، فإما الحياة الحرة الكريمة، وإما الموت إلى الأبد.
*نقلاً عن الجزبرة مباشر
في ذلك الوقت كانت تجارب الربيع العربي تنهار الواحدة بعد الأخرى، ولم يتبق إلا تونس، فكنا نقول إنها الوحيدة التي نجت، وهى وحدها ترد على إسرائيل بأن صحراء العرب ليست كلها استبدادا، ففيها نقطة ضوء ومساحة خضراء، هي ديمقراطية تونس الخضراء، وبذلك تحرم إسرائيل من مقولتها بأنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، رغم أنها ديمقراطية تشوبها العنصرية في كيان فاشي.
ومن قلب اليأس من فشل كل حراك شعبي عربي، فاجأتنا ثورتا الشعبين الجزائري والسوداني، فخففتا من هذا اليأس، وأكدتا عدم واقعية الركون إلى فكرة موت الشعوب بالمطلق، وأثبتتا عدم دقة القطع بأن السياسة العربية تخلو من التمردات والمفاجآت، فهي متغيرة ومتحركة، وتضرب حيث لم يكن يتوقع أحد أن تفعل ذلك.
وجرى التغيير في البلدين في ما سُميت الموجة الثانية من الربيع العربي، ثم حدث ما هو مؤلم ليعيد الإحباط مجددا، إذ فشلت ثورة الشعب السوداني، وتحولت إلى اقتتال عنيف بين الجيش ومليشيا كانت جزءا من الجيش، ثم انقلبت ورفعت السلاح، ولا تزال الحرب الدموية مستمرة مخلّفة ملايين الضحايا والمشردين ودمارا واسعا.
ومن الجيد أن الجزائر آمنة هادئة، لم تحدث فيها فظاعات كما حدث في بلدان الربيع الأخرى من قمع ومعتقلات وحروب ودماء، لكن مسارها السياسي والديمقراطي عاد إلى ما كان عليه قبل إجبار الرئيس المريض بوتفليقة على الاستقالة.
وكانت الصدمة الحقيقية عندما انكسر ربيع تونس، وانتهت تجربتها الديمقراطية الواعدة، إذ لم يكن أحد يتوقع حدوث ذلك، وهذا البلد يعيش اليوم أوضاع ما قبل ثورة الياسمين، حيث الحاكم الفرد الذي يحتكر السلطة مقدّما نموذج المستبد المدني، دون فارق بينه وبين المستبد العسكري أو الديني.
لكن الشعوب لا تموت أبدا مهما بدا أنها هدأت ورضخت واستكانت وقبلت بالواقع المخيف، وأن السياسة، مهما تجمدت أوصالها وتيبست شرايينها وعروقها، خاصة في المنطقة العربية التي تعاند بشدة بالغة التغيير والإصلاح، هذه السياسة تقاوم وتمانع وتتمرد على المستبدين والطغاة الذين يُحرّمونها على الشعوب ويرسمونها ويسخّرونها لمصالحهم وحدهم فقط.
ها هي سوريا قد عادت بعد نحو 9 سنوات من إنقاذ الأسد من السقوط بواسطة حلفائه، لتستأنف ثورتها بقوة السلاح المتاح لديها، وتقضي على الديكتاتور وتُسقطه بالضربة القاضية هذه المرة بينما حُماته يتخلون عنه، أو لا يقدرون على إنقاذه ثانية.
خلال 12 يوما فقط، تنجح المعارضة المسلحة بشكل مذهل في تحرير كل المناطق التي كان يسيطر عليها الأسد، فقد انتقلت سوريا المفيدة إلى المعارضة فيما يشبه زلزالا عسكريا وسياسيا ومعنويا هائلا، بل هو زلزال تاريخي بأعلى درجة له.
من كان يتصور أن تكون هناك قيامة للمعارضة السورية التي تفتت وتوزعت بين المناطق التي يشملها “اتفاق أستانا” والمهاجر والملاجئ، حتى نسيناها ولم نعد نتذكر قادتها وناشطيها لطول فترة الركود التي عاشتها بعد أن كانت ساحات القتال قد هدأت قبل سنوات.
كان التصور أن الأسد وعائلته امتلكوا سوريا تماما، وأنه يستحيل تخليص البلد منهم، لكن لا مستحيل أمام الشعوب إذا أرادت التحرر من الطغيان، وإذا أرادت الحياة وتطلعت إلى الحرية التي كلفت السوريين ثمنا باهظا.
كيف حصل هذا الذي عايشناه على الشاشات خلال أقل من أسبوعين؟ حيث تسقط القرى والمدن والمناطق بشكل متسارع وكأنه لم يكن هناك نظام يحكمها، ولا جيش يدافع عنها، ولا شرطة وأجهزة حكومية توجد فيها.
ما جرى يكشف هشاشة النظام، ويُظهر أن العنف ضد مواطنيه كان أهم وسائل الترهيب ليحافظ على وجوده، وهذه السياسة انتقلت من الأسد الأب إلى الأسد الابن طوال أكثر من خمسة عقود من الإذلال والرعب للشعب السوري.
إذا كانت كل تجارب الربيع العربي قد واجهت الانكسار فإن الثورة السورية، وهي الأضخم في التضحيات على شعبها، لا ينبغي أبدا أن يكون لها طريق آخر غير النجاح وعدم الانحراف عن هذا الطريق قيد أنملة، فالمتربصون بها لا يُستهان بهم، وإذا استجمعت الثورة المضادة قواها فإنها ستؤسس لطغيان أشد، كما ستكون كارثة عظيمة أنه بعد كل هذه الدماء والدمار والتشريد لمعظم الشعب ألا تؤسَّس دولة جديدة لكل السوريين، قواعدها الحرية والعدالة والديمقراطية والحقوق.
السوريون مطالَبون بدراسة أسباب إخفاق الربيع العربي لكي يتجنبوا لعنة الفشل أو تسلل الثورة المضادة إليهم وصناعها من الداخل ومن الإقليم، والعالم الديمقراطي الباحث عن مصالحه سيقف مع من يحكم بغض النظر عن طريقة وصوله إلى الحكم وأهدافه؛ أهي وطنية رشيدة أم شريرة خبيثة؟ سوريا الجديدة لا تحتمل أي إخفاق أبدا، وليس خافيا أن هناك من يراهن على الفوضى، وهناك من لا يزال يدافع عن عائلة الأسد وممارساتها، ويبشر باقتتال أهلي بين قوى المعارضة المسلحة نفسها، وهناك مخدوعون بيننا بالشعارات القومية الزائفة ولافتات المقاومة الكاذبة التي كان يرفعها نظام دمشق ويتاجر بها.
يقولون في كرة القدم إن نتيجة هذه المبارة أو تلك لا تقبل القسمة على اثنين، أي لا بد من الفوز فيها لأهميتها القصوى، وهذا ينطبق على الثورة السورية الحمراء (نسبة إلى الدماء الكثيفة التي سالت)، هذه الثورة أمام حتمية تاريخية، هي الفوز فقط، فلا بديل عن الفوز، فإما الحياة الحرة الكريمة، وإما الموت إلى الأبد.
*نقلاً عن الجزبرة مباشر