يبدو أن التحذير القديم الداعي إلى تجنب وضع كل البيض في سلة واحدة، لم يعد مثيراً للاهتمام، أو مدعاة للتدبر والتفكر، سواء أكان ذلك في الشأن الخاص أو العام. وهذا يذكرنا بأوكرانيا.
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لجأ إلى تحشيد ووضع كل ما أتاه من مال وعتاد في سلة الهجوم العسكري المضاد، بهدف اقتحام الدفاعات الروسية، وقلب مجرى المعركة لصالح الجيش الأوكراني، وطرد القوات الروسية من كل الأراضي التي احتلتها. إلا أن الرياح قررت السير في الاتجاه المعاكس. والمحصلة: تعثرَ الهجوم، وفشلَ في تحقيق المراد، مما جعل الإحباط يتجاوز كييف، ويصل حتى عواصم الحلفاء، الذين كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر. الآن، وفصل الشتاء على قاب قوسين أو أدنى، يعني أن إمكانية تحقيق الهجوم أهدافه قبل حلول الضيف الثقيل بأمطاره وأوحاله وثلوجه، في غير المستطاع عملياً. وهذا يفضي إلى حقيقة أن الحرب ستعود إلى سيرتها السابقة للهجوم المعاكس، أي حرب استنزاف. وحروب الاستنزاف بطبيعتها طويلة ومرهقة ومكلفة، وتعتمد على أشياء كثيرة، لا تملكها أوكرانيا، وتتوفر بروسيا.
اعتماد حكومة كييف على مساعدات الحلفاء، لم يعد كافياً، لأن الحلفاء أنفسهم أرهقوا بالطلبات الأوكرانية، وبطول الحرب، وهم في أشد الحاجة للأموال بسبب الضائقة الاقتصادية في بلدانهم الناجمة عن أزمة الفيروس الوبائي، وارتفاع نسبة التضخم، وأسعار المواد الغذائية، والمحروقات.
الحرب تكاد تصل شهرها العشرين. والإعياء قد نال من الأوكرانيين ومن حلفائهم، ومن الروس كذلك. في واشنطن يواجه الرئيس جو بايدن معارضة من الحزب الجمهوري تتزايد، يوماً بعد آخر، تطالب بوقف المساعدات إلى أوكرانيا، وتوجيه الأموال إلى مشاريع في الداخل. في الأيام القليلة الماضية، ذهب الرئيس بايدن إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة وألقى خطاباً طالب فيه المجتمع الدولي بالوقوف مع أوكرانيا في حربها ضد روسيا. وواقعياً، كان أولى بالرئيس الأميركي الذهاب إلى مقر الكونغرس الأميركي والاجتماع بأعضاء الغرفتين وإلقاء خطابه فيهم، على أمل توحيد النواب والشيوخ وراءه في الموقف من دعم أوكرانيا. المساعدات الأميركية لحكومة كييف بدأت تواجه معارضة علنية شرسة من قبل الجمهوريين في الغرفتين. الجمهوريون وخاصة منهم أنصار الرئيس السابق دونالد ترمب يطالبون بضرورة وقف إنفاق المساعدات إلى أوكرانيا فورياً.
الرئيس الأوكراني زار واشنطن مؤخراً، والتقى بقادة الكونغرس، وحثهم على مواصلة دعم بلاده. الزيارة جاءت في وقت تستعد فيه إدارة الرئيس بايدن لتقديم مساعدة إلى حكومة كييف بقيمة 24 مليار دولار، وفي حاجة إلى موافقة 67 سيناتوراً، أو ثلثي أعضاء الغرفتين: الشيوخ والنواب.
وفي بولندا، الدولة المجاورة لأوكرانيا، بدأ حزب القانون والعدالة الحاكم في اتخاذ سلسلة من الإجراءات ضد أوكرانيا نتيجة تصاعد التوتر بين الحكومتين في الآونة الأخيرة. من ضمن القرارات كان قرار وقف مد أوكرانيا بالسلاح وبالعتاد والذخائر من المخازن البولندية، واحتمال توقف حكومة وارسو عن استقبال السلاح والعتاد القادم من مختلف عواصم الغرب عبر الأراضي البولندية، بغرض تسلميه للأوكرانيين. وحظر بيع القمح الأوكراني في الأسواق البولندية.
الرئيس البولندي أندريا دودا وصف أوكرانيا بأنها مثل غريق تحاول مساعدته على النجاة بمد يدك نحوه، إلا أنه لدى إمساك اليد يحاول جذبك وإغراقك. والرئيس الأوكراني من جهته، اتخذ قراراً برفع شكوى إلى منظمة التجارة الدولية، ليس ضد بولندا فقط، بل ضد سلوفاكيا والمجر، لمنع بيع القمح الأوكراني في أسواق هذه الدول. ومن المهم الإشارة إلى أن 27 دولة من الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وافقت على وضع قيود ضد شحنات القمح الأوكراني المصدرة إلى بولندا والمجر وسلوفاكيا. لكن لم يتم تجديد القرار بعد سقوط صلاحيته في الأسبوع الماضي.
قرار منع بيع القمح الأوكراني في بولندا لا يشمل وقف عبور شحنات القمح الأوكراني المصدر عبر أراضيها إلى دول أخرى. التقارير الإعلامية البريطانية ترى أن التصعيد البولندي مؤخراً ضد أوكرانيا ناجم عن قرب عقد الانتخابات النيابية في الشهر القادم. وأن حزب القانون والعدالة البولندي يتعرض لحملة شرسة من أحزاب شعبوية يمنية معارضة، وأنه يسعى إلى كسب أصوات المزارعين، وإلى محاولة التغطية على قضايا الفساد التي ظهرت خلال الفترات الماضية. وكذلك الأمر في سلوفاكيا. وكل ذلك يقود إلى نتيجة واحدة، وهي أن أوكرانيا تمر بمنعطف خطر جداً، ما لم يتغير اتجاه الرياح لصالحها مرة ثانية، شرط أن تتعلم حكومة كييف الدرس، ولا تعود إلى وضع كل بيضها في سلة واحدة.
*نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط*