مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2023/07/24 16:13
الحقيقة بين الخلق والادّعاء.... مستويات الحقيقة
ثمة مستويان في إدراك الحقيقة والتعامل معها:
الأول: معرفي، يفترض صاحبه أنه يُمسك بالحقيقة حينما يُقرّر ما تراه عينه أو يدركه ذهنه، سواء أكان التقرير مصحوبًا بتفسير يؤكده أم كان غير مصحوب بذلك، وهذا المستوى في إدراك الحقيقة معرفي، وأقصد بكلمة “معرفي” أنه يعتبر الحقيقة هي ما نعرفه ونخبره عن الواقع، وهو مستوى ضروري لكل باحث، إلا أن تحقيقه لا يعني تغييرًا للواقع بقدر ما يقف بصاحبه عند الفهم الذي قد يكون صوابًا أو خطأً.
الوقوف عند هذا المستوى في إدراك الحقيقة والتعامل معها، يُفضي بصاحبه إلى الدفاع عن هذا الذي تصوّره وعرفه من حقيقة، فيصير الفكر عنده مهمة دعوية، عليه أن ينافح بواسطته عن هذه الحقيقة المعرفية ضد الآخرين ليُقرّوا بها له، الأمر الذي ينتهي به إلى وظيفة “الداعية” إلى الحقيقة، ويحول بينه وبين إبداع أسلوب عملي يُصيّر هذه الحقيقة المعرفية واقعًا تطبيقيًا.
سبب ذلك أن صاحب هذا الفهم للحقيقة يعتمد منطقًا نضاليًا مثاليًا ثنائي الأقطاب: إما أن تكون معي وإما أن تكون ضدي، إما أن يكون الواقع مطابقًا لفكرتي وإما لا، فصاحبه يسعى إلى ما ينبغي أن يكون ومن ثم يتعامى عما هو كائن، ولذلك صاحبه يجابه الحدث الجديد بالرجم والنفي بواسطة التهم المُعدّة، فلا يسعى إلى فهم هذا الحدث الجديد وتحليله، ليعرف مُمْكِناته التي يُمكن أن تُسْتغَلّ وقواه التي ينبغي أن تُروّض، وهو منطق يُؤزم الواقع ويُلغّمه في ظل فضاء أعطى للجميع فرصةً للتواجد على ساحة الحدث وقدرةً على التأثير في الواقع، فالكل في الفضاء المعلوماتي والرمزي الذي بات يُغلّفنا، يمتلك من الوسائل والأدوات ما يُثبت به وجوده، ويصنع به أنصارًا لفكرته، ومن ثم لا يُجدي في التعامل الحصيف عند الفطن الذكي مجابهته بمنطق: إما.. وإما.
المستوى الثاني في فهم الحقيقة والتعامل معها، وجودي، بمعنى أن الحقيقة عند صاحب هذا المستوى ما تؤكده الوقائع وتدعمه وليس ما ترجوه الأقوال وتطلبه، وإنجاز الحقيقة على هذا النحو يستلزم تجاوز المستوى المعرفي للحقيقة والبناء عليه، وذلك باتجاه صاحب هذه الحقيقة المعرفية أيًا كانت قناعاته، إلى خلق وقائع تدعم هذه الحقيقة وتؤكّدها، ومن ثم يكون الفكر عند صاحب هذا الفهم للحقيقة خلقًا وإبداعًا للوقائع لا دعوة وإنشاءً للأقوال.
من شأن هذه الوقائع المخلوقة أن تُوقف الآخر الذي لا يتفق مع صاحب الحقيقة على مشاكله أو تفضح تصوراته أو تكشف عجزه أو تكفّه عن خُططه أو تُؤكد وجودَ صاحب الحقيقة في مواجهة غيره، إن الأخذ بهذا الفهم للحقيقة يُحتّم على صاحبه ألا يتجاوز الواقع بالقفز على أحداثه ووقائعه، ولذا يغلب عليه منطق الفهم وإرادة المعرفة، ومن ثم صاحبه لا يجابه الحدث الجديد بالنفي أو التسبيح، لكنه يُواجهه بالفهم والتحليل، مُدركًا أن الأحداث الجسام لا يكون ما بعدها كما كان قبلها.
لا حق إلا بخلق
نخلص مما مضى إلى أن الحقيقة المعرفية ما لم تكن لها حقيقة وجودية تترجمها وتُعبّر عنها فهي حقيقة هشة في عالمنا المعاصر، الذي بات لا يعترف إلا لِمَنْ كان له وجود مادي، وهذه الترجمة الوجودية للحقيقة المعرفية تكون في صورة وقائع، وتتعدد طبيعة هذه الوقائع المطلوب خلقُها بتعدد حقول الحقيقة.
فقد يكون الحقل معرفيًا علميًا فتكون طبيعة الوقائع المطلوب خلقُها نظرية، مثل المفاهيم الخارقة أو التصورات الناضجة أو النظريات العلمية، التي تطرح منظورًا جديدًا لقضايا قديمة في حقل علمي ما تساعد على إعادة تشكيل موضوع هذا الحقل وإغنائه، وقد يكون الحقل عسكريًا فتكون الوقائع المطلوب إنجازها ذات طبيعة عسكرية أو طبيعة غير عسكرية تعود على الحقل العسكري بالانعكاس، وقد يكون الحقل سياسيًا فتكون طبيعةُ الوقائع المطلوبة متعددةَ الأشكال والصور لتعقد هذا الحقل وترامي أطرافه، أو يكون حقلًا اجتماعيًا فتكون الوقائع ذات طبيعة اجتماعية أو سياسية من شأنها أن تَرْأَبَ صدع المجتمع وتقرّب بين قواه وتياراته، وهكذا دواليك
الغرض من كل ذلك في النهاية أن تكون الحقيقةُ التي يعتقدها المرءُ حقيقةً وجوديةً معيشةً في صورة وقائع وأحداث، وليست حقيقةً معرفيةً تُدرك بالأذهان أو تُستهلك فيها الطاقاتُ النضالية بشعارات اللسان.
بعبارة أخرى: إذا كانت الحقيقة عمومًا تَخْلُقُ لصاحبها شرعيةً ما، فلا بد أن نُفرّق بين شرعية معرفية وشرعية وجودية، ونتجاوز الوقوف عند الأولى للوصول إلى الثانية، إذ إن الأولى ما لم تخلق واقعًا معيشًا فهي نظرية لا تغيّر من الواقع شيئًا إنْ لم تؤزمه بإشعالها لصدور الناس تجاه الوقائع التي تواجههم على نحو مفاجئ لا يتماشى مع ما لديهم من حقيقة معرفية، في حين أن هذه الحقيقة المعرفية لو استطاع أصحابها تحويلها إلى واقع بخلقهم لوقائع أو أحداث تدعمها، فتتحول حينئذ من شرعية معرفية إلى شرعية وجودية، أقول: إذا ما استطاعوا ذلك فلن يستطيع أحد كائن مَنْ كان أن يقف في وجهها، بل إن الأذكياء حتى لو كانوا من الأعداء لا يملكون لها إلا الانثناء، تدبيرًا منهم لجولة جديدة من جولات البحث عن البقاء.
لنخلص من هذا إلى معادلة معرفية ذات ثقل وجودي: بقدر ما تُحْسِن مِن الخلق تمتلك من الحق.
بقي أن نُقدّم أمثلة من ماضينا تدعم صحة ما قدّمته، وأمثلة من واقعنا المعاصر تؤكد جدواه، وهذا المزمع إنجازُه في الكلمات القادمة.
**أكاديمية بالعقل نبدأ
أضافة تعليق