ظهرت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن منذ السابع من أكتوبر، أقرب إلى قيادة الحرب على غزة منها إلى مجرد توفير الدعم المطلق للكيان الصهيوني.
تجلى ذلك، واضحًا، في التبني الكامل الروايةَ الإسرائيليةَ، ووصف ما جرى بأنه إرهاب ودعشنة، وإحضار حاملات الطائرات للمنطقة، وتشكيل جسر جوي من المساعدات العسكرية، والتزويد بالعتاد، وإرسال نخبة من قوات التدخل السريع، فضلًا عن حضور الرئيس ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، ووزير دفاعه أوستن مارتن، اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي، والتأكيد بشكل دائم على ما سُمي “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، وأنه لا وقفَ لإطلاق النار إلا بتحقق أهدافها، وهي: القضاء على حركة حماس، واستعادة الأسرى.
تدخلت واشنطن في تعديل تشكيلة حكومة الاحتلال، بإجبار نتنياهو على تشكيل حكومة طوارئ (حكومة حرب) مع زعيم حزب الوحدة الوطنية الإسرائيلي المعارض الجنرال بيني غانتس، بالإضافة للقائد السابق للجيش من حزب غانتس غادي آيزنكوت، ووزير الشؤون الإستراتيجية رون ديرمر كمراقبين.
كما حرصت من البداية على أن تكون في صلب عدوان الاحتلال، عبر وضع الخطط العسكرية مع جنرالات الاحتلال؛ وانعكس ذلك على الخطط الحربية للاجتياح البري لقوات الاحتلال، حيث تميزت بالحذر الشديد؛ نتيجة نصائح الجنرالات الأميركيين الذين تعلموا من اجتياح الفلوجة والموصل في العراق؛ فضلًا عن دروس حرب أفغانستان.
قيادة الحرب
لم يكن هذا الموقف من أجل عيون نتنياهو، ولا حكومته المغرقة في التطرف، والمدججة باليمنيين المتطرفين، من أمثال: سموترتش وبن غفير، بل إن الفترة التي سبقت 7 أكتوبر كانت زاخرة بالخلافات بين إدارة بايدن وحكومة الاحتلال على خلفية التعديلات القضائية التي دفعت بها الحكومة الإسرائيلية، والتي لم تكن مدار خلاف وانقسام الشارع الإسرائيلي فحسب، بل أضرّت بصورة الكيان (الديمقراطية) في الغرب، وجعلته رهينة بيد المتطرفين.
هذا، بالإضافة لازدياد حدة الخلاف بين الطرفين؛ بسبب تكثيف الممارسات الاستيطانية في الضفة، والسعي لإقرار تشريعات تضيّق على الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، بما في ذلك السعي لإقرار عقوبة الإعدام بحقهم، والتضييق عليهم في الزيارات، وغيرها من الحقوق.
رأت إدارة بايدن أن تصعيد الاحتلال إجراءاتِه ضد الفلسطينيين، من خلال هذه الحكومة المتطرفة، سيفضي إلى تصعيد خطير في الأراضي الفلسطينية، يؤدي إلى عودة الولايات المتحدة للمنطقة؛ لمعالجة تداعيات ذلك، وربما يؤدي إلى تململ حلفائها العرب في المنطقة.
لكن ما جرى في السابع من أكتوبر تسبب بهزيمة كبيرة وتهديد وجودي للكيان الصهيوني، بما يلحق ضررًا إستراتيجيًا بالمكانة التي تتبوؤُها إسرائيل كحصن متقدم للمشروع الاستعماري الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، وبما يعرض المصالح الأميركية في المنطقة للخطر، ويؤثر سلبًا على نفوذها.
يبدو أنّ الولايات المتحدة أدركت عمقَ فشل إسرائيل الاستخباري والأمني والعسكري، والذي أسفر عن نجاح المقاومة الفلسطينية في أسر نحو 250 إسرائيليًا. كما رأت أن ترك حكومة متطرفة- فيها بن غفير وسموترتش لاتخاذ قرار عسكري طائش باقتحام غزة بدافع الانتقام- قد يتسبب بنكسة ثانية لقوات الاحتلال، وبالتالي التسبب بضرر بالغ للمصالح الأميركية.
عمدت واشنطن للحيلولة دون مشاركة إيران وأذرعها في المعركة، لإسناد المقاومة الفلسطينية، من خلال إرسال تهديدات مباشرة لإيران وحزب الله بعدم المشاركة في المعركة؛ لأنها لا تريد التورط بحرب إقليمية في المنطقة تشغلها عن توجهاتها الإستراتيجية في احتواء الصين، والحرب الأوكرانية.
كما تعتبر الإدارة الأميركية أن توسيع دائرة الحرب، قد يعرض حليفها لهزة إستراتيجية أخرى، بما يهز ثقة حلفائها التقليديين بها.
انقلاب الصورة
لقد وفّرت إدارة بايدن لحكومة الكيان دعمًا غير مسبوق -بما في ذلك تبني الروايات الكاذبة ضد المقاومة، مثل: قطع رؤوس الأطفال، واغتصاب النساء- مكّنها من شن حملة تطهير عرقي في شمال قطاع غزة، ثم في جنوبه، شملت استهداف المدنيين والمستشفيات والمدارس؛ بهدف حرمان المقاومة من حاضنتها الشعبية، وممارسة سياسة الأرض المحروقة، لتتسبب هذه الحرب المستمرة حتى الآن باستشهاد نحو 19 ألف فلسطيني.
أغمضت أميركا عينيها عن المجازر التي ارتكبتها إسرائيل بحق المدنيين الفلسطينيين، بل وتبنّت رواياتها الكاذبة في مجزرة المستشفى المعمداني، واقتحام مستشفى الشفاء.
ورغم أن إدارة بايدن عبّرت عن رفضها تهجيرَ الفلسطينيين، إلا أن ذلك جاء بعد رفض مصر والأردن هذه الخطط، واستمرار صمود الفلسطينيين ورفضهم تركَ بلادهم.
بعد مرور أكثر من 70 يومًا على العدوان، لم يتمكن الاحتلال من تحقيق الهدفين اللذين أعلنَ عنهما، ولا يزال يكررهما بتعبيرات مختلفة، وهما: القضاء على حركة حماس، واستعادة الأسرى.
لم يتمكن الجيش الغازي من تحقيق صورة نصر حقيقية أمام المقاومة التي أبدت صمودًا أسطوريًا، ونجحت في نقل صور التصدي لآليات الاحتلال والتنكيل بجنوده في قطاع غزة، رغم تمكنه من احتلال أجزاء منه.
انقلب السحر على الساحر
انقلبت صورة الإرهاب والدعشنة التي حاول أن يروّجها الاحتلال وداعموه عن المقاومة إلى النقيض، إذ أظهرت صور القتلى والجرحى بقنابل الاحتلال، وصور الخراب والدمار في المباني والمؤسسات والمستشفيات، الاحتلالَ على حقيقته كمجرم حرب، وعدو للبشرية وللحياة.
وعزز هذه الصورة رواد ومشاهير التواصل الاجتماعي، فيما ألهمت صور المقاومة الفذة للمقاتلين الفلسطينيين شعوبَ العالم، وقدّمت المقاومة خلال فترة الهدن الإنسانية صورة إنسانية مشرفة، دحضت روايات الاحتلال، والإدارة الأميركية عن توحّش وإرهاب المقاومين.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الصورة الوحشية للاحتلال مسّت بشكل مباشر إدارة الرئيس الأميركي التي واجهت احتجاجات في وزارة خارجيتها ضد الانحياز الكامل لوزير الخارجية أنتوني بلينكن، فيما شهدت استطلاعات الرأي تراجعًا في شعبية بايدن أمام منافسه ترامب على أبواب الانتخابات الأميركية، حيث ظهر بايدن كداعم لحملة تطهير عرقي ومجازر مستمرة يقوم بها الاحتلال، ويتناقلها الإعلام الأميركي والعالمي.
كما بدأ التحالف الأنجلوساكسوني الداعم إسرائيلَ، يطالبها بوقف إطلاق النار، فعلى عكس موقف واشنطن، أكد بيان مشترك لرؤساء وزراء لكل من كندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، على دعم هذه الدول “للجهود الدولية، وأكد أنهم يشعرون بالقلق إزاء تقلُّص المساحة الآمنة للمدنيين في غزة، وإنه “لا يمكن أن تكون المعاناة المستمرة لجميع المدنيين الفلسطينيين هي ثمن هزيمة حماس”.
رغم استخدام الولايات المتحدة الفيتو- ضد مشروع قرار بمجلس الأمن يدعو لوقف إطلاق النار- فقد امتنعت بريطانيا عن التصويت، فيما وافق عليه باقي أعضاء مجلس الأمن، بما في ذلك فرنسا، الأمر الذي يشير إلى بداية تململ التحالف الذي دعم الحرب على غزة، وضعْف السيطرة الأميركية عليه.
كما أن استمرار المذابح الصهيونية، وضع الأنظمة العربية الصديقة لواشنطن في حرج شديد أمام جماهيرها، بما يهدد هذه الأنظمة، ويعرض المصالح الأميركية للخطر، وهو ما عبر عنه بايدن من “مخاوف حقيقية في مختلف أنحاء العالم من أن تفقد أميركا مركزها الأخلاقي؛ بسبب دعمنا إسرائيلَ”.
كما اعتبر وزير الدفاع، لويد أوستن، أن إسرائيل تخاطر بتلقي “هزيمة إستراتيجية”، إذا استمرت في التسبب بخسائر فادحة في صفوف المدنيين.
ومع التخوف من احتمال تدحرج الأمور لحرب إقليمية، وتطور المشهد الإقليمي باستهداف الحوثيين السفنَ التي تمرّ عبر البحر الأحمر تجاه الكيان الصهيوني، فقد باتت واشنطن تدرك أن الثمن الذي تدفعه لدعمها غير المشروط نتنياهو وحكومةَ المتشددين أصبح كبيرًا وغير محتمل، خصوصًا مع عدم تقديم الاحتلال أي تصور لما بعد الحرب، كما تطالب بذلك واشنطن.
تباينات تظهر للعلن
اضطرت إدارة بايدن للتعبير عن مواقف أظهرت- في العلن- تباينات مع الحكومة الصهيونية المتطرفة، كانت موجودة منذ بداية الحرب.
تدرك الإدارة الأميركية أن نتنياهو يسعى لإطالة أمد الحرب؛ لأنه يعرف أنه سيسقط بمجرد انتهائها؛ لاتهامه بالفشل في توقع هجمات 7 أكتوبر، بل واتهامه بإشغال الكيان بالتعديلات القضائية، وعدم الالتفات للتهديد الذي تشكله حماس، فضلًا عن التهم السابقة الموجهة له بالفساد، فما بالك إذا اقترن ذلك بالفشل في تحقيق هدفَي الحرب اللذين أعلن عنهما.
من هذه الخلفيات جاءت تصريحات الرئيس الأميركي بأن إسرائيل بدأت تفقد دعم المجتمع الدولي بقصفها العشوائي غزةَ، الذي أودى بحياة آلاف المدنيين الفلسطينيين”، معتبرًا أن نتنياهو يحتاج لتغيير وتقوية حكومته التي وصفها بأنها الأكثر تشددًا في تاريخ إسرائيل، وأنها لا تريد حلّ الدولتين، وأن ذلك يضع على المحكّ ما أسماه “سلامة الشعب اليهودي”.
غير أن بايدن تمسّك بموقف رفض وقف إطلاق النار، معتبرًا أنّه يسمح لحماس بإعادة ترتيب أوضاعها في المعركة، مع استمرار السعي لتحقيق هدنة إنسانية مؤقتة بهدف إدخال المساعدات وإخراج الرهائن.
حدّدت إدارة الرئيس بايدن للاحتلال أن ينتقل من المرحلة الحالية الأكثر كثافة، إلى المرحلة الأقل بأسرع وقت ممكن، وتحدثت مصادر أميركية وإسرائيلية عديدة عن أن المدة المتاحة للاحتلال لا تتجاوز مطلع العام المقبل.
أمام هذا الضغط الأميركي، لم يكن من بد لقادة الاحتلال من أن يلتزموا بالمهل الأميركية، فأعلنوا أن مرحلة العمليات المكثفة الحالية سيتبعها مرحلة أخرى تركز على استهداف قيادة حماس، والتي قد تمتد لعام كامل، وهو ما حظي بموافقة أميركية.
إلا أن قادة مجلس الحرب أعلنوا عن الرغبة بالاحتفاظ بمناطق عازلة في القطاع خلال العام المقبل، وهو ما لم تعارضه إدارة بايدن، رغم تكرار حديثها عن رفض استمرار الاحتلال الإسرائيلي لغزة!
ولذرّ الرماد في العيون، حثّت إدارة بايدن الكيان على الدقة في استخدام القنابل بعمليات القصف لتقليل الإصابات بين المدنيين، وهو أمر لم تتعامل معه حكومة الاحتلال حتى الآن، ولا يُعرف إن كانت ستلتزم به في المرحلة القادمة، في ظل استمرار احتلال قطاع غزة، وشنّ الحرب على المقاومة.
تتحدث الإدارة الأميركية عن رفض التهجير، والتوسع في إدخال المساعدات والوقود لقطاع غزة، ولكن جيش الاحتلال لا يزال يمارس سياسة الدفع بالفلسطينيين نحو مناطق محددة في جنوب القطاع، ويقنن دخول المساعدات، ويضيّق على وصولها إلى شماله. كما تتحدث عن ضبط ممارسات المستوطنين في الضفة، والتي تحظى برعاية المتطرفَين: سموترتش وبن غفير.
يدور خلاف مع حكومة نتنياهو حول اليوم التالي للحرب، فتطالب إدارة بايدن بإصلاح وتنشيط السلطة الفلسطينية وتأهيلها لحكم غزة بعد حماس، مع إيجاد تواصل بين الضفة والقطاع، ولكن حكومة نتنياهو ترفض ذلك، ولا تريد تواصلًا بين الضفة والقطاع، وبالتالي لا يعرف كيف ستتعامل إدارة بايدن مع ذلك؟!
اللافت هنا، تراجع بايدن عن موضوع حل الدولتَين، عندما قال: إنه لا يزال يؤمن بحل الدولتَين، ولكن “في ضوء هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، فإنَّ هذا الأمر صار بعيد المنال، الأمر الذي يؤكد أنه يخضع لمزاج وموقف الاحتلال، وأن حديثه عن دولة فلسطينية هو خداع وضحك على الذقون، وأن تصوُّر الكيان لحكم ذاتي للفلسطينيين، هو الذي سيسود في أي عملية تسوية سياسية.
لا ضغوط حقيقية
يظهر هذا أنه رغم معارضة الإدارة الأميركية بعضَ سياسات الاحتلال، فإنها لم ولن تمارس ضغوطًا حقيقية عليه للتراجع عنها، ما لم تتعرض المصالح الأميركية للخطر، أو يحدث ضغط داخلي حقيقي يجبرها على إلزام الكيان الصهيوني بموقف محدد. وهذا المنهج لا يتعلق بهذه الإدارة فقط، ولكنه منهج عام لكل الإدارات الأميركية.
من المتوقع استمرار خلافات إدارة بايدن مع نتنياهو الذي يستمرّ في الفشل في تحقيق إنجاز على الأرض، ولكنه يواصل بثّ رسائل للجمهور الإسرائيلي، بأنه رئيس الحكومة الأقوى في تاريخ إسرائيل الذي يرفض الضغوط الخارجية، ومن ذلك تصريحه: “سنواصل الحرب ولن توقفنا الضغوط الدولية”، وذلك ردًا على تصريحات بايدن الأخيرة.
صحيح أن طلب بايدن من نتنياهو تغيير حكومته، هو في حقيقته رغبة منه بتركه هو نفسه الحكومةَ أيضًا، ولكن ما دام أنّ هذه الحرب مستمرة، فإن الحديث عن تغيير هذه الحكومة يظل سابقًا لأوانه، ما لم تحصل تطورات سياسية أو ميدانية تدفع إلى ذلك.
ومع كل ما سبق، فإن الترتيبات الأميركية والإسرائيلية لن تحدد وحدها مصير ومستقبل الحرب، وتبقى مجرد أمانٍ- لا يبدو من معطيات الواقع حتى الآن، وصمود المقاومة واستمرار إيقاعها الخسائرَ بالاحتلال -أنها تملك فرصة كبيرة للنجاح، وسيظل الشعب الفلسطيني رقْمًا صعبًا يستحيل تجاوزه في أي معادلة سياسية سيتم صياغتها لقطاع غزة، على الأقل لما بعد الحرب.
*نقلاً عن المركز الفلسطيني للإعلام