تبدو الأحداث التي شهدتها المنطقة في الأيام والأسابيع الماضية متناقضة وغير مفهومة، من زيارة آموس هوكشتاين مستشار الرئيس الأميركي لشؤون أمن الطاقة للبنان، التي تزامنت مع وصول وزير الخارجية الإيراني أمير عبداللهيان إلى بيروت، إلى السجالات بشأن توسعة التفويض الممنوح للقوات الدولية لا تمديد ولايتها في جنوب لبنان، حسمتها الصيغة الفرنسية خلافاً لرغبة لبنان و«حزب الله»، علماً أن الأكثر رجحاناً أنه لا نية لأي طرف لتغيير قواعد النزاع السائدة في هذه المرحلة. يضاف إلى ذلك ما يتردد عن مخاطر تصعيد عسكري محدود أو واسع على الحدود مع إسرائيل عبر عنه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بقوله إن تحركات «حزب الله» تزيد من احتمالات التصعيد على الحدود الشمالية.
في الإقليم، تغلي سوريا على أكثر من جبهة بعد اتساع حدة الغارات والقصف الإسرائيلي للأهداف الإيرانية فيها، وفي شرق الفرات، يتردد الكثير عن محاولات الأميركيين الإمساك بالحدود السورية العراقية. وعلى الرغم من نفي المتحدث باسم البنتاغون، بات رايدر، هذا الأمر واعتبار السيد حسن نصر الله أنه مجرد أوهام متعهداً بمنع حصوله، يصح اعتباره أنه يأتي في إطار الكباش الأميركي - الإيراني في المنطقة. ويدخل إلى قلب المشهد أيضاً الربط الحاصل منذ فترة بين ما يتردد عن نقل قيادة العمليات في الضفة الغربية إلى لبنان، وتهديد نصر الله بأن «أي اغتيال على الأرض اللبنانية يطال لبنانياً أو فلسطينياً أو سورياً أو إيرانياً أو غيرهم، سيكون له بالتأكيد رد فعل قوي». وجاء كلامه رداً على تهديد بنيامين نتنياهو باغتيال صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» الموجود في لبنان.
هوكشتاين في بيروت لتثبيت التهدئة المطلوبة أميركياً وإسرائيلياً استكمالاً للتفاهم الأميركي - الإيراني، الذي أدى إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل في أكتوبر (تشرين الأول) 2022 من جهة، وتثبيت الهدوء على الجبهة مع لبنان في وقت ترتفع حرارة المواجهة الإيرانية - الإسرائيلية على الأراضي السورية. ولعل هذه الزيارة الخطوة الأولى في محاولة بدء مسار تفاوضي طويل ومعقد حول ترسيم الحدود البرية الذي يصطدم بعقبتين رئيسيتين هما قرية الغجر ومزارع شبعا. مسار تفاوضي طويل، إنما مجرد البدء بالتفاوض يعني الدخول في تهدئة لن تعكرها لهجة التهديدات الحادة بين الطرفين، ولعلها مطلوبة، لا سيما من «حزب الله» بهدف استعادة صورته كمقاومة اكتسبت في وقت ما شعبية كبيرة ويريد استعادة خطابه الذي فقد معناه على مدى العقد ونصف العقد الماضيين، لا سيما عربياً.
إن تزامن الزيارتين ملفت والأكثر رجحاناً أنه غير منسق، إنما الجامع المشترك بينهما هو أوضاع الإقليم المضطربة، لا سيما في شرقه. ألغام ثلاثة مزروعة قد تخرب مساعي التهدئة والتفاهمات. الأول أن يؤدي سوء التقدير إلى الانزلاق إلى حرب لا يرغب فيها أي من الطرفين، الثاني هو المحاولات الدؤوبة لتطويق إسرائيل بحزام من الأسلحة الحديثة والمتقدمة بهدف الرد على أي عمل عسكري أميركي أو إسرائيلي ضد إيران، مما يعني الاستمرار بتمرير الأسلحة. يضاف إلى ذلك صعوبة فصل الملف اللبناني - الإسرائيلي عن الملف الإسرائيلي - الإيراني والإيراني - الأميركي في سوريا التي تشهد شبه حرب غير معلنة بين إيران وإسرائيل و«حزب الله» عنوانها الرئيسي قصف شحنات ومخازن السلاح التابعة لطهران. إلى هذه الحرب، ثمة توتر متصاعد بين الأميركيين والميليشيات الحليفة لإيران في شرق الفرات لأكثر من سبب، ومنها التوازن الأميركي مع الوجود الروسي في سوريا بخاصة بعد تنامي التنسيق والتعاون الروسي مع الإيرانيين، بينما الحرب على مداها في أوكرانيا بين موسكو وواشنطن وحلفائها.
أما الثالث، وهو مستجد، مرتبط بما يسرّب عن انتقال إدارة العمليات في الضفة الغربية المحتلة إلى لبنان ووجود نائب رئيس حركة «حماس» العاروري في بيروت والمهدد بالاغتيال من قبل إسرائيل. هذا اللغم متشعب ومعقد، بعده الأول احتمال تطبيق مبدأ وحدة الساحات، بخاصة إذا صحت المعلومات عن تسليح الضفة الغربية في مواجهة إسرائيل على الرغم من التباينات مع حركة «حماس» وما يحكى عن تفاهماتها مع إسرائيل ومصر والتهدئة المستدامة في غزة. عندها قد تتحول أي مواجهة في الضفة أو غزة أو جنوب لبنان إلى اشتعال الجبهات كافة.
يتبين مما سبق أن الألغام لعلها في جوانب كثيرة جزء من مسار التفاوض والتفاهمات، وهو أسلوب إيراني معروف. أهداف واشنطن واضحة وتعرف أن التسويات المكتملة ما تزال بعيدة المنال وبدائلها تفاهمات على القطعة مع إيران بدءاً بالملف النووي إلى أمن إسرائيل وجنوب لبنان وفي العراق، وحتى احتواء ما يجري في سوريا مع كل التعقيدات التي تحيط به. في المقلب الإيراني، الهدف الرئيسي في هذه المرحلة هو الحرص على استمرارية الاتفاق مع السعودية، ومحاولة احتواء وتدعيم شؤون حلفائهم في مناطق نفوذهم مع الحرص على الاحتفاظ بالمكتسبات وعدم التفريط فيها أو التراجع عن الرغبة بالتهدئة. مقابل ذلك، تسعى طهران إلى نقل التركيز إذا أمكن نحو الموضوع الفلسطيني، الذي يحظى بإجماع في الإقليم ولو اختلفت أهميته بين دولة وأخرى. فالنظام الإيراني يعتقد أن النزاعات الأخرى باتت مشبعة، بينما المسألة الفلسطينية لها فوائد متعددة أولها كسب شعبية عربية ضاعت، وعرقلة أي تفاهمات عربية - إسرائيلية يتم التحضير لها، والإفادة مما يعتقده ضعف إسرائيل وتراجعها نتيجة للخلافات الداخلية واعتبار ذلك فرصة لاستفزاز إسرائيل من دون المخاطرة بنشوب صراع أكبر. هذا التفكير لا يعدو كونه وهماً خطيراً قد يؤدي إلى منزلقات مميتة في المنطقة. تعرف إيران أن واشنطن لا تريد الحرب وتسعى لتفاهمات معها، مما يعطيها الوقت والفسحة للمناورة.
**نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط