هل صار منطقيا الحديث عن التكنولوجيا بوصفها سلطة جديدة تضاف إلى جملة السلطات التقليدية، السياسية والاقتصادية والدينية والقبلية وإلى ما هنالك، بحيث تحجز لنفسها حيزا بين تلك المجموعة؟.
أم ستبقى التكنولوجيا سلطة متماهية مع ذاتها فقط، متسلطة على ربيباتها من السلطات المعهودة من ناحية، وفوقية في عليائها، من ناحية أخرى، كونها النبع الذي يمدّهنّ جميعا بأسباب الحياة والبقاء والاستمرار؟.
في عالم اليوم ، بات الجميع يدور في فلك التكنولوجيا، ودخل الجميع في سباق ماراثوني معها ومع ابتكاراتها السيّالة الآسرة، وفي ظل الاحتياجات القاهرة لها؛ تحولت إلى ضغوط ملحة تدفع للاستزادة من كنوزها باستمرار، ومعيناً لتلمّس دروب الحاضر والمستقبل، علاوة على توفيرها أسباب التعامل وطرائقه مع الاختراعات اليومية التي لا تتوقف عن التغلغل في حياتنا وتداهمنا في كل حين ومكان، وكأنها تدرك فطرة بني البشر التواقة لإشباع الرغبة في التطواف حول العالم وهم على أرائكهم مستلقون، ونهمهم للاطلاع على ما يزخر به من غرائب وعجائب دون تكاليف وعناء.
الضجة التي أثيرت ضد الملياردير الأمريكي إيلون ماسك، مالك منصة "إكس" تويتر سابقاً، بعد تأييده إحدى التغريدات الداعية إلى "نبذ الكراهية" والتي نشرت على منصته، ووصفت بأنها "معادية للسامية"، حملت أبعادا رسمية، فالبيت الأبيض أعلن رفضه لها ولموقف مواطنهم الأمريكي المؤيد لما ورد فيها، وأخرى تجارية متمثلة بمقاطعة شركات تجارية أمريكية عملاقة لموقع «إكس» مؤقتاً، ما يعني خسارته حوالي 75 مليون دولار خلال العام الجاري، وحفاوة الاستقبال الذي حظي به من قبل نتنياهو وبعض وزرائه في ظل أجواء الحرب المستعرة على أرض غزة الفلسطينية شدت انتباه الجمهور إلى المشهد.
كلتاهما، الضجة والحفاوة، تلخص باختصار قصة التكنولوجيا اليوم، وسطوتها وتأثيرها على الدول، واستلابها للبشر على عموم البسيطة، إن في وجهها الناصع والنافع لهم من جهة، أو في رمزية وأهمية العقل المدبر الذي يقف على رأس منصاتها من جهة أخرى.
خلال زيارته قبل عدة أيام لتل أبيب، اتفق عملاق تكنولوجيا أهم منابر السوشيال ميديا بلا منازع، مع المسؤولين الإسرائيليين على استخدام خدمة "ستارلينك"، الإنترنت عبر الأقمار الصناعية، في إسرائيل وقطاع غزة، بعد أن كانت حكومة نتنياهو رفضت قبل شهر تقريبا مقترح "ماسك" توفير هذه الخدمة في غزة دعما لعمل منظمات الإغاثة الإنسانية العاملة في القطاع، لأسباب إسرائيلية مرتبطة بمناخات الحرب.
التكنولوجيا تمكنت من وضع العالم أجمع في قفص الأسْر الذي شيدته عقولٌ وعبقريات بشرية، وأحكمت قبضتها على أدق تفاصيل الحياة؛ إدارةً وتوجيها، لا فرق في ذلك بين قوة عظمى وأخرى أقل مكانة، ولا تمييز بين زعامة طاغية في قوتها وحضورها، ومسؤول في موقع لا شأن له ولا تدبير.
في سياق الحرب الباردة بين القوتين العظميين، الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية، أنتجت مؤسسات إدارة الصراع الأمريكية وعقولها ما عرف "بحرب النجوم" أو "مبادرة الدفاع الاستراتيجي" التي أشهرها للعلن الرئيس الأسبق رونالد ريغان في الثالث والعشرين من مارس/آذار عام 1983، وهي برنامج لتطوير نظام دفاعي صاروخي يعتمد على أحدث التقنيات التكنولوجية لإحباط أي هجوم قد تتعرض له الولايات المتحدة بالصواريخ البالستية.
وقد أثارت المبادرة وقتذاك فزع قادة الاتحاد السوفياتي، واستدرجتهم إلى سباق تسلح باهظ، أقر مسؤولون سوفييت سابقون بعد انهيار الاتحاد بأن برنامج "حرب النجوم" كان أحد عوامل الانهيار حيث كشف ضعف بلادهم في مواجهته أو احتوائه سياسيا واقتصاديا.
من حرب النجوم إلى "ستارلينك" تتبلور أكثر علاقة الإنسان بسلطة التكنولوجيا، فهي تبدو أشبه بعلاقة استعباد محبّب بينه وبين أدواتها ومفرزاتها، وهي تمضي به من الهيمنة إلى التحكم بمساره ومسيرته، في صراع وجودي، الخاسر فيه هو من يدير ظهره لهذه السلطة، أو عندما يستسلم لأدواته القديمة ما قبل التكنولوجيّة.
نقلاً عن صحيفة العين الإخبارية*