تمهيد:
منذ السنوات الأولى للصراع الدائر في اليمن كان سؤال الحل والمخرج حاضرًا بقوَّة استدراكًا للأمور مِن أن تتَّجه للأسوأ، وخصوصًا مِن قبل عموم الناس داخل اليمن وخارجها، إذ أنَّ الصراع بدأ يفرض أوضاعًا ومخاطر سياسيًّة واقتصادية واجتماعية وأمنية جديدة. وكان النقاش حول هذه القضايا يشغل بال المدنيين في حين كان تجَّار الحروب يخوضون نضالهم الخاص لبناء أمجادهم ومواردهم وتلبية أطماعهم ورغباتهم في النفوذ والسيطرة.
كان المشهد اليمني منذ عام 1990م يدور في إطار سياسي بين كيانات حزبية اختارت الصندوق الانتخابي كحكم بينها لمنحها القدرة على إدارة السلطة وفق برامجها ومشاريعها التي صوَّت الشعب لصالح أصحابها. غير أنَّ تعطيل هذا الإطار مِن قبل علي عبدالله صالح، والذي ظلَّ يحكم اليمن لأكثر مِن (30) عامًا، وتفريغه مِن طاقته الفاعلة لصالح بناء مؤسَّسات عسكرية وأمنية تخضع لسلطة عائلته وقرابته، كيما تساند بقاءه في الحاكم وسيطرته على الدولة التي هي ملك للشعب، دفع الشعب اليمني للثورة عليه كما ثار أجدادهم على حكم الإمامة الزيدية التي استبدَّت بالحكم والسلطة ومقدَّرات الوطن. ورغم تمكُّن ثورة الشعب عام 2011م مِن إسقاط “صالح” مِن الحكم بسلميَّة فشل “صالح” في شيطنتها وتحويلها لتمرُّد مسلَّح يمكنه أن يواجهه بكلِّ عنف، إلَّا أنَّ مَن أداروا المشهد عقب الثورة لم يكونوا بقدر ما أنيط إليهم مِن مسئوليَّات. وهو ما أتاح لـ”صالح” للتحالف مع جماعة الحوثي، مع وجود رعاية إقليمية ودولية، للانقضاض على الدولة، وبتواطؤ مِن قبل بعض مَن صدِّروا للمشهد السياسي مِن قبل قوى الثورة.
مثَّل دعم جماعة الحوثي كمليشيا متمرِّدة على الدولة وصولًا للانقلاب على السلطة خطوة لفتح باب التمرُّدات المسلَّحة الأخرى، وانهيار الدولة لتحلَّ محلَّها سلطات الأمر الواقع هنا وهناك، ثمَّ فتح المجال أمام التدخُّلات الخارجية بكلِّ حمولتها السياسية والعسكرية والأمنية.
وهكذا تعقَّد المشهد اليمني بشكل كبير جدًّا، وفي سابقة لم يشهد لها مثيلًا، وهو ما صعَّب الحلول وسدَّ المخارج.
استطلاع رأي:
مِن أجل استقراء المشهد النخبوي ومدى إدراكه للوضع اليمني، قام الباحث بنشر استبيان بسيط على متابعي صفحته في “فيسبوك”، وعبر قروبات “واتساب”، بشأن الحل لوضع اليمن، وتضمَّن سؤالًا واحدًا فقط، هو: برأيك.. ما هو الحلُّ الأنسب لوضعنا في اليمن؟
ووضعت الخيارات التالية للإجابة:
1- تشكيل جبهة موحَّدة مِن كل الكيانات الوطنية القائمة.
2- تشكيل كيان وطني جديد خلافًا للكيانات القائمة المستهلكة.
3- الوقوف إلى جانب كيان وطني (أيا كان) شريطة أن يكون قادرًا على الحسم والسير بالأمور إلى الأمام، دون التفات للكيانات الأخرى.
وقد شارك خلال (24) ساعة (168) شخصًا؛ وقد جاءت النتيجة كما يلي:
18 أصوات للخيار الأوَّل.75 صوتًا للخيار الثاني.57 صوتًا للخيار الثالث.18 إجابة خارج الخيارات المطروحة ما استلزم استبعادها.
تحليل الاستبيان:
لا تزال معاناة ومأساة عشر سنوات مِن الصراع المسلَّح، والحصار الاقتصادي، وحالات الخوف والفقر والجهل المتنامية، تضغط الجميع للسؤال عن المخرج، وعن الحل، سواء على صعيد التفكير الشخصي أو على صعيد التفكير الجمعي. ورغم ذلك لا تزال الضبابية سائدة والتوهان قائم والتفكير متردِّد بين المخارج الممكنة والحلول المناسبة. وهذا تترجمه الإجابات المشتَّتة حتَّى في داخل الكيانات السياسية والاجتماعية والفكرية بمختلف أيديولوجيَّاتها.
ومِن خلال نتائج الاستبيان فإنَّ 50% مِن النتائج الصحيحة ترى جدوى الخيار الثاني، في حين يأتي الخيار الثالث في المرتبة الثانية بنسبة 38%، فيما يأتي الخيار الأوَّل في المرتبة الثالثة بنسبة 12%. وهذا يعني أنَّ النخبة المشاركة تميل أكثر لتشكيل كيان جديد، وهذا نتيجة طبيعية للأفق المسدود وتوازن القوى الذي انتهت له الحالة اليمنية خلال عشر سنوات مِن الصراع، حيث يتَّجه الناس عادة للتفكير “خارج الصندوق” -كما يقال. خاصَّة أنَّ جميع الأطراف منخرطة في ذات الإشكالات والإخفاقات، وباتت جميعًا غير قادرة على الحسم منفردة أو مجتمعة، وغير مستعدَّة للتنازل لبعضها البعض أو لصالح قواسم مشتركة يخضع لها الجميع.
تحليل الخيارات واقعيًّا ومنطقيًّا:
خلافًا لتحليل الاستبيان، يمكن مناقشة الخيارات المذكورة في الاستبيان مِن خلال بعض الخطوط والأفكار على النحو التالي:
الخيار الأوَّل: تشكيل جبهة موحَّدة مِن كلِّ الكيانات الوطنية القائمة:
وهو خيار قامت عدَّة محاولات سابقة له، وسبقت فيه تجارب مختلفة خلال الفترة الممتدَّة مِن عام 2014م وحتَّى عام 2024م، غير أنَّها محاولات جاءت بإملاءات خارجية وبدافع حسابات آنيَّة، ولم تكن ناتجة عن مراجعات وقناعات موضوعية، وهو ما جعلها تراوح مكانها. وجميعها اصطدمت بأجندات القوى الإقليمية والدولية، وبمطامع القوى الداخلية وحالة النفور وعدم الثقة بينها، لهذا فشلت أو ظلَّت هياكل شكلية دون أيِّ تأثير يذكر باتِّجاه الحلول والمخارج.
وإيجابيَّة هذا الخيار حال تحقُّقه تتمثَّل في كونه سيعزِّز قوَّة وقدرة هذه الكيانات الوطنية، وسيفقد العدو ورقة اللعب بالتناقضات القائمة بينها وتوظيف صراعاتها لصالحه، وهذا سيرجِّح كفَّتها على صعيد المسار السياسي والعسكري والجغرافي والاقتصادي؛ أمَّا سلبيَّاته فتتمثَّل في أنَّ تشكيل هذه الجبهة سيخضع لحسابات معقَّدة ومحاصصات مركَّبة، ومواثيق وضمانات، وفترة زمنية لترميم جسور العلاقة وإعادة بناء الثقة، فضلًا عن أنَّ إدارة جبهة مِن قبل شركاء متنازعون ومتشاكسون سيبقى معجزة مستحيلة.
ومِن ثمَّ فإنَّ هذا الخيار رغم كونه الخيار الأنسب إلَّا أنَّه غير ممكن في صورة مثالية نافعة، خصوصًا وأنَّ معظم الأطراف خاضعة لأطراف خارجية راعية ومتحكِّمة بقراراتها وسياساتها ومواقفها واتِّجاهاتها، وبالتالي سيبقى التنازع والشكُّ والاختراق ممكنًا وواردًا في أيِّ ظرف، بل والعودة إلى انفراط العقد والدخول في مواجهات مسلَّحة.
الخيار الثاني: تشكيل كيان وطني جديد خلافًا للكيانات القائمة المستهلكة:
في ظلِّ الإخفاقات والفشل والترهل والارتهان الذي أصاب كثيرًا مِن الكيانات القائمة فقد المواطن ثقته بها، وبات يتطلَّع إلى قيام كيان وطني جديد، خلافًا للكيانات السابقة، ومتخفِّفًا مِن أعبائها التاريخية وحمولتها الأيديولوجية وثاراتها العصبية. وهي أمنية مشروعة في ظلِّ الانسداد الحاصل وخيار طموح. وهو تطلُّع يستثمره البعض لتشكيل كيانات جديدة تجتذب إليها الأفراد ثمَّ تتحوَّل مع الوقت إلى جزء مِن المشهد المنقسم والمتصارع.
وفي حال افتراض إمكانية قيام كيان وطني جديد مستقل فإنَّ الأمر سوف يتطلَّب جهودًا وإمكانات وإعدادات واسعة وكبيرة لضمان أن يكون هذا الكيان بقدر الطموح. ولن يسهل تشكيل كيان وطني جديد بهذا التصوُّر الطموح خلال فترة وجيزة، بما يضمن إمكانية إدراك مسار الواقع المندفع للهاوية. فضلًا عن ذلك، هناك دون محاذير خطرة قد تنتاب هذا التشكُّل إن ولد، فمع فرضيَّة قيام كيان وطني جديد مستقل سيواجه تحدِّيات كبيرة، مِنها مصادر التمويل في ظلِّ مجتمع منهك، وموقف الأطراف الوطنية الأخرى مِنه باعتباره سيكون منافسًا لها، وفضلًا عن ذلك فقد يستهدف مِن هذه الأطراف المنافسة ومِن ثمَّ قد ينخرط في مواجهة مع المنافسين له الساعين لإحباطه، قبل أن يدخل في صراع لاستنقاذ الوطن.
الخيار الثالث: الوقوف إلى جانب كيان وطني قائم:
وذلك شريطة أن يكون قادرًا على الحسم والسير بالأمور إلى الأمام. وهو خيار واقعي، يستند إلى أنَّ الكيانات الوطنية الموجودة على الساحة اليمنية اليوم ظاهرة ومعلنة، وقد بدت للمجتمع مشاريعها وأجنداتها، وهو مِن خلال الخبرة والتجربة لا يجهل تاريخها وأوضاعها وجهودها المختلفة، سواء كانت في السلطة أو في المعارضة، وفي بعدها الحكومي والشعبي؛ وبالتالي فالمواطن على قدر كبير مِن الوعي الذي يمكِّنه مِن أن يحكم بضمير حيٍّ ومسئوليَّة تامَّة، إذا ما تجنَّب آثار العداوات والخصومات والعصبيَّات، ليختار كيانًا تجتمع فيه أغلب الإيجابيَّات وأغلب المصالح باعتباره الخيار الممكن الأفضل. وفي حال كهذه ستجبر الأطراف الأخرى على الرضوخ لهذا الكيان باعتبار أنَّ له حاضنة شعبية كبيرة تنحاز له وتقف خلفه ليقوم بمسئوليَّته الوطنية على أفضل وجه ممكن. إنَّ انحياز الشعوب لترجيح كفَّة ما سيجعل بقية الأطراف أمام أمر واقع، فإمَّا أن تتراجع أمام هذا السيل المجتمعي الهادر، وإمَّا أن تنسحق أمام تقدُّمه واندفاعته للخروج إلى برِّ الأمان.
الخلاصة:
مِن العرض السابق، يمكن القول أنَّ اليمنيين أمام خيارات تمتدُّ مِن المثالي الطموح إلى الواقعي الممكن، ومِن غير الممكن السهل إلى المكلف الممكن، وهذه الخيارات هي:
خيار لا يمكن تحقيقه، وهو الخيار الأوَّل، لأنَّ الكيانات القائمة تابعة -بشكل أو بآخر- لدول خارجيَّة لها أجنداتها ومطامعها في اليمن، ولو كان هذا الخيار ممكنًا لتحقَّق منذ فترة طويلة.
خيار مكلف تحقيقه، وهو الخيار الثاني، بناء على أنَّ بناء كيان مستقل بعيد عن الكيانات السابقة سيكون مكلفًا ومواجهًا مِن الجميع، وسيكون ملزمًا بمواجهة الجميع بمَن فيهم تلك الكيانات العالقة في الوضع الراهن، فقد بذلت فيها الدول الراعية قدرًا كبيرًا مِن الاستثمار. هذا في حال ما إذا تمكَّن أن يكون كيانًا كبيرًا، أمَّا إذا كان كيانًا صغيرًا فسوف يُطحن.
خيارًا ممكن تحقيقه، وهو الخيار الثالث، لأنَّ نصرة كيان كبير موجود وترجيح كفَّته سيدفع بقيَّة الكيانات للتسليم له وعدم مصادمته، وهذا ما يعمل الخارج لإفشاله وعدم السير نحوه، ورفع فاتورة التوجُّه إليه، ما يجعله خيارًا مكلفًا.
*نقلا عن المؤسسة العربية للدراسات الاستراتيجية