كان أنطونيو غرامشي الماركسي يجادل في كتابه "دفاتر السجن" ضد نظرية "الحتمية التاريخية" التي اعتبرتها الدراسات الماركسية على مدى قرن قدر التطور الثوري، لكن النظرية اصطدمت بالوقائع من قبل أن تنهار التجربة السوفياتية من الماركسية - اللينينية، وتتغير الدنيا من حول البروليتاريا.
اليوم، يرى البروفيسور اليوناني الاشتراكي وزير المال السابق يانيس فوروفاكيس أننا نعيش في عصر "الإقطاعية التكنولوجية في عالم افتراضي مخيف".
وكان الفيلسوف الفرنسي جان بودريار قد تحدث عن "الحتمية التكنولوجية"، وقمة التكنولوجيا حالياً هيالذكاء الإصطناعى الذي سيبقى محل الاهتمامات، لا فقط في عام 2024، بل أيضاً في الأعوام المقبلة.
وليس أكبر من التهليل للذكاء الاصطناعي سوى الخوف منه، فهو كثير الفوائد مثل الطاقة النووية، غير أنه خطر مثل السلاح النووي، لا بل هو أخطر منه، فالسلاح النووي جرى استخدامه مرة واحدة عندما أمر الرئيس هاري ترومان بقصف هيروشيما وناغازاكي في الحرب العالمية الثانية لإجبار اليابان على الاستسلام. وكل من يملك سلاحاً نووياً يعرف أنه ليس للاستخدام، لأن استخدامه انتحار ونهاية البشرية، بل للردع المتبادل بما يضمن الأمن.
الذكاء الاصطناعي مرشح لأن يستخدم في كل مجال، وأن يؤثر في الصناعة والزراعة والطب والهندسة والعلم ونمط الحياة، وليس أمراً عادياً أن يحذر رئيس المحكمة العليا الأميركية القاضي جون روبرتس من "تأثير الذكاء الاصطناعي في المحاكم"، ويرى أنه "ينزع الإنسانية من القانون"، ولا أن يعلن صندوق النقد الدولي أن الذكاء الاصطناعي سيلغي 40 في المئة من الوظائف.
في كتاب "عصر الذكاء الاصطناعي ومستقبل جنسنا البشري" سأل المؤلفون أريك شميدت ودانيال هوتنلوتشر وهنري كسينجر، "في عالم تصبح الآلات أشطر من الإنسان، ما الذي يعنيه بالفعل أن تكون إنساناً؟".
البروفيسور الكندي بوشوا بينيجبو، وهو أحد الآباء المؤسسين للذكاء الاصطناعي، أعطى جواباً، وقال "التكنولوجيا بهذه الوتيرة ستصل سريعاً إلى مستوى الذكاء البشري، أو حتى تتفوق عليه، وسيكون الأمر كما لو أننا ننشئ نوعاً جديداً من الكائنات على الأرض قادرة على اتخاذ قرارات مضرة وخطرة على البشر".
وقبل ذلك دعا فرنسيس فوكوياما في مقال نشرته "فورن أفيرز" إلى "إنقاذ الديمقراطية من التكنولوجيا"، لكن هناك من يجادل بأن هذا مجرد تصور أو احتمال.
صحيح أن انعكاسات الذكاء الاصطناعي ستكون غير مسبوقة على سياسات السلام وتكتيكات الحرب وتسيير الأعمال في المكاتب وإدارة الشؤون الحياتية الخاصة ونسبة البطالة، لكن الصحيح أيضاً أنه ليس لدى الذكاء الاصطناعي سوى "الداتا" التي يخزنها الإنسان في ذاكرته التكنولوجية، وهو يأخذ قراراته تبعاً لما في "المخزن" من معلومات، أما الذكاء البشري، فإن اتخاذ القرارات عنده يأتي من خلال المعلومات والخبرة المتراكمة والمشاعر الإنسانية والمرونة في رد الفعل وابتكار الحلول والمخارج.
وصحيح أن الإنسان صاحب القرار يمكن أن يكون خطراً وشريراً ومتطرفاً ومتعصباً ومتعطشاً للمال والسلطة، بمقدار ما يمكن أن يكون عاقلاً ومعتدلاً وعادلاً، لكن الصحيح أيضاً أن "الكائن الجديد" الذي ينتجه الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون وحش إلى يدمر الحياة بقرارات باردة حسب "الداتا" التي في ذاكرته. وهو، إن لم يصل إلى هذا الحد من الشر، فإنه سيخدم الأنظمة الديكتاتورية عبر تشكيل "فضاء معلومات" عن كل مواطن وكشف ميوله السياسية.
يقول الخبراء الاستراتيجيون في الأمور العسكرية إن السلاح في العصر القديم كان في خدمة الرجل، أما بعد الثورة والصناعية والتكنولوجية والرقمية فإن الرجل صار في خدمة السلاح. وعلى رغم كثرة الخدمات التابعة والسريعة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي، فإن الإنسان سيكون في خدمته وعبداً له.
الفيلسوف إشعيا برلين كان على حق حين قال "نحتاج إلى فهم أكثر من المعرفة".
*نقلاً عن إندبندنت عربية