عند الحديث عن مراكز الأبحاث الفكرية والاستراتيجية (Think tank)، فإن المقصود بها تلك المؤسسات البحثية غير الحكومية التي تضم مجموعة من الخبراء الذين يقومون بدراسة قضايا متعلقة بالشؤون السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والأمنية، والاجتماعية. تقدم تلك المراكز أبحاثاً وتقارير ذات طابع استراتيجي أو استشرافي، تخدم صانع القرار في الجهات المعنية بالموضوعات المُتناولة. تمارس هذه المراكز عملها وتنشر إنتاجها بصفة ذات طابع فكري - معرفي وليس رسمياً، وبالتالي فهي لا تمثل وجهة النظر الرسمية للدولة التي تتخذها مقراً لها. لذلك فهي تعتمد على مصادر تمويل من استثماراتها الخاصة (كالأوقاف)، إضافة إلى عوائد منتجاتها الفكرية كالعقود الاستشارية. وبالنسبة، للمواد المنشورة، فهي بمثابة المساهمة في الخدمة المجتمعية للمتلقي العادي، والدعاية للعملاء الذين يرغبون في معرفة مستوى المركز الذي قد يتعاملون معه.
في الدول صاحبة الباع الطويل في مجال الـ(Think tank)، فإن تلك المراكز تنقسم إلى قسمين: ربحي وغير ربحي. بالنسبة للقطاع الربحي، فهو يعتمد على ما ينتج من أبحاث وتقارير واستشارات، أما بالنسبة لغير الربحي فإنه يتلقى التبرعات إضافة لما يتقاضاه من عملائه. والتفريق بين النوعين - الربحي وغير الربحي - مهم في هذا الصدد، وذلك لعدة أسباب تتعلق بتسعيرات الخدمات ومدى استحقاق التبرع من عدمه، إضافة إلى تحديد الآليات الرقابية على القوائم المالية للمركز. وعليه، فالمركز الذي يتم تسجيله كمؤسسة تجارية تقوم بتقديم خدمات مدفوعة بهدف جني الأرباح التي يذهب عائدها للمالكين، يُصنّف بوصفه مشروعاً استثمارياً بالدرجة الأولى. بالمقابل، فإن المركز الذي يتم تسجيله بعنوان «مؤسسة غير ربحية» فإنه يقوم بتقديم خدمات مدفوعة بهدف إعادة استثمار العوائد المادية في تحسين مستوى المؤسسة وتقديم خدمات للمجتمع المحيط بالمؤسسة.
عند حوكمة تلك المراكز، فإن الجامع بين النوعين يتلخص في كون المؤسسة الربحية تُحاسب على أساس جودة منتجها وتطبيقها للوائح المؤسسات الخاصة في القطاع الخدمي. وبالنسبة للمؤسسة غير الربحية، يضاف لما سبق أن تتم حوكمة قوائمها المالية للتأكد بأن القائمين عليها يتقاضون مخصصاتهم بوصفهم «موظفين» دون التربح الشخصي خارج إطار أتعابهم. من هنا تأتي أهمية التوصية بإصدار نظام أو قانون منظّم لعمل مراكز الأبحاث من حيث التصنيف على أساس الربحية من عدمها، وكذلك لتحديد المسؤوليات الرقابية والمحاسبية، شأنها في ذلك شأن كل الأنشطة الحياتية التي إذا غابت عنها الأطر التنظيمية، تتجه تلقائياً نحو العشوائية؛ ومضار العشوائية كثيرة. ولعل أقل الأضرار التي قد تحدث نتيجة العشوائية وغياب التنظيم تلك المتعلقة بفقدان معايير التصنيف والتقويم.
عند التطرق للسلعة التي يبيعها المركز لعملائه (الأبحاث والتقارير)، فإنَّ مسؤولية التأكد من جودة المنتج تكون ضمن أولويات العميل - المتلقي. بالتالي، فإن الجهة التي استثمرت جزءاً من مواردها لشراء بحث - تقرير من أحد المراكز بحاجة إلى تحكيم ذلك المنتج البحثي - المعرفي للتأكد من مدى جدوى المبلغ المدفوع مقابل المنتج المُشترى. يتحقق ذلك بإحالة المنتج البحثي لطرف ثالث من أصحاب التأهيل الأكاديمي والخبرة العملية في المجال نفسه، ويطلب منه كتابة تقرير نقدي مفصل حول ذلك المنتج على غرار الـ(peer-reviewed journals) في العمل الأكاديمي. وفي حال كون المهمة البحثية ذات طابع سري، فإنه ينبغي وجود أشخاص من داخل المؤسسة يتهمون بالقدرة على تحكيم البحث أو التقرير بشكل يكشف مكامن الخلل إن وجدت. إن فكرة كون المنتج المعرفي عرضة لتحكيم ذوي الخبرة والكفاءة، يجعل الباحث متحفزاً ليقدّم أفضل ما عنده خشية إعادة البحث له بملاحظات تفصيلية يتوجب عليه معالجتها قبل الحصول على بُغيته (النشر أو دفع بقية المستحقات).
بنظرة عامة على مراكز الأبحاث في المملكة، نجد أن معظمها يصنف ضمن القطاع الربحي. بالتالي، فإن التعامل معها يتم على أساس الـ«Business» من خلال تقدير القيمة السوقية للمنتج الذي يقدمه المركز. كذلك، ينبغي توجيه التبرعات لتلك المراكز غير الربحية التي تحتاج لدعم يتجاوز التبرع المادي للمساعدة في العملية التشغيلية (إيجار المقر واللوازم المكتبية ورواتب الموظفين)، ليمتد إلى شراء أصول ووقفها على المركز حتى يتم ضمان سيرورة عمل المركز واستقلاليته المهنية التي تستند إلى الاستقلالية المادية.
نعيد للتذكير بأن العمل الاستشاري والبحثي في المملكة نشاطٌ ما زال في مراحله الأولى - من ناحية التقييم وليس الزمن - باعتبار أنه لم يصل إلى مستوى أن يكون قطاعاً قائماً بذاته، كما ذكرت في مقالي السابق المنشور بتاريخ 13 سبتمبر (أيلول) 2023 في «الشرق الأوسط». وعليه، فإن التعامل مع تلك المراكز ينبغي أن يُؤخذ على يده حتى يتم الارتقاء به لما يتناسب والرؤية الطموح للبلاد (رؤية السعودية 2030). يمكن القول إنَّ أول خطوة للارتقاء بتلك المراكز هي تفعيل الحوكمة من ناحيتي الأداء الفني والمحاسبة المالية. فتلك مؤسسات - كغيرها من المؤسسات - قابلة للترهل الإداري والفساد المالي، ولا بد من ضبط أدائها بشكل يضمن النهوض بمستواها لتشكيل قطاع قائم بحد ذاته يدعم صانع القرار بما يخدم البلاد.
إن العمل على ترقية المهام والمسؤوليات المرجوة من مراكز الأبحاث، من شأنه تهيئة بيئة علمية تربطها بجهاز الإدارة الحكومي روابط مميزة واستثنائية من خلال إتاحة المجال أمام الكفاءات الوطنية لتطوير إمكاناتهم البحثية والمعرفية، ووجودهم في دائرة الضوء باستمرار، بحيث يجدهم صاحب القرار متى ما اقتضت الحاجة إلى الاستعانة بهم أو ببعضهم. في هذا الصدد، يمكن لنا سوق كثير من الأمثلة الدالة على جدوى وأهمية هذه الفكرة. من أبرز تلك الأمثلة الآنسة كوندوليزا رايس التي شغلت منصب مستشار الأمن القومي الأميركي في الفترة الأولى لرئاسة الرئيس بوش الابن بين عامي 2001 - 2005، لتنتقل بعدها لمنصب وزير الخارجية حتى نهاية الفترة الرئاسية الثانية مطلع عام 2009. عند تعريف الآنسة كوندوليزا رايس، نقرأ صفتها «عالمة سياسة Political Scientist» تسبق التعريف بها من خلال الوظائف الخطيرة والحساسة التي أدتها على مدى ثماني سنوات، وقبل وبعد خدمتها في الإدارة الأميركية، عملت في المجالين، الأكاديمي والبحثي؛ فهي اليوم تشغل وظيفة مدير معهد هوفر بجامعة ستانفورد، وجامعة ستانفورد واحدة من أقوى عشر جامعات العالم.
ختامًا، فإن حوكمة العمل البحثي والاستراتيجي همٌ وطني يصب في رؤية المملكة الطموح التي لا تنقصها الموارد ولا الشباب والشابات المؤهلون للنهضة بهذا المجال وتحويله لقطاع حيوي منتج.
**نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط