قبسات من سورةالكهف (3).
قال تعالى : ( قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ).
قيما : هذا اللفظ القائم جعلني أجوب في مسالكه ودلائله مثل الهائم ، وأجول في معانيه جولان الحائم ، وأرود بمسارح أفكاري في مسايح دستوري وقرآني ، علني أصل إلى حاجتي ، وتزول غمتي ،وتروى غلتي .
حتى أدتني خاتمة المطاف ، وهدتني فاتحة الألطاف ، إلى ساحة المفسرين الأشراف ، فهي متعددة الأصناف ، ونعم الأسلاف .فكانت شافية متعددة الجواهر والأصداف .
قيما : حال من الضمير ( له ) أي هذا الكتاب حاله مستقيما .
والقيم مصدر ويحمل في طياته الكمال ومشتقاته دلت على الصلاح والتمام ، منها:
ثلاثية المعنى والمقال، ويالحسن السبك والكلام في كتاب ربنا ويانعم الجمال .
المعنى الأول : أن استقامة الدين ذاتية في تشريعاته وأحكامه ، وعباداته ومعاملاته قال تعالى : ( دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا ..) وفيها قراءتان قيما بالتخفيف ، وبالتضعيف .
المعنى الثاني : أن الدين قائم مادامت كعبة المسلمين قائمة قال تعالى : ( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ) .
المعنى الثالث : أن قيام الحياة بالمال ، فذهاب المال كلية ذهاب الحياة ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) .
إذا القيم معناه المستقيم ،والقيم معتدل لا إفراط ولا تفريط .
أو قيما على سائر الكتب شاهدا على صحتها ناسخا لها، وقيم على مصالح العباد دنيا وأخرى ، والقيم الكامل المكمل لغيره .
والقيم : السيد القيم من يسوس الأمر كل هذا في اللغة .
وقوله : ( قيما ) تأكيد فى المعنى لقوله - سبحانه - : ( وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ) لأنه قد يكون الشئ مستقيما فى الظاهر؛ إلا أنه لا يخلو عن اعوجاج فى حقيقة الأمر ، ولذا جمع سبحانه بين نفى العوج ، وإثبات الاستقامة .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما فائدة الجمع بين نفى العوج وإثبات الاستقامة ، وفى أحدهما غنى عن الآخر؟
قلت : فائدته التأكيد ، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ، ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح ..انتهى .
وفي الآية مقامات أذكر بعضها :
١- المقام الأول : القرآن العظيم قيم في ذاته ، بل يعتبر قيما للكون كله .
٢- المقام الثاني :القرآن العظيم هو الكتاب المهيمن على الكتب السابقة كلها وهو شاهد لصحتها، وناسخ لها .
٣- المقام الثالث : القرآن العظيم فيه ما يقيم مصالح العباد دنيا وأخرى .
٤- المقام الرابع : لما كان الكتاب العظيم قيما صلح أن يكون منذرا ومبشرا.
٥- المقام الخامس : لما كان القرآن العظيم مستقيما ومن صفاته أنه مستقيم ، فيشترط في الداعي إليه أن يكون مستقيما ، حتى يؤدي دوره ونتائجه ،فلا يقيم الحياة ويسوسها ويقودها القيادة الناجحة اذا كان مخالفا لصفة الاستقامة .
٦- المقام السادس : منهجية الدعوة مع الكفار بشكل عام دعوتهم إلى الإيمان بالله وإنذارهم بعذاب الله وعقابه ، والإنذار هو الإعلام مع تخويفهم بعذاب الله .
بدلالة لفظ ( بأسا شديدا من لدنه ) ولفظ لدنه أي : من عند الله فالجزاء والحساب هو له جل وعلا .
٧-المقام السابع : منهجية التعامل مع أهل الإيمان التبشير بما أعد الله لهم من جزاء وثواب عظيم ، ولنا وقفة مع هذا المدلول في الحلقة القادمة .
٨- المقام الثامن : الدعوة والإنذار والتبشير الأصل فيه أن يكونا على الدوام والاستمرار بدلالة الفعل الذي يفيد التجدد والحدوث وهما ( لينذر ، ويبشر ) .
٩-المقام التاسع : التناغم بين إصلاح الحياة ،وإقامتها منسجم، مع صلاح الكتاب واستقامته .
١٠- قيام الدعوة واستقامتها لا بد لها من جماعة يقومون بها والآية تتضمن ذلك ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
مانعانيه اليوم أن قادة الاستقامة قلة في كل موطن .
مانعانيه اليوم أن هنالك من يتصدر للإصلاح والدعوة ، وهو مخلخل الاستقامة .
الخلل الحاصل في استقامة القيادات سواء على مستوى الأفراد والجماعات ، والدول ،نتيجته ماتعانيه أمتنا من انحطاط ، وانكسار ، وانهزام في شتى الميادين .
نلقاكم في حلقة قادمة إن شاء الله .
جعلها الله جمعة خير وعزة للمسلمين .
كتبه / عبدالودود قحطان