لا توجد حدود فاصلة بين العجز والتواطؤ في الموقف العربي من حرب الإبادة الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزّة، فالمادة المشتركة بينهما هي الرداءة؛ والتواطؤ أصله ومبتدؤه العجز، أي العجز المطبق من كلّ وجه، ممّا ينفي الذات القادرة، لانتفاء مقدمات القدرة من الإحساس الأخلاقي والوعي بالواجب والإرادة المتحفّزة. وهذه هي الرداءة، فالرداءة والحالة هذه فساد يلغي القيمة للكيانية العربية الراهنة، وهو ما تتكشف عنه الوقائع المتداخلة، من العجز، أو الامتناع، عن إغاثة ما يقترب من 2.5 مليون فلسطيني في قطاع غزّة، بكيس طحين أو لتر حليب، في حين يُمدّ ممرّ بريّ إغاثيّ للكيان الإسرائيلي، تشترك فيه دول الإمارات والبحرين والسعودية والأردن ومصر بحسب مصادر صحفية إسرائيلية، وهو ما ذكرناه في مقالة سابقة هي (التعزيز العربي “للصمود الإسرائيلي”!)، وهو ما أكدته بالصوت والصورة لاحقا؛ القناة 13 الإسرائيلية التي رافق مراسلوها رحلة من شحنات الإمداد ابتداء من الإمارات وصولا للكيان الإسرائيلي، (هل يُمكن أن يحظى صحفي فلسطيني بفرصة التصوير المتتابع بين ثلاثة بلاد عربية في تغطية حدث سياسي؟!).
لا يترك الإسرائيلي فرصة للصمت غطاء على الدعم العربيّ له. يمكن قول الكثير في تفسير الإصرار الإسرائيلي على كشف كلّ ما يجري بينه وبين شركائه العرب، لكن ما يهمّ الآن هو هذا الإذلال الذي يمارسه على هؤلاء الشركاء، ففي مرافعته، مثلا، في محكمة العدل الدولية ردّا على دعوى جنوب أفريقيا ضدّه باقترافه الإبادة الجماعية في حقّ الفلسطينيين في غزّة،
لا يترك الإسرائيلي فرصة للصمت غطاء على الدعم العربيّ له. يمكن قول الكثير في تفسير الإصرار الإسرائيلي على كشف كلّ ما يجري بينه وبين شركائه العرب، لكن ما يهمّ الآن هو هذا الإذلال الذي يمارسه على هؤلاء الشركاء
قال الإسرائيلي إنّ مصر هي من يغلق المعبر أمام المساعدات للفلسطينيين في غزّة؛ لا هو. ردّ الرئيس المصري على ذلك بقوله: “أنا هروح من ربّنا فين لو أنا السبب لو أنا مقدرش أدخل لقمة عيش لغزّة؟”، ثمّ شرح أن الإجراءات من الجانب الآخر (إسرائيل) هي التي تؤخّر وصول المساعدات للفلسطينيين في ضغط إسرائيليّ متعمّد يهدف إلى استعادة “الرهائن” (هكذا سمّاهم) الإسرائيليين من غزّة.
فلنتخيل كيف يصير إعلام أيّ دولة عربية في حالة من الهياج لو قال فلسطيني عاديّ كلمة من الشارع ينتقد فيها نظامها السياسي! ولنضع ذلك الهياج في مقابل الردود العربية على الإذلال الإسرائيلي، والذي يتبدّى في مواقف رسمية، كموقف أحزاب الصهيونية الدينية الذي يعدّ الأردن جزءا من “إسرائيل”، والذي تقترحه أوساط إسرائيلية وطنا بديلا للفلسطينيين.. ولنتذكر وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش حينما خطب في آذار/ مارس الماضي من باريس من على منصّة عليها خارطة “إسرائيل” تضمّ الأردن إلى فلسطين المحتلّة. في المقابل، اليوم تُزال في الأردن يافطة مطعم يحمل اسم “7 أكتبر”. علينا كذلك ألا نغفل عن كون الفكر السياسي لمنظمة “أرغون” التي لا تكتفي بفلسطين حدودا لـ”إسرائيل” ما زال حاضرا في السياسة الإسرائيلية، فكيف إذا كان محمولا على عقائد خلاصية باتت بالغة النفوذ اليوم في السياسة الإسرائيلية؟ ما هي ملامح قلق الدول العربية المُهدّدة بتلك التصوّرات العدائية الإسرائيلية؟ لا شيء!
فلنفحص هذه المرّة هذا الموقف العربي بالنظر إلى دعايات التمجيد الذاتي للدول العربية من أقصى غربها إلى أقصى شرقها، أو كما في المقولة الكلاسيكية العربية “من المحيط إلى الخليج”، كيف يمكن لأحد في هذه المساحة الفسيحة بمئات ملايينها أن ينام طاويا على احترام نفسه، وهو يسمع خطابات التمجيد الذاتي لدولته التي تقارف الشوفينية الهزلية، بينما هذا هو واقع الحال من قلّة الحيلة في أحسن الأحوال؟! وكأن خطابات التمجيد الذاتي لا تنعكس في الواقع إلا في مظاهر التشاتم العربي البيني حينما تقع أزمة بين دولة عربية وأخرى. وكما بات معروفا فإنّ هذه الشتائم تزداد قبحا وبغيا حينما يُقذف بها الفلسطيني، بل إنّ لدينا حالة عربية غريبة من فتح الأقنية وإطلاق الذباب الإلكتروني لسبّ الفلسطينيين لأسباب غير مفهومة وطوال الوقت بلا مناسبة محددة! لكن هكذا تظهر العظمة العربية على جلود الفلسطينيين الضعفاء!
ما سبق صورة عن الرداءة العربية الراهنة، التي يجادل البعض عنها بالقول إنّها ليست الأسوأ بالمقارنة مع ما بلغته الحالة العربية الإسلامية في أزمنة ماضية، كما في عهود الحروب الصليبية، حينما انهارت السلطة السياسية الجامعة للمسلمين في المشرق، لتتناثر في إمارات المدن، التي تورّط بعضها في تحالفات خيانية مكشوفة مع الصليبيين الأوروبيين الغزاة!
تنعقد هذه المقارنة بحسن نيّة، للقول إنّ النهوض وتجاوز الواقع المزري ممكن، طالما كان ممكنا في ظرف أسوأ. ونحن لا نجادل في هذا الإمكان، ولكن في هذا التصوّر المفتقد للوعي التاريخي والمتورّط في مغالطة انتقائية ورغبوية، فالواقع لا يُفهم بالرغبات، وتجاوزه لا يكون بالأوهام.
يمكن تفسير تلك الأوهام عن تفضيل راهننا على مراحل بائسة في تاريخنا، بوجود الخيانة في تاريخنا، وبكون التمزق السياسي التاريخي بلغ حدود تحويل المدن إلى إمارات وممالك؛ أي دولة عربية اليوم أكبر من أيّ منها، وهذا تصوّر شديد القصور، لا يلحظ أولا أنّ إمارات المدن لم تقم على عقائد قومية تفصل جوهريّا بين بلدان المسلمين، بمعنى أنّه لم تتكون عقائد سياسية تفصل ابن حلب عن ابن دمشق، وابن دمشق عن ابن الموصل، وهكذا.. فالانتماء المكاني انتماء طبيعي، كما نقول هذا حجازي وذاك مقدسي، لكنه أبدا لم يتبلور في عقائد سياسية تشيّد عليها معازل نفسية وسياسية وتُحدّد على أساسها الحقوق والواجبات.
أول معالم قصور المقارنة هو الغفلة عن طبيعة الدولة الحديثة، وعن تجلياتها تحديدا في السياق العربي، وهو ما يجعل هذه الدولة بحدودها الأوسع أسوأ من إمارات المدن، المتحوّلة والعابرة، وغير المنفكّة عن السلطان المعنوي الجامع للمسلمين (الخلافة ولو اسميّة كانت)، وذلك بالإضافة إلى عوامل التماسك الاجتماعي الممثلة بقوّة الدين في المجال العامّ، والدور الحاسم للمؤسسات الدينية الاجتماعية، في ذلك الوقت، في تعزيز وحدة المجتمعات الإسلامية في المشرق، كما في شأن المذاهب الفقهية والطرق الصوفية، والتي ساهمت تاليا، ولا سيما في الفترة المملوكية، بدور أكبر في تعزيز المجتمع من خلال نظام الوقف، وإنشاء المدارس، ونقاط الجذب والتجمع، حتى من خلال التكايا والخانقاوات والأربطة، لتثبيت الوجود العربي الإسلامي في البلاد المهدّدة، وفي قلبها بيت المقدس، في مواجهة المخاطر القادمة من خلف المتوسط.
ليست القضية فحسب في طبيعة الاجتماع السياسي، المختلف جوهريّا بين هذه اللحظة وتلك اللحظة، والذي من صور اختلافه اليوم قوّة الجهاز الأمني الرهيبة، وإطباق الدولة على المجتمع، وبنحو غير موجود في الماضي، ولكن يُضاف إلى ذلك اليوم انعدام المشروع السياسي الذي تكون له تمثّلات سلطوية في الواقع، ويمكن الاستناد إليه في إصلاح الحال العربي أو مدافعة الغزوة الاستعمارية الغربية عن بلادنا والتي منها الواقعة الصهيونية.
القضية فحسب في طبيعة الاجتماع السياسي، المختلف جوهريّا بين هذه اللحظة وتلك اللحظة، والذي من صور اختلافه اليوم قوّة الجهاز الأمني الرهيبة، وإطباق الدولة على المجتمع، وبنحو غير موجود في الماضي، ولكن يُضاف إلى ذلك اليوم انعدام المشروع السياسي الذي تكون له تمثّلات سلطوية في الواقع، ويمكن الاستناد إليه في إصلاح الحال العربي أو مدافعة الغزوة الاستعمارية
هذا المجال العربي كلّه من المحيط إلى الخليج، لن تجد فيه ما يمكن أن يذكّر بالسلاجقة أو الزنكيين أو الأيوبيين أو حتى المماليك، بوصفهم سلطات سياسية، (نعم، نعلم أنّ هؤلاء كان فيهم خونة أيضا). لقد كان دائما في مقابل أمراء المدن المتحركين بالأنانيات التافهة والغرائز الرخيصة أمراء آخرون لديهم مشاريع أكبر ساهمت في تشكيل قواعد اجتماعية أنهت الوجود الصليبي من بلادنا، كما لم تكن الخيانات تبعيات مطلقة وارتباطات عضوية بقدر ما كانت أهواء منحطة، بخلاف الحال اليوم فالهوى المنحطّ بعض من التبعية المطلقة والارتباط العضوي بالقوى الغربية المهيمنة!
لا يقل عن ذلك أهمّية الوعي بالاختلاف الحضاري بين هذه اللحظة وتلك اللحظات، فبالرغم من انفلات العقد السياسي للمسلمين في تلك الحقبة، فقد امتازوا بالتفوق الحضاري على همج الغزوات الصليبية الأوروبيين، الذين كانوا أقلّ من أن يمثّلوا تحدّيا حضاريّا للمسلمين أو خطرا فكريّا عليهم، وهو بخلاف الحال القائم الآن، واللحظة العلمية التقنية وقتها لم تكن لتخلق فجوة عسكرية يصعب جسرها بين العرب المسلمين والغزاة الأوروبيين بخلاف الواقع الآن.
هل علينا أن نعرض كلّ التعقيدات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتجذّرة الآن، للقول إنّ هذه هي اللحظة العربية الأكثر رداءة والأشدّ فسادا في تاريخ العرب والمسلمين؟!
لا نقول ذلك تيئيسا من إمكان التغيير، ولكن لأنّ الواقع لا ينبغي أن يُغطى بالأوهام، وكشفه من سبيل تجاوزه.
*نقلاً عن المركز الفلسطيني للإعلام