نبيل الغولي كاتب خاض اليمن في العصر الحديث حروبا أهلية وغير أهلية، إلا أن الحرب الحالية هي أسوأها وأقساها على الإطلاق؛ لأنها تهدم الركن اليماني من الجسد العربي والإسلامي تماما؛ إذ لا تأكل اليمنَ فيها نيرانُ الأسلحة الفاتكة وحدها، بل تأكله أيضا الأمراض والجوع والعداوة المذهبية والتشرد في أركان المعمورة، وتهدد تدخلات الخارج الكيان السياسي اليمني الواحد بالتشرذم ضمن دوائر نفوذ متعددة؛ لا يحكم فيها اليمنيون بلادهم إلا مساعدين أو عملاء لهذه القوة الدولية أو الإقليمية أو تلك. وخسارة اليمن عربيا وإسلاميا ليس شيئا هينا؛ فعمود العروبة الأقدم ومصدر هجرات الشعوب العربية الأول هو اليمن، وجزء كبير من التاريخ الإسلامي في المشرق والمغرب صنعته اليمن وقبائلها المهاجرة طوال قرون إلى قارات العالم القديم كله. إن اليمن الذي وضعته الأقدار في موقع جغرافي قصي نسبيا، يظل مخزنا بشريا عظيما ومتجددا للأمة التي ينتمي إليها. واليمن -مع هذا- هو القاعدة الجيوسياسية الأهم التي يستند عليها المشرق العربي كله، واهتزاز القاعدة يهز الكيان كله، وتعرضها للمخاطر يهدد وجوده برمته، وهي تؤدي للعرب دورا متكاملا على جانبي شبه الجزيرة مع سلطنة عمان، إلا أنها -من هذا الجانب- أهم من عمان في أنها مفتوحة على بحر له أهمية جغرافية أكبر من أهمية الخليج العربي. ولو افترضنا البحر الأحمر بحرا مغلقا من الجنوب لكان اليمن هو الظهر الحامي لعالم البحر الأحمر شرقا وغربا؛ فكيف وباب المندب يصل جنوب آسيا وشرقها بشمال العالم وغربه مرورا بأوصال العرب وعلى جانبيه مكة والمدينة والخرطوم والقاهرة إلى حواضر الهلال الخصيب بالعراق والشام التي تقع شرق المتوسط؟! بل إن البحر المغلق المفترض -مثل بحر قزوين- سيكون مانعا طبيعيا بين البلدان على شاطئيه، ووجود مضيق باب المندب غيَّر وظيفته من بحر فاصل إلى بحر واصل بين مساحات شاسعة من بلاد الشمال والجنوب، وكثير من هذه البلاد صاحبة اقتصادات قوية وذات وزن سكاني مهم في العالم، وتمر ملياراتها عبر مياهنا وممراتنا التي هانت علينا قبل أن تهون على خصومنا. "خسارة اليمن عربيا وإسلاميا ليس شيئا هينا؛ فعمود العروبة الأقدم ومصدر هجرات الشعوب العربية الأول هو اليمن، وجزء كبير من التاريخ الإسلامي في المشرق والمغرب صنعته اليمن وقبائلها المهاجرة طوال قرون إلى قارات العالم القديم كله" إن الحجة التي يؤيد بها التحالف العسكري العربي تدخلاته في اليمن هي منع إيران من التمدد في جنوب شبه جزيرة العرب، والحيلولة دون تهديدها أمن المنطقة؛ خاصة مع ما تصرح به القيادات الإيرانية من وقت إلى آخر من تحقيقها تقدما في دعم الفصائل الحوثية للسيطرة على اليمن، ونجد صداه الواقعي حاضرا. إلا أننا يجب أن نميز بين شيئين: أحدهما دعم الجار الذي تهدده وتهددنا المخاطر، والآخر قتل الجار للسيطرة على مقدراته وإنهاء وجوده السياسي المستقل. وما يقوم به التحالف العربي في الواقع اليمني يشبه حال شخص يظهر الشهامة لإنقاذ جاره من لص داهم بيته، ولكنه بدلا من أن يحميه من اللص يسعى إلى قتلهما معا والسيطرة على البيت! وباعتبارها حالة مناظرة من بعض الزوايا، فإننا حين نستحضر السلوك العربي في حل القضية الفلسطينية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، سوف نفهم كيف يكرر العرب في اليمن خطاياهم عمدا؛ لا لأنهم لا يفهمون طبيعة القضايا التي يتدخلون فيها، ولكن لأنهم لا يتدخلون لحل هذه القضايا؛ بل لمنع الحلول الصحيحة أن تتم فيها. لقد تدخل العرب في القضية الفلسطينية منذ تضخم الحلم الصهيوني وبدأت تظهر على أرض الواقع بذور مجتمع ودولة صهيونية في فلسطين، وقامت إستراتيجية المواجهة العربية منذ تلك اللحظة على ملء الهواء بالكلام الحماسي الفارغ، والدخول في جولات تفاوض خائبة، وتصدر المشهد الفلسطيني بأنفسهم، وتهميش الشعب صاحب القضية، والقتال بالنيابة عنه، بدلا من مساندته ودعمه والوقوف خلفه ظهيرا مخلصا للأمة والملة والتاريخ. إن من يريد أن يحافظ على اليمن لا يمكنه هذا وهو يقلب المشهد فيه رأسا على عقب، ويصنع في واقعه معادلات سياسية وعسكرية مدمرة، فلا يترك في يد اليمنيين قرارا، ولا يسلمهم قيادة لا في سياسة ولا حرب، ولا يسعى أي سعي لعلاج مشكلاته الاجتماعية والمذهبية التي تسربت إيران من إحدى ثغراتها، بل يستهدف بالدمار قوى اليمن السياسية والاجتماعية المهمة، ويعربد بطائراته دون اهتمام بأن تسقط القنابل والصواريخ على رؤوس الأبرياء أو مستشفى أو سوق. إن حماقة سياسية دعت الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك إلى التخلي عن الصومال وتركه صريعا لأزماته الداخلية بين يدي القوى الدولية والإقليمية الأخرى عقب محاولة اغتياله الفاشلة في أديس أبابا عام 1995، مع أن الصومال هي رصيد العرب الأكبر الذي يمكنه -في حال تماسكه واستقراره- أن يمثل في دول القرن الأفريقي عامل توازن ومحافظة على مصالح مصر والسودان -في المياه وغيرها- وأمن السعودية والخليج من هذه الجهة. واليوم نفعل باليمن ما هو أفدح من هذا وأشد خطرا علينا؛ إذ نقطع يميننا بشمالنا. يجب التخلص من سياسة المزاج الأعوج هذه، والتي دعت مبارك أيضا في فترة حكمه إلى مصادقة إسرائيل ومعاداة الإسلاميين بكل أطيافهم في مصر وخارجها بشراسة بالغة؛ لأن المخابرات الإسرائيلية نبهته إلى أكثر من محاولة اغتيال تدبَّر له، وليس بعيدا أن تكون هي اليد المحركة لهذه المحاولات. "إن من يريد أن يحافظ على اليمن لا يمكنه هذا وهو يقلب المشهد فيه رأسا على عقب، ويصنع في واقعه معادلات سياسية وعسكرية مدمرة، فلا يترك في يد اليمنيين قرارا، ولا يسلمهم قيادة لا في سياسة ولا حرب، ولا يسعى لعلاج مشكلاته التي تسربت إيران من إحدى ثغراتها" لهذا لا ينبغي أن نفترض أن قوة اليمن واستقلاله في خياره الوطني والشعبي هو ضعف للرياض أو أبو ظبي أو القاهرة أو غيرها، بل قوة اليمن هي قوة لهؤلاء جميعا، وعافيتها عافية لهم كلهم. كما أننا لا ينبغي أن نفترض أن الاضطراب الذي نجم عن ثورة اليمنيين عام 2011 هو فرصة الجيران وغير الجيران لإخضاعه أو تقسيمه إلى دوائر نفوذ تابعة لهم؛ لأن التماسك السكاني القبلي الذي تعرف به اليمن، والتاريخ الطويل والمجيد له سيظل ينادي أبناءه ويستحثهم لإنشاء يمن نظيف من المعربدين والعملاء على السواء. إن ما حرك شجوني ودعاني إلى كتابة هذه السطور هو قول أبي طالب المكي رحمه الله (ت 386هـ) في وصيته لمن يقصد مكة للحج: "ولْيَنْحُ مثال أهل اليمن في الزي والأثاث؛ فإن الاقتداء بهم والاتباع لشمائلهم في الحج طريقة السلف، على ذلك الهَديِ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما عدا وصفهم وخالف هديهم فهو محدث ومبتدَع. ولهذا المعنى قيل: زَين الحجيج أهل اليمن؛ لأنهم على منهاج الصحابة وطريقة السلف. وقيل في مدحهم بالتقلل والانفراد: لا يُغلون سعرا، ولا يضيّقون طريقا". فأي عاقل يبيع هذا التاريخ وهذه الجغرافية وهذا الشعب للموت؛ ظنا منه أن بلدا أو عرشا عربيا ولو نأى يمكنه أن يعيش في أمان مع يمن مضطرب تتناوشه الفتن، وتتصارع في قلبه القوى، وتتنافس على بيع السلاح القاتل له قوى الشر في الغرب والشرق. وعلى سيرة الركن اليماني، وهو المواجه لليمن من البيت العتيق، فلا ينبغي أن ننسى أن الكعبة الحبيبة إلى قلوبنا، التي تشتاق إليها الأنفس وهي أمامها، وتتجاوز عالم الأرض وهي تتملى بهاءها؛ هذه الكعبة -حماها الله- ليست أعز على الله تعالى من الدم البريء أن يراق. المصدر : الجزيرة