توفي قبل أسبوعين عالم الاقتصاد الجليل روبرت سولو الحائز جائزة «نوبل» للعلوم الاقتصادية سنة 1987 عن عمر قارب المائة عام.
قدّم سولو من خلال أبحاثه ونظرياته ثورة في النظرة السائدة للنمو الاقتصادي، وغيّر بفكره سياسات الدول تجاه دور الابتكار والبحث العلمي في الإنتاجية، وقدم نماذج اقتصادية قيّمة، وفكراً اقتصادياً نيّراً. وهو أحد أعمدة الاقتصاد الحديث، وأحد أكبر المؤثرين في الاستراتيجيات الاقتصادية للدول، وساهمت نظرياته في تأطير السياسات الاقتصادية ذات المدى الطويل.
وُلد سولو سنة 1924، وعاصر الكساد العظيم في الثلاثينات الميلادية، وقد أثرت هذه المرحلة على توجهه الاقتصادي شأنه شأن جيله من اقتصاديي الخمسينات والستينات الميلادية الذين شغلهم البحث في أسباب النمو الاقتصادي، خاصة بعد استقلال العديد من الدول النامية وتطلع مسؤوليها إلى النمو الاقتصادي.
وبدأ سولو التدريس في معهد ماساتشوستس للتقنية عام 1949 حتى تقاعد عام 1995، واستمر في عمله البحثي بعد ذلك حتى وقت قريب. وعندما بدأ في رحلته الفكرية في الاقتصاد، كان الاقتصاديون ينظرون إلى رأس المال والعمالة بصفتهما محددي النمو، وأن النمو الاقتصادي يأتي من خلال تراكم رأس المال المدعوم ببعض العوامل كالادخار. واشتهر عن سولو قناعته أن النمو في الاقتصادات المتقدمة لا يأتي ببناء المصانع وإنجاب الأطفال، مبيّناً أن الاقتصاد بالاعتماد على هذين المحددين فقط سيصل إلى ما وصفه بـ«الحالة المستقرة» التي لا يمكن للاقتصاد النمو بعدها بسبب زيادة النمو السكاني وتناقص العائدات.
وقاده ذلك إلى النظر في تأثير التقنيات بصفتها محدداً يُضاف لرأس المال والعمالة، وبدأ من خلال بحثه الشهير «مساهمة في نظرية النمو الاقتصادي» المنشور عام 1956؛ إذ أكد فيه على استقلالية النمو طويل الأجل عن معدل الادخار، وعرف نموذجه في هذه الورقة باسم «نموذج سولو». وتبع هذا البحث بآخر في السنة التالية بعنوان «التغير التقني ودالة الإنتاج الكلي»، وهو البحث الذي يدين له العالم بالفضل في إيضاح دور الابتكار الجوهري في النمو الاقتصادي المستدام، وأن التقنيات والابتكار يمكنهما أن يقودا إلى تحويل «الحالة المستقرة» إلى «نمو مستقر»، وذلك لكون الابتكار هو السبيل الوحيدة إلى زيادة الإنتاجية ورفع الكفاءة. وسولو هو أحد أبرز من بلور مصطلح «مجموع عوامل الإنتاجية» أو (Total Factor Productivity) الذي يعد اليوم أحد أهم مؤشرات الكفاءة الإنتاجية.
وكان لنظريات سولو حول دور الابتكار في الاقتصاد أثر عميق في سياسات الدول، فأقنعت نظرياته صانعي السياسات بدور الابتكار في الازدهار الاقتصادي، وجعلتهم يدعمون سياسات البحث والتطوير والتعليم والبنى التحتية للابتكار. كما استخدمت المؤسسات الحكومية رؤى سولو لرسم استراتيجيات الابتكار والتركيز على قدرة رأس المال البشري وإنتاجيتهم وتوفير البيئة الملائمة لابتكاراتهم.
وقد كان في قناعات سولو وصفة ناجحة للاقتصاديين؛ فقد كان يؤمن بأهمية التفاعل بين الخبراء الاقتصاديين الذين يعملون في الجامعات، وأولئك الذين يعملون في مختبرات القطاع الخاص. والهدف من هذا التفاعل هو أن يمضي الاقتصاديون وقتاً في المختبرات ليفهموا على نحو أفضل عشوائية التقدم العلمي، والتفاعل بين الابتكار وحوافز الشركات الساعية للربح. وتكوّنت قناعته هذه بعد عمله الاستشاري في مختبرات البحوث في شركة «جنرال موتورز»، التي استوعب بعدها أن العلماء والمهندسين قد يعملون على موضوع ما، ولكنهم قد ينتهون إلى حل مشكلة مختلفة، وهذا الحل قد يأتي بعوائد اقتصادية غير متوقعة، والأهم من ذلك أن العلوم الاقتصادية المنشورة «أو أدبيات الاقتصاد» غير قادرة على التقاط هذه الحالات.
لقد خلّف سولو إرثاً اقتصادياً عظيماً ذا جوانب عديدة؛ فقد تخرج على يديه العديد من علماء الاقتصاد، وفاز أربعة من طلابه بجائزة «نوبل»، كما أضاف نماذج ومنهجيات جديدة للأبحاث الاقتصادية، ولا شك أن العاملين بالبحث العلمي والابتكار يدينون له بالكثير؛ فهو مَن بيّن مكان الابتكار في النمو الاقتصادي، مضمّناً بذلك الدور الاقتصادي للتعليم والبحث العلمي والبنى التحتية للتقنيات.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط