أجرى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أخيراً زيارة إلى اليونان وتركيا ومن بعدها إلى الأردن والسعودية والإمارات وقطر ومصر والضفة الغربية، إضافة إلى إسرائيل، لتناول مواضيع عدة من ضمنها أمن البحر الأبيض والمشرق وليبيا في ما يتعلق بتركيا واليونان، وبالنسبة إلى البقية كانت الأولوية الأميركية السعي إلى تجنب اتساع أحداث غزة إلى ساحات أخرى، وعلى رأسها الدول المجاورة لإسرائيل، خصوصاً مصر والأردن، أو التصعيد مع إيران في لبنان وسوريا، كما كان أمن البحر الأحمر محل اهتمام رئيس مع السعودية، المتحاورة مع إيران أخيراً وباعتبارها رئيسة القمة العربية.
لدى الولايات المتحدة قناعة وثقة بأن مصر والأردن ملتزمان باتفاقات السلام مع إسرائيل، إلا أن هناك قلقاً أميركياً من أن يضع تطرف بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية ودعوتهم إلى التهجير القسري للفلسطينيين الترتيبات بين الدولتين وإسرائيل على المحك، باعتبار أن المساس بأمنها القومي نقطة فارقة للدولتين العربيتين، جعلتها تعلن أنها تشكل خطاً أحمر، بل صرح وزير الخارجية الأردني بأن ذلك سيفرغ اتفاق السلام من مضمونه، لذا كرر بلينكن مجدداً خلال جولته رفض بلاده للتهجير القسري وأكد وجوب عودة فلسطينيي غزة إلى ديارهم عندما تتوافر الظروف الآمنة لذلك.
وغني عن التنويه أن تداعيات الضغوط وتكدس المهجرين قسرياً قرب معبر رفح وتكرار العمليات العسكرية الإسرائيلية على محور فيلادلفيا تشكل مصدر قلق خاص لمصر التي حذرت مجدداً من أن أي مساس بالترتيبات الأمنية الحدودية يشكل تهديداً لأمنها القومي.
والمرتبة الثانية في الأولويات الأميركية مع إسرائيل كانت محاولة التوصل إلى اتفاق على أسلوب تطوير العمليات العسكرية الإسرائيلية، بحيث تظل مؤثرة وضاغطة على حركة "حماس"، وإنما مع خفض معدلات الخسائر الإنسانية والمادية لدى المدنيين الفلسطينيين التي أثارت الرأي العام في مختلف أنحاء العالم، وأفقدت إسرائيل تعاطف الأصدقاء معها عقب أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وشكلت مصدر انتقادات شديدة لتل أبيب وواشنطن وكسرت توافق الآراء بين الدول الغربية المؤيدة بصورة عامة لإسرائيل.
وبالنسبة إلى الاتصالات مع الدول العربية، ففي المرتبة الثانية من الأولويات يقع موضوع التوصل إلى اتفاق للإفراج عن الأسرى لدى الفلسطينيين في غزة وما يرتبط به من المحتجزين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، باعتبار أن إسرائيل لن تتحرك سياسياً أو توقف أو تخفف عملياتها العسكرية جذرياً من دون الإفراج عن الرهائن، ومن الطبيعي أن يكون هناك اهتمام خاص بهذا الموضوع خلال المحادثات مع مصر وقطر باعتبارهما وسيطين نشطين منذ بداية الأحداث الأخيرة.
وبالتوازي مع جهود الإفراج عن الرهائن هناك مساعٍ أميركية لجس نبض الدول العربية حول أسلوب إدارة غزة والتعامل مع "حماس" بعد الوصول إلى وقف إطلاق النار، على أمل التوصل إلى تفاهمات عربية ومشاركة بعضها في الإدارة المستقبلية للقطاع، في الجوانب الأمنية في ضوء طلبات متصاعدة لإسرائيل، وكذلك إدارياً وإنسانياً ومالياً، لمحاولة العودة إلى أوضاع شبه طبيعية بعد القتل والتدمير اللذين شهدناهما.
خلال الأسابيع الأخيرة انتشرت الاتصالات الأميركية والغربية الرسمية وغير الرسمية عبر مراكز البحث لمناقشة اقتراحات مختلفة حول ترتيبات ما بعد وقف العمليات العسكرية الإسرائيلية، دعيت شخصياً إلى بعضها إلا أنني انسحبت مما لم أرَه ملائماً لتجاهله أن الأولوية يجب أن تكون لوقف إطلاق النار وأن الاحتلال هو أصل المشكلة، وتتواصل الدعوات في هذا الصدد.
كما طرح وزير الدفاع الإسرائيلي أفكاراً تفترض استمرار السيطرة الأمنية الإسرائيلية على غزة وتؤمن حقها في التدخل الأحادي بحسب الحاجة، وتشير إلى إدارة فلسطينية محدودة للقطاع ومسؤوليات مهمة لدول عربية، خصوصاً مصر باعتبارها دولة الجوار المباشرة، مما أثار من جانب حفيظة التيار المتطرف في الحكومة الإسرائيلية الذي رأى فيها تنازلات لا تحقق الأمن ومن جانب آخر لم تلقَ ترحيباً من قبل العرب الرافضين استعادة إسرائيل السيطرة على غزة.
وقبل وصول وزير الخارجية الأميركي بأيام قليلة اغتالت إسرائيل القيادي الحمساوي صالح العاروري في ضاحية بيروتية تحت سيطرة "حزب الله"، وخلال الجولة أعلنت عن قتل أحد قيادات الحزب، مما زاد من التوترات الإقليمية وصعب مهمة وزير الخارجية، وعطل موقتاً الوساطة المصرية- القطرية في مسألة الإفراج عن الأسرى والمحتجزين.
أعتقد بأن إسرائيل قامت بهذه الاغتيالات في المقام الأول لاعتبارات سياسية داخلية وإثبات الذات للرأي العام الإسرائيلي، واستعادة هيبة القوى واليد الحديدية الإسرائيلية إقليمياً بعد صدمة السابع من أكتوبر، خصوصاً أن الأوضاع في قطاع غزة لم تحسم لمصلحتها حتى الآن.
وفي الوقت نفسه أعتقد أيضاً بأن إسرائيل اتخذت هذه الخطوة التصعيدية لقناعتها بأن رد فعل الأطراف الإقليمية إذا وجب سيكون محكوماً وتستطيع تحمله، وأن التصعيد المحكوم يخدمها ويوحي مرة أخرى أنها مهددة في المنطقة، مما يسهل تأمين دعم أميركي مادي وعسكري وسياسي متواصل، وكذلك تأييد بعض الدول الغربية، للتصدي للضغوط الدولية المتزايدة لمصلحة وقف إطلاق نار كامل في قطاع غزة.
أؤمن بأهمية التوصل إلى سلام عربي- إسرائيلي كامل وشامل، بما يسهل من جهود المنطقة في بناء مستقبل أفضل وآمن، يتم فيه استثمار خيرات المنطقة الإنسانية والمادية لتحقيق الطموحات المشروعة لشعوب المنطقة التي تتجاوز نسبة الشباب فيها 65 في المئة، وسلام وازدهار على أساس العدالة واحترام القانون وكفاءة النظم الاقتصادية إنتاجياً وتوزيعاً، أمور لن تتحقق أو تستقر إلا باحترام قوة القانون وفلسفته على حساب تجاوزات قانون القوة وتداعياتها.
وأشدد على ذلك لشعوري بأن الجهد الأميركي الحالي ينبني على حجة واهية وقاصرة بأن الواقعية السياسية يجب أن تدفع العرب حصرياً إلى القبول بالحاجات الإسرائيلية الأمنية المترتبة على أحداث السابع من أكتوبر، في حين يغفل الحق الفلسطيني المسلوب منذ أكثر من 70 عاماً، وتُعفى إسرائيل من مسؤولياتها في الأحداث الجسيمة التي تعرض لها أهل غزة، لذا انصبت الاقتراحات الأميركية كافة على ترتيبات فنية عملياتية لتهدئة القلق الإسرائيلي الأمني ومراعاة التركيبة السياسية الإسرائيلية، في حين جاءت معالجة الأوضاع الفلسطينية من زاوية إنسانية فحسب، وهي زاوية مهمة قد تساعد في علاج جزئي وإنما لا تؤدي إلى التئام الجرح نهائياً أو حتى مرحلياً، وستؤدي حتماً إلى حلقات جديدة من العنف المتبادل.
وأول خطوة نحو الخروج من الأزمة الحالية هو يقين إسرائيل أن أمنها واستقرارها مرهونان بحل القضايا السياسية وليس بممارسة القوة، ولا غبار على أن العنف يولد عنفاً ضد المحاربين والمدنيين، وكان الأمر كذلك قبل السابع من أكتوبر وخلاله وما بعده.
وعلى الدول العربية متابعة بيان قمة الرياض بإجراءات وأفعال ملموسة إزاء تجاهل إسرائيل النداءات المتكررة لوقف إطلاق النار وتوسعها في قتل الأبرياء وتدمير حياتهم، وعلى الفلسطينيين توفيق أوضاعهم حول هويتهم الوطنية فحسب، وأخذ زمام المبادرة في قيادة مسيرتهم التي لن تحل بيد أعداء أو رعاية الأصدقاء. وعلى الولايات المتحدة تقدير تداعيات سياساتها وازدواجية معاييرها جيداً على صدقيتها الدولية بصورة عامة ودورها ومكانتها في المنطقة.
وعلينا كدول عربية مخاطبة جميع الأطراف، بل بعضنا بعضاً، بصراحة ووضوح، متمسكين بالعدالة والقانون، وترجمة المناشدات إلى أفعال وتنشيط جهودنا السياسية والقانونية والمجتمعية لحشد التأييد لوقف إطلاق النار وتحميل إسرائيل مسؤولية أفعالها المخالفة للقانون الدولي والإنساني.
وأعتقد بأن أفضل أسلوب للخروج من الأزمة الحالية وتجنب تكرارها هو تبني خطوات انتقالية عملياتية عاجلة لتخفيف حدة الأزمة الحالية كجزء من خطة مكتملة لتحقيق حل سياسي للقضية، أي تبني صفقة تتم ضمنها معالجة أصل المشكلة وليس فقط أعراضها، وذلك من خلال الإجراءات التالية:
1- الإعلان العاجل عن وقف إطلاق نار كامل وشامل في غزة وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع.
2- الإفراج عن الرهائن مقابل محتجزين.
3- الاتفاق على ترتيبات فلسطينية- إسرائيلية لعدم استخدام العنف بين الجانبين، على أن تشرف على ذلك قوة دولية إلى حين تدريب كوادر فلسطينية مؤهلة.
4- اتفاق فلسطيني- فلسطيني على تشكيل وزارة فنية مؤهلة تناط بها السلطات والإمكانات لإدارة قطاع غزة والضفة الغربية كوحدة متكاملة في مرحلة انتقالية.
5- وضع خطة شاملة لإعادة بناء غزة على غرار مشروع مارشال بدعم دولي وعربي.
6- إصدار إعلان دولي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية تحت الاحتلال على أساس حدود 1967.
7- عقد الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني انتخابات وطنية قبل نهاية 2024.
8- وإقامة حل سلمي على أساس دولتين ذات سيادة وهوية مستقلة.
9- يقوم مجلس الأمن الدولي بتبني هذه الخطة كصفقة تنفذ عناصرها كافة وفقاً لبرنامج زمني محدد لا يتجاوز 18-24 شهراً.
هذا هو الطريق الأوحد لتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه الوطنية في دولته، وهذه هي الوسيلة المشروعة والعملية لتزويد إسرائيل بالأمن والقبول المنشود في الشرق الأوسط.
*نقلاً عن إندبندنت عربية