العرب والأفارقة..رؤية إستراتيجية
29-3-2009
د. حمدي عبدالرحمن / كاتب مصري خبير في الشؤون الإفريقية
واستنادا إلى ذلك كله، ينبغي تأسيس الحوار العربي الأفريقي على ركائز إستراتيجية جديدة تطرح على بساط البحث كافة القضايا والإشكاليات موضوع الاهتمام المشترك من الجانبين. فهل يتم تفعيل مؤسسات العمل الجماعي المشترك وتنظيمات المجتمع المدني لتحقيق هذا الهدف؟ وهل ينتبه العرب إلى أن مصيرهم مرتبط بالتوجه صوب الجنوب نحو إخوانهم الأفارقة أم يظلون وهم في سباتهم يرددون: أمجاد يا عرب أمجاد؟
تخيلت في لحظات عابرة أن قمة العرب في الدوحة تجاوزت إشكاليات مستوى التمثيل وقضايا المصالحة بين قوى الاعتدال والممانعة، والتي باتت تشكل أبرز مفردات الحرب الباردة العربية الجديدة، وعوضا عن حديث لم الشمل وتوحيد ’’بيت العرب’’ من الداخل، اتجه الجميع إلى استخدام لغة الإستراتيجية والتفكير المستقبلي، بما يعنيه ذلك من توحيد الرؤى إزاء القضايا الكلية المشتركة.
ويبدو أن أحد الملفات المنسية أمام مؤسسة القمة العربية، تطرح في جوهرها بؤر التوتر والصراع في مناطق التماس العربية الأفريقية، والتي تشمل موريتانيا ومالي والنيجر وتشاد والسودان والصومال. وهذه المناطق تشكل، بالإضافة إلى ذلك، أطراف النظام الإقليمي العربي في امتداداته الأفريقية.
لقد أتيحت لي خلال أعوام التسعينيات فرصة السفر إلى العديد من البلدان الأفريقية، والتعرف عن كثب على حقيقة خطاب العلاقات العربية والأفريقية، سواء من حيث الفكرة أو الممارسة. ولعل الخلاصة المنطقية التي يصل إليها المرء بموضوعية شديدة هي أن حوار العرب والأفارقة ضرورة إستراتيجية ملحة. فالعلاقات والوشائج بينهم ليست وليدة اليوم أو الأمس القريب، إنها نتاج تاريخي وحقيقة ثقافية وحضارية متعددة الأبعاد.
ومع ذلك، فإن ثمة قضايا معقدة ومتشابكة تقف حائلا أمام عملية تفعيل العلاقات بين الجانبين، فالبعض يتحدث عن ضرورة تجاوز سلبيات الماضي والبناء على القواسم المشتركة من أجل غد أفضل.بيد أن ذلك قد لا يجدي نفعا أمام أجواء الشك والصور الذهنية السلبية المتبادلة بين العرب والأفارقة .إننا بحاجة إلى حوار صريح مع النفس والتيقن من أن حقائق العصر الذي نعيش فيه تفرض علينا ضرورة إعادة بناء جسور التواصل الحضاري بين الطرفين.
لقد صدر في عام 2004 كتاب مهم حول العنصرية والخبرة الأفريقية، وتناول أحد الكتاب الأفارقة من ’’مالي’’ بوضوح إشكالية التحيزات العنصرية في مناطق التماس العربي الأفريقي على طول الساحل الغربي للصحراء الأفريقية. فثمة شعورا بالاستعلاء العنصري من قبل مجتمعات ’’البيضان’’ من العرب والمور تجاه مجتمعات ’’السودان’’ من الفولاني والولوف والتوكولور على طول الحدود الموريتانية.
كما أن استخدام الأسماء المستعارة التي تحمل دلالات عنصرية وصور ذهبية سلبية عن الآخر بين الجماعات العرقية في ’’مالي’’، مثل الطوارق والمور والعرب والصونغاي والفولاني تعبر في حقيقتها عن أجواء الشك وعدم الثقة والإحساس بعدم الأمن، وهو ما يعوق التنمية والنهضة في هذه المجتمعات.
ولا يزال بعض المثقفين في موريتانيا ينظرون إلى العنصرية ووجهها القبيح المتمثل في الرق على اعتبار أنها ليست من مخلفات الماضي، بل باعتبارها من متغيرات الواقع المعاش. يقول الكاتب الموريتاني ’’غاربا ديالو’’: ’’لقد كانت بلادنا آخر دولة على وجه الأرض تعلن إلغاء العبودية عام1980م’’. وتتهم كثير من المنظمات الحقوقية الحكومة الموريتانية بأنها تغض الطرف عن بعض ممارسات الرق في البلاد.
إن كافة هذه القضايا ينبغي التصدي لها بشجاعة بحيث يتم وضعها في إطار سياقها التاريخي والاجتماعي الموضوعي، ولعل القمة العربية الأفريقية الأولى، وربما الأخيرة، التي عقدت في القاهرة عام1977م، أدركت أهمية هذا الهدف فقررت العمل من أجل ترسيخ العلاقات الثقافية بين العرب والأفارقة، أفضى ذلك إلى اعتماد النظام الأساسي لقيام المعهد الثقافي الأفريقي العربي عام 1985م، والذي افتتح رسميا في ’’باماكو’’، عاصمة مالي عام 2002.
ومع ذلك، فإن هذه المؤسسة الثقافية المهمة عكست صورة العجز العربي العام، فأنتجت عملا يتيما واحدا حول ’’المخطوطات الأفريقية بالحرف العربي’’، والذي حرره الأستاذ الكبير حلمي شعراوي. ويبدو أن القائمين على المعهد رأوا في شخصية ابن بطوطة رمزا لعمق وثراء الثقافة العربية الأفريقية فانشغلوا في عمل تمثال للرحالة العربي، كي يوضع في أحد ميادين باماكو العامة.
وعلى أي الأحوال، فإن التركيز على مصادر الثقافة العجمية في التراث الأفريقي يعد أحد المداخل الإستراتيجية التي يمكن البناء عليها. ويقصد بذلك عملية استخدام الحرف العربي في كتابة اللغات الأفريقية.
فالناظر إلى اللغات الأفريقية المهمة، مثل الهوسا والولوف والسونينكا والديولا في الغرب الأفريقي، والسواحيلي في شرق أفريقيا يجد أنها تمتلك مصادر تاريخية مهمة مكتوبة بالحرف العربي. بل وتذكر بعض الروايات أن الكتابات المبكرة للغة ’’الأفريكانرز’’ في الجنوب الأفريقي، قد استخدمت الحرف العربي كذلك.
ولعل بالإمكان كذلك في الحوار العربي الأفريقي الاستفادة من تراث اللحظات النضالية والبطولية التي جمعت كلا من العرب والأفارقة في مسيرة التحرر من الاستعمار بكافة أشكاله وألوانه. وهنا نتذكر جهود الرعيل الأول من قادة حركة الوحدة في العالمين العربي والأفريقي، مثل ’’جمال عبد الناصر وكوامي نكروما و أحمد سيكوتوري’’. وأظن أن هذه المرحلة قد استطاعت بفعل زخمها النضالي والشعبي أن تبني صورة إيجابية للتضامن العربي الأفريقي يتجاوز الأنماط والقوالب الجامدة السلبية التي روجتها أطراف خارجية مناوئة للطرفين.
إننا اليوم مواجهون أكثر من أي وقت مضى بمحاولات استعمارية جديدة لإعادة صوغ حدود العالمين العربي والأفريقي من خلال عمليات فك وتركيب ’’جيوإستراتيجية’’، الأمر الذي يؤدي إلى خلق كيانات جديدة مصطنعة تنال من مقومات وأسس النظم الإقليمية السائدة.
ولا يخفى أن الإعلام الغربي ما فتئ يروج لمقولة الصدام بين العرب والأفارقة في مناطق التماس الكبرى ابتداء من القرن الأفريقي الكبير وحتى الساحل الموريتاني على المحيط الأطلسي. ألم يتم تصوير الصراع الدائر في دارفور، على أنه محاولات للهيمنة من قبل أقلية عربية على أغلبية أفريقية تعاني ظلم التهميش والاستبعاد؟!
واستنادا إلى ذلك كله، ينبغي تأسيس الحوار العربي الأفريقي على ركائز إستراتيجية جديدة تطرح على بساط البحث كافة القضايا والإشكاليات موضوع الاهتمام المشترك من الجانبين. فهل يتم تفعيل مؤسسات العمل الجماعي المشترك وتنظيمات المجتمع المدني لتحقيق هذا الهدف؟ وهل ينتبه العرب إلى أن مصيرهم مرتبط بالتوجه صوب الجنوب نحو إخوانهم الأفارقة، أم يظلون وهم في سباتهم يرددون: أمجاد يا عرب أمجاد؟
*مجلة العصر
29-3-2009
د. حمدي عبدالرحمن / كاتب مصري خبير في الشؤون الإفريقية
واستنادا إلى ذلك كله، ينبغي تأسيس الحوار العربي الأفريقي على ركائز إستراتيجية جديدة تطرح على بساط البحث كافة القضايا والإشكاليات موضوع الاهتمام المشترك من الجانبين. فهل يتم تفعيل مؤسسات العمل الجماعي المشترك وتنظيمات المجتمع المدني لتحقيق هذا الهدف؟ وهل ينتبه العرب إلى أن مصيرهم مرتبط بالتوجه صوب الجنوب نحو إخوانهم الأفارقة أم يظلون وهم في سباتهم يرددون: أمجاد يا عرب أمجاد؟
تخيلت في لحظات عابرة أن قمة العرب في الدوحة تجاوزت إشكاليات مستوى التمثيل وقضايا المصالحة بين قوى الاعتدال والممانعة، والتي باتت تشكل أبرز مفردات الحرب الباردة العربية الجديدة، وعوضا عن حديث لم الشمل وتوحيد ’’بيت العرب’’ من الداخل، اتجه الجميع إلى استخدام لغة الإستراتيجية والتفكير المستقبلي، بما يعنيه ذلك من توحيد الرؤى إزاء القضايا الكلية المشتركة.
ويبدو أن أحد الملفات المنسية أمام مؤسسة القمة العربية، تطرح في جوهرها بؤر التوتر والصراع في مناطق التماس العربية الأفريقية، والتي تشمل موريتانيا ومالي والنيجر وتشاد والسودان والصومال. وهذه المناطق تشكل، بالإضافة إلى ذلك، أطراف النظام الإقليمي العربي في امتداداته الأفريقية.
لقد أتيحت لي خلال أعوام التسعينيات فرصة السفر إلى العديد من البلدان الأفريقية، والتعرف عن كثب على حقيقة خطاب العلاقات العربية والأفريقية، سواء من حيث الفكرة أو الممارسة. ولعل الخلاصة المنطقية التي يصل إليها المرء بموضوعية شديدة هي أن حوار العرب والأفارقة ضرورة إستراتيجية ملحة. فالعلاقات والوشائج بينهم ليست وليدة اليوم أو الأمس القريب، إنها نتاج تاريخي وحقيقة ثقافية وحضارية متعددة الأبعاد.
ومع ذلك، فإن ثمة قضايا معقدة ومتشابكة تقف حائلا أمام عملية تفعيل العلاقات بين الجانبين، فالبعض يتحدث عن ضرورة تجاوز سلبيات الماضي والبناء على القواسم المشتركة من أجل غد أفضل.بيد أن ذلك قد لا يجدي نفعا أمام أجواء الشك والصور الذهنية السلبية المتبادلة بين العرب والأفارقة .إننا بحاجة إلى حوار صريح مع النفس والتيقن من أن حقائق العصر الذي نعيش فيه تفرض علينا ضرورة إعادة بناء جسور التواصل الحضاري بين الطرفين.
لقد صدر في عام 2004 كتاب مهم حول العنصرية والخبرة الأفريقية، وتناول أحد الكتاب الأفارقة من ’’مالي’’ بوضوح إشكالية التحيزات العنصرية في مناطق التماس العربي الأفريقي على طول الساحل الغربي للصحراء الأفريقية. فثمة شعورا بالاستعلاء العنصري من قبل مجتمعات ’’البيضان’’ من العرب والمور تجاه مجتمعات ’’السودان’’ من الفولاني والولوف والتوكولور على طول الحدود الموريتانية.
كما أن استخدام الأسماء المستعارة التي تحمل دلالات عنصرية وصور ذهبية سلبية عن الآخر بين الجماعات العرقية في ’’مالي’’، مثل الطوارق والمور والعرب والصونغاي والفولاني تعبر في حقيقتها عن أجواء الشك وعدم الثقة والإحساس بعدم الأمن، وهو ما يعوق التنمية والنهضة في هذه المجتمعات.
ولا يزال بعض المثقفين في موريتانيا ينظرون إلى العنصرية ووجهها القبيح المتمثل في الرق على اعتبار أنها ليست من مخلفات الماضي، بل باعتبارها من متغيرات الواقع المعاش. يقول الكاتب الموريتاني ’’غاربا ديالو’’: ’’لقد كانت بلادنا آخر دولة على وجه الأرض تعلن إلغاء العبودية عام1980م’’. وتتهم كثير من المنظمات الحقوقية الحكومة الموريتانية بأنها تغض الطرف عن بعض ممارسات الرق في البلاد.
إن كافة هذه القضايا ينبغي التصدي لها بشجاعة بحيث يتم وضعها في إطار سياقها التاريخي والاجتماعي الموضوعي، ولعل القمة العربية الأفريقية الأولى، وربما الأخيرة، التي عقدت في القاهرة عام1977م، أدركت أهمية هذا الهدف فقررت العمل من أجل ترسيخ العلاقات الثقافية بين العرب والأفارقة، أفضى ذلك إلى اعتماد النظام الأساسي لقيام المعهد الثقافي الأفريقي العربي عام 1985م، والذي افتتح رسميا في ’’باماكو’’، عاصمة مالي عام 2002.
ومع ذلك، فإن هذه المؤسسة الثقافية المهمة عكست صورة العجز العربي العام، فأنتجت عملا يتيما واحدا حول ’’المخطوطات الأفريقية بالحرف العربي’’، والذي حرره الأستاذ الكبير حلمي شعراوي. ويبدو أن القائمين على المعهد رأوا في شخصية ابن بطوطة رمزا لعمق وثراء الثقافة العربية الأفريقية فانشغلوا في عمل تمثال للرحالة العربي، كي يوضع في أحد ميادين باماكو العامة.
وعلى أي الأحوال، فإن التركيز على مصادر الثقافة العجمية في التراث الأفريقي يعد أحد المداخل الإستراتيجية التي يمكن البناء عليها. ويقصد بذلك عملية استخدام الحرف العربي في كتابة اللغات الأفريقية.
فالناظر إلى اللغات الأفريقية المهمة، مثل الهوسا والولوف والسونينكا والديولا في الغرب الأفريقي، والسواحيلي في شرق أفريقيا يجد أنها تمتلك مصادر تاريخية مهمة مكتوبة بالحرف العربي. بل وتذكر بعض الروايات أن الكتابات المبكرة للغة ’’الأفريكانرز’’ في الجنوب الأفريقي، قد استخدمت الحرف العربي كذلك.
ولعل بالإمكان كذلك في الحوار العربي الأفريقي الاستفادة من تراث اللحظات النضالية والبطولية التي جمعت كلا من العرب والأفارقة في مسيرة التحرر من الاستعمار بكافة أشكاله وألوانه. وهنا نتذكر جهود الرعيل الأول من قادة حركة الوحدة في العالمين العربي والأفريقي، مثل ’’جمال عبد الناصر وكوامي نكروما و أحمد سيكوتوري’’. وأظن أن هذه المرحلة قد استطاعت بفعل زخمها النضالي والشعبي أن تبني صورة إيجابية للتضامن العربي الأفريقي يتجاوز الأنماط والقوالب الجامدة السلبية التي روجتها أطراف خارجية مناوئة للطرفين.
إننا اليوم مواجهون أكثر من أي وقت مضى بمحاولات استعمارية جديدة لإعادة صوغ حدود العالمين العربي والأفريقي من خلال عمليات فك وتركيب ’’جيوإستراتيجية’’، الأمر الذي يؤدي إلى خلق كيانات جديدة مصطنعة تنال من مقومات وأسس النظم الإقليمية السائدة.
ولا يخفى أن الإعلام الغربي ما فتئ يروج لمقولة الصدام بين العرب والأفارقة في مناطق التماس الكبرى ابتداء من القرن الأفريقي الكبير وحتى الساحل الموريتاني على المحيط الأطلسي. ألم يتم تصوير الصراع الدائر في دارفور، على أنه محاولات للهيمنة من قبل أقلية عربية على أغلبية أفريقية تعاني ظلم التهميش والاستبعاد؟!
واستنادا إلى ذلك كله، ينبغي تأسيس الحوار العربي الأفريقي على ركائز إستراتيجية جديدة تطرح على بساط البحث كافة القضايا والإشكاليات موضوع الاهتمام المشترك من الجانبين. فهل يتم تفعيل مؤسسات العمل الجماعي المشترك وتنظيمات المجتمع المدني لتحقيق هذا الهدف؟ وهل ينتبه العرب إلى أن مصيرهم مرتبط بالتوجه صوب الجنوب نحو إخوانهم الأفارقة، أم يظلون وهم في سباتهم يرددون: أمجاد يا عرب أمجاد؟
*مجلة العصر