ما أصعبَ غزة! وما أقسى المشاهد الوافدة منها! صور مستفزة قاتلة. خناجرُ تهاجمُ العينَ والروح. كلُّ غضبٍ قليل. وكلُّ صراخٍ ضائع.
ما أصعبَ غزة! حقولٌ مرصودةٌ للقتل. جثث أيامها تختلط بجثثِ الأبناء. والعالم يتابعُ بالمناظير. والمفاوضات شاقة. كما يقولون. وبين صيغةٍ وأخرى تتبخَّر بيوتٌ وعائلات.
ما أصعبَ غزة! رغيفها مخبوزٌ بالدم. وأيامُها مكويَّة بالنار. لا السقفُ يحمي ولا الجدار يرد. البيتُ محطةٌ عابرة تنتظر ركامَها. والعائلات مرشحةٌ للترشيق ومواصلة الهجرة بما تبقَّى من الأبناء. والموتُ لا يتعب. يضربُ في الشمال. ويضربُ في الجنوب ولا ينسَى الوسط. والفضاءُ الذي كانَ يرتكبُ النجومَ والغيوم بدل عاداته. لا يرسل إلا المسيّرات. وهي طيورُ التَّقدمِ العلمي والتكنولوجي. ترصد وتسدّد. تأكلُ لحمَ الأطفال بالشوكةِ والسكين وإنجازات الذكاء الاصطناعي.
ما أصعب غزة! كلُّ شبرٍ مشروعُ قبر.
لم يكنِ الشرقُ الأوسطُ في العقودِ الماضية بحيرةَ سلام. كانتِ الحروبُ جوالةً في أرجائه. ورأينا الجثثَ تتراكم مرةً على الحدودِ ومراتٍ في العواصم. لكنَّنا لم نشهد مثل هذه الكثافةِ في القتل. مثل هذه البراعةِ في اصطياد المدنيين. وفي دفع جموعٍ غفيرةٍ إلى هجراتٍ قاتلة متلاحقة على مسرحٍ مبلل بالدم. لقد أطلقَ مختبرٌ إسرائيلي فيروسَ القتلِ على سكان غزةَ وهو وباءٌ مقصودٌ أخطر من «كورونا».
عدوانية إسرائيل ليست جديدة. لكنَّ الفظاعةَ سجلَّت أرقاماً قياسية. وكنَّا نتوهَّم أنَّ العالمَ لن يسمحَ بمقتلة تدوم شهوراً. العالمُ الذي يغضب من أجلِ معارض روسي. أو شبرٍ أوكراني. العالمُ الذي كان يستنفر لدعم «الثورات الملونة» هنا وهناك. والذي كانَ يغضب لما يسميه انتهاكات لحقوق الإنسان. فجأة راحَ العالم يشيح بنظره. أصيبَ بالصمم وأصيب بالعمى. راحَ يردّد عباراتٍ لرفع العتب في حين أنَّ الواجبَ الأوَّلَ هو وقفُ القتل. التَّذرعُ بممارساتٍ رافقت هجومَ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) لا يغطي المذبحةَ المفتوحة التي أعقبته. ثم إنَّ ذلك الهجوم هو ابن نزاع طويل وليس شرارته الأولى. لا عذرَ للعالم ولا ورقة تينٍ لضميره.
لا بدَّ من وقف النار سريعاً وبشكل دائم. كي يرى العالمُ بحرَ الركام في غزة. كي يتذكَّرَ أنَّ عددَ القبور الجديدة يوازي عدد سكان مدينة صغيرة. كي يعاينَ الأمهات اللواتي ينتظرن أبناء لن يرجعوا أبداً. كي يشمَّ رائحةَ الغضب واليأس وما ينذر بتجدّد دورات الثأر. لا غزة قابلة للموت، ولا شعب غزة قابل للإمحاء. ويقول التاريخ إنَّ تركَ جروح نكبة ملتهبة لا يعد بغير نكبةٍ جديدة لذوي الجلادِ والضحية معاً.
استوقفني مشهدُ الطائرات الأميركية تلقي مساعداتٍ إنسانيةً لسكان غزة. مجرد حصول ذلك يشكل اعترافاً بحجم المأساة التي يعيشها سكانُ القطاع. وبحجم الجريمة التي يرتكبُها الجيشُ الإسرائيلي بحقهم. ولا شكَّ أنَّ إلقاء المساعدات مفيد. لكنَّنا لا نتكلَّم هنا عن النمسا أو فنلندا. إنَّنا نتكلم عن الولايات المتحدة. عن «القوة العظمى الوحيدة» أو ما يقترب من ذلك. عن الجهة التي تحصّن الدولة العبرية حين تتعرض للأخطار. مشهد رئيسها يسارع إلى زيارة إسرائيل بعد السابع من أكتوبر كان لافتاً. ومثله توافدتِ الأساطيل والجسر الجوي. هذا الدور بالذات يلقي على أميركا مسؤولية كبرى. إنَّها مسؤوليةُ وضعِ اليد على هذا النزاع. والخروج من مشاهد النكبة الجديدة بما يحول دون تكرارها. وبغضّ النظر عن المآخذ على سياسات واشنطن فإنَّها الوحيدة القادرة على لعب دور بهذا الحجم. لا روسيا المنشغلة بأوكرانيا قادرة ولا الصين راغبةٌ أو قادرة. أوروبا بدت هي الأخرى تائهة في هذا النزاع. أضاعتِ البوصلة وأضاعت صورتها.
لا خيار غير احتواء النكبة الجديدة. القضية أكبر بكثير من بقاء رموز «حماس» في غزة. وأكبر من مصير يحيى السنوار. القضية تتعلَّق بمستقبل شعبٍ ومستقبل الاستقرار في المنطقة. مجرد عودة إلى العقودِ الماضية تظهر أنَّ النكبةَ الأولى كانت السبب الرئيسي في زعزعة الاستقرار في المنطقة. وكثيراً ما رُفع شعار تحرير فلسطين لتغطية طموحات أو تبرير سياسات. هذا من دون أن ننسى أنَّ مذابحَ النكبة الأولى كانت أقلَّ حجماً وبكثير من مذابح النكبة الحالية. كلُّ المشاريع التي هزَّتِ المنطقة توكَّأت على الموضوع الفلسطيني.
أنجبت مشاهدُ النكبةِ الأولى مواجهاتٍ وحروبَ عواصم وخطفَ طائراتٍ واغتيالات وتبادلَ ضرباتٍ على مسارح متعددة. لم ينجحِ اغتيالُ القادة الفلسطينيين في اغتيال قضية فلسطين. ورثت أجيال المهمة عن أجيال. احتفظ الفلسطينيون بجذوةِ المقاومة تحت الاحتلال وفي المخيمات البعيدة. وتذرَّع بعض المتطرفين أحياناً بالظلم اللاحقِ بالشعب الفلسطيني لإطلاق برامجَ تضع الفلسطينيين والعرب في صدامٍ مع العالم بأسره. أخطرُ ما يمكن أن يحدثَ هو أن لا يتم احتواء أهوالِ النكبة الجديدة بحل دائم لا يمكن أن يستحقَّ الحياة ما لم يفتح الباب وبضماناتٍ لقيام دولة فلسطينية مستقلة. سيرتكب العالمُ إثماً كبيراً إذا سارعَ إلى تناسي أهوال النكبة الجديدة وتركها تنتج أجيالاً من التَّطرفِ تنفجر بمجتمعاتها والعالم على غرار ما شهدناه سابقاً وهذه المرة على نحو أشد.
لا خيارَ غير احتواء النكبة الثانية. والاحتواء يبدأ بوقف دائم للنار. ثم بإزاحة مهندس النكبة الثانية واسمه بنيامين نتنياهو من المشهد والقرار. وبالموازاة إقرار مسار سياسي ملزم يؤدّي إلى قيام دولة فلسطينية. نقول مهندسُ النكبةِ لأنَّه يستحقُّ التسمية. ففي أوَّلِ لقاء له مع ياسر عرفات عند معبر إيريز بعد توليه رئاسة الوزراء للمرة الأولى في 1996 كان نتنياهو صريحاً. قال لعرفات إنَّه غيرُ معني باتفاق أوسلو وأي مرجعيات مشابهة. وخلال عهده الطويل أطلقَ الموجات الاستيطانية وانهمكَ بإضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية وإشاعة اليأس في صفوفِ الفلسطينيين وهو ما فتح باب «الطوفان». الامتناع عن احتواء النكبةِ الثانية لا يعد المنطقة بغير الطوفانات والمواجهات والساحات.
*نقلاً عن صحيفة الشرق الوسط