التفاؤلُ الزائد عن الحدّ سياسياً لا يختلف كثيراً عن التشاؤم المزمن. كلاهما لا يرى الواقع ومعطياته بعين الموضوعية. والمتفائلون جداً في ليبيا بإمكانية خروج البلاد من أنفاق أزماتها السياسية، بعد كل هذه السنين، من دون تدخل سياسي دولي وحازم، يمكن تصنيفهم تحت خانة الواهمين. لأنّهم يقفزون على الواقع، ويقعون في أفخاخ الأحلام والتمنّيات. وهي مشروعة ومتاحة. لكنها تقود إلى خيبات وإحباطات، كان من الأجدى تفاديها توفيراً للوقت والجهد.
في السياق السياسي الليبي الذي تعيشه البلاد منذ فبراير (شباط) 2011، ثمة حقائق ثابتة، أهمها أنه لا أحد من المتورطين في التنافس على السلطة على استعداد للتنازل مقدار بوصة واحدة عن مكتسباته المحققة على الأرض للطرف الآخر. التنازل بنيّة التصالح والوصول إلى اتفاق، يعني، في المعجم السياسي الليبي المتداول حالياً، التخلّي عن المكتسب من الغنيمة، والتسليم بالخسارة الشخصية.
خلال المدة القليلة الماضية، عُقد لقاءٌ في القاهرة، بين رئيس مجلس النواب المستشار عقيلة صالح ورئيس مجلس الدولة د. محمد تكالة، وهو الأول من نوعه منذ انتخاب الأخير رئيساً لمجلس الدولة، في شهر أغسطس (آب) الماضي. الاجتماع عُقد بهدف إيجاد حلول للنقاط المختلف حولها بين المجلسين منذ سنوات، والمتعلقة بإجراء انتخابات رئاسية ونيابية، غير مرغوب فيها أصلاً من كل الأطراف المتنازعة. وكما هو متوقع، انتهى الاجتماع بالوفدين إلى نفس الطريق المسدود.
القصةُ التراثية المشهورة التي تُروى عن وقوف حمار الشيخ في العقبة، ما زالت إلى يومنا هذا سارية المفعول في ليبيا. الاختلاف بين وضعية حمار الشيخ، ووضعية الحمار في العقبة الليبية هي أن العقبة حقيقية في قصة الشيخ وحماره. فالشيخ بفطنته، وما منحته الأعوام من حكمة، أدرك أنه من الصعوبة بمكان مواصلة المشوار، ومن الأفضل له وللحمار العودة من نفس الطريق، والرضا من الغنيمة بالإياب. في الوضعية الليبية، العقبة غير حقيقية، بل مصطنعة. إذ اتفقت الأطراف المتصارعة على السلطة والثروة على فبركتها وتلميعها، ووضعها في تلك البقعة من الطريق. وبالتالي، وعلى عكس الشيخ، فإن العودة من نفس الطريق غير واردة أصلاً، والتقدم كذلك، لأن الغرض والهدف والطموح هو التخندق في ذات المكان، مع مواصلة التظاهر بمحاولة تجاوز العقبة. لعبةٌ سمجةٌ وماكرةٌ، لم تعد تنطلي على أحد، لكنّها، للأسف، في ذات الوقت، مربحة جداً، لكل أولئك الذين فبركوها، والتفوا حولها.
وإذا بقي الحال على ما هو عليه، من دون تدخل دولي جدّي، فسيقود إلى استمرار وضعية الانقسام الحالية، جغرافياً وسياسياً، إلى ما لا نهاية. واستمرار الوضعية الحالية يعني، حرفياً، استمرار وضعية وجود حكومتين منفصلتين، وغياب الاستقرار نتيجة تواصل الحروب والتقاتل بين كافة الأطراف على حصص الغنائم. في الفترة الأخيرة، ومن دون سابق إنذار، اندلع، فجأة، قتال في مدينة غريان، عاصمة الجبل الغربي، بين جماعتين مسلحتين تتصارعان على بسط النفوذ في تلك المدينة.
وخلال الأيام الماضية، ومن دون سابق إنذار، ارتفع سعر الدولار فجأة، وتجاوز حاجز الستة دنانير، نتيجة عوامل عديدة، تأتي في مقدمتها مضاربات تجار العملة في السوق الموازية، كما جاء في بيان توضيحي صادر عن مصرف ليبيا المركزي. وبالطبع، هناك أسباب أخرى، تعرّض لها خبراء المال والاقتصاد، في وسائل الإعلام. لكن بيان المصرف حرص على عدم ذكرها!
الانتخابات الموعودة، في رأيي، لا تزيد عن كونها جزرة وهمية، تُدلّى منذ سنوات أمام الليبيين، بهدف إنهاكهم بالجري وراءها، على أمل الإمساك بها. إلا أن الجزرة لا وجود لها إلا في أذهان قلة من المتفائلين، أو بالأحرى الواهمين، بإمكانية اتفاق الأطراف المتصارعة على السلطة على إجراء انتخابات رئاسية ونيابية، تؤدي إلى نهايتهم، وخروجهم غير مأسوف عليهم من المسرح!
أغلبية الليبيين فطنوا للخدعة، وتوقفوا عن الجري، بعد أن أنهكم التعب، وبعد أن أدركوا حقيقة لم تسترعِ انتباههم من قبل، وهي أن اللصوص، على اختلافهم، لا يبنون دُولاً، ولا مكان في قواميسهم لأي مفردة لا تتعلق بنصيبهم من الغنائم.
*نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط*