مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2018/07/15 05:14
التنمية الاقتصادية في الدول العربية.. بين الواقع الملموس والشعار

تعد قضية التنمية الاقتصادية من القضايا التي هي محل اهتمام الدول المتقدمة والمتخلفة على السواء، وقد بدا الاهتمام بالتنمية واضحاً من خلال اعتبارها فرعاً مستقلاً من فروع علم الاقتصاد يعرف باسم «اقتصاديات التنمية»، فضلاً عن اهتمام المؤسسات الدولية بها سواء من حيث مدلولها أو وضع المؤشرات اللازمة لقياسها، كما اتسمت الدراسات والتطبيقات الخاصة بها بالديناميكية، فلم تعد مقصورة على التنمية الاقتصادية، بل امتدت إلى الاهتمام بالتنمية الشاملة، والتنمية المستدامة، والتنمية البشرية، وإيلاء أهمية لجودة حياة البشر.

التنمية الاقتصادية تعني تغيراً هيكلياً يؤدي إلى زيادة معدل نمو الدخل أو الناتج القومي الحقيقي، وتتفق التنمية الاقتصادية مع النمو الاقتصادي في أن كليهما يعني زيادة الدخل أو الناتج القومي الحقيقي، إلا أنها تتطلب شرطاً إضافياً؛ وهو التغير الهيكلي في النشاط الاقتصادي.

التغير الهيكلي يعني تغير هيكل النشاط الاقتصادي في بلد ما، والنشاط الاقتصادي يقاس بحجمه أو بهيكله، ويعبر عن حجم النشاط الاقتصادي بالدخل القومي أو الناتج القومي، وكذلك حجم القوة العاملة المستخدمة في الاقتصاد، أما هيكل النشاط الاقتصادي فهو يعكس توزيع النشاط الاقتصادي بين القطاعات الرئيسة من صناعة وزراعة وخدمات.

والتنمية بذلك تعني تغييراً نوعياً في بنية الاقتصاد يتأتى بتنوع وتعدد الأنشطة الاقتصادية والمكانة المتزايدة التي يأخذها تدريجياً قطاع الصناعة والصناعة التحويلية بالذات، ومن ثم فإن التغير الهيكلي هو شرط أساس لتحقيق التنمية الاقتصادية، وهو الذي يميزها عن النمو الاقتصادي، وهذا التغير الهيكلي يرتبط تحقيقه بعدد من السنوات؛ أي في الأجل المتوسط والطويل، كما استخدم مفهوم التنمية الاقتصادية في الفكر الاقتصادي لمجموعة البلدان النامية ليعني زيادة الدخل القومي الحقيقي للمجتمع على مدى الزمن بمعدلات لا تسمح فقط بزيادة متوسط نصيب الفرد من هذا الدخل، وإنما تعمل أيضاً على تضييق أو سد فجوة التخلف الاقتصادي بين المجتمع والمجتمعات الأكثر تقدماً، وهو ما يتضمن حدوث تغيرات جذرية في هيكل النشاط الاقتصادي القومي سواء نظرنا إلى هذا النشاط من جهة الناتج أو التوظف أو ميزان المدفوعات.

وبإلقاء نظرة على واقع التنمية في الدول العربية، نجد أن أجيالاً عاشت وماتت بحثاً عن هذه التنمية، وعجلتها التي تغنت بعض الدول العربية بتحريكها، ولكن كان السراب نتيجتها، إنه لا ينكر أحد تميز بعض الدول العربية في ارتفاع مستوى دخول أفرادها، وهي على وجه التحديد دول الخليج، ولكن لا يمكن وضعها في مصاف الدول التي حققت تنمية لاقتصادها، حيث إنها تعتمد في دخلها على إنتاج ريعي ممثل في النفط، ولا تقوم بتوفير حاجتها من الإنتاج، فتعتمد اعتماداً شبه كلي في غذائها وملبسها وكافة حاجاتها على غيرها، بل إن سياسة «البترودولار» قضت على أي توجه فعال للتصنيع فيها؛ فهي تبيع البترول بالدولار، وتعتمد على استيراد حاجتها من الدول المتقدمة المستوردة للبترول، وتشتري بما لديها من فوائض دولارية سندات أمريكية، ولا يختلف وضع باقي الدول العربية عن وضع الدول الخليجية إلا في انخفاض مستوى الدخول مع اعتمادها نفس الشيء على اقتصاد ريعي.

ومن خلال إيلاء نظرة فاحصة لآخر بيانات مجمعة متاحة عن الدول العربية، يتكشف بوضوح ما وصلت إليه حال التنمية الاقتصادية لديها؛ حيث تشير بيانات التقرير الاقتصادي العربي الموحد (عام 2017م) لصندوق النقد العربي إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية في الدول العربية من حوالي 2437 مليار دولار عام 2015م إلى حوالي 2347 مليار دولار عام 2016م، وبالتالي انخفض متوسط  نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من حوالي 6832 دولاراً إلى حوالي 6420 دولاراً، كما تراجع معدل نمو الناتج المحلي بالأسعار الثابتة من حوالي 3.2% عام 2015م إلى حوالي 1.7% عام 2016م، وفي دول مجلس التعاون الخليجي تراجع هذا المعدل من حوالي 4% عام 2015م إلى حوالي 2.5% عام 2016م.

ومن خلال نظرة فاحصة كذلك إلى حصة قطاعات النشاط الاقتصادي من الناتج المحلي، وما حدث فيها من تراجع، يعكس الوضع ما آلت إليه الدول العربية التي تتغنى بالتنمية، فقد أظهرت مؤشرات الهيكل القطاعي للناتج المحلي الإجمالي، أن قطاع الزراعة يقدر فيه الناتج الزراعي بالأسعار الجارية بحوالي 142.1 مليار دولار في عام 2016م بنسبة 5.8% من الناتج المحلي الإجمالي بانخفاض بنحو 1.4% مقارنة بالعام 2015م، وبلغ نصيب الفرد من الناتج الزراعي حوالي 389 دولاراً خلال عام 2016م، وهو ما يعكس بصورة عامة انخفاض مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي رغم استيعابه نسبة عالية من قوة العمل تبلغ حوالي 20%، ويرجع ذلك بصفة رئيسة إلى انخفاض نسبة الأراضي المستغلة للإنتاج الزراعي حيث تمثل نحو 60% من مساحة الأراضي القابلة للزراعة، فضلاً عن أزمة المياه، والفجوة التكنولوجية بين مخرجات البحوث الزراعية من جهة، ومتطلبات التنمية الزراعية من جهة أخرى.

وبالنسبة لقطاع الصناعة، فقد أظهرت مؤشرات الهيكل القطاعي للناتج المحلى الإجمالي أن الناتج الصناعي الإجمالي للدول العربية بلغ في عام 2016م حوالي 701 مليار دولار، وبنسبة 29% من الناتج المحلي الإجمالي العربي، مقارنة بنسبة بلغت 32.9% خلال عام 2015م، وقد سجلت مساهمات الصناعات الاستخراجية في عام 2016م تراجعاً ملحوظاً في الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية، بلغت حوالي 18.8% مقابل 21.9% خلال عام 2015م، وذلك نتيجة للاستمرار في انخفاض أسعار النفط.

أما بالنسبة للصناعات التحويلية التي تعد كاشفاً مهماً للتنمية الاقتصادية، فقد أظهرت مؤشرات أدائها نتائج سلبية، حيث تراجعت القيمة المضافة من 268.1 مليار دولار في عام 2015م إلى 259.5 مليار دولار في عام 2016م؛ أي بنسبة 3.2%، وبلغت نسبة مساهمات الصناعات التحويلية خلال عام 2016م نحو 11.1% من الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية، وهو ما يبرز ضعف مكونات التنمية الاقتصادية في الدول العربية، علماً أن قطاع الصناعة برمته يوفر فرص عمل لنحو 17.8% من إجمالي القوى العاملة العربية، وبلغ نصيب الفرد من الناتج الصناعي لعام 2016م حوالي 1917 دولاراً.

تشوّه واضح

إن الواقع يكشف أن هيكل الاقتصاد العربي يُظهر تشوهاً واضحاً في القطاعات الإنتاجية الرئيسة، لا سيما قطاع الصناعة والصناعة التحويلية بصفة خاصة، وهو ما يبرز ريعية الاقتصاد العربي واعتماده بصفة رئيسة في جله على الصناعات الاستخراجية التي في جلها تتمثل في النفط والغاز، فضلاً عن قطاع الخدمات الذي يستحوذ على النصيب الأكبر من الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية، وكل ذلك يعكس بصورة واضحة عدم قدرة الدول العربية على خلق تنمية مستدامة يستفيد منها الجيل الحالي ويورثها لما بعده من أجيال.

ورغم ما سعت إليه العديد من الدول باسم برنامج الإصلاح الاقتصادي رفع شعار التنمية، لكن هذا الإصلاح كان إصلاحاً شكلياً خلا من المضمون وتمسك بالمظاهر، بل رهنت بعض الدول اقتصادها ومواردها لصندوق النقد الدولي، والتسليم التام لروشتة الصندوق، رغم نواياه الاستعمارية الناعمة المعروفة، وتجاربه المميتة لأكثر من ستين دولة على مستوى العالم، ذلك الصندوق الذي يعمل لصالح الكبار، كما وصفه العالم الاقتصادي المعروف «إستجلز» (Stiglitz)، الأستاذ الجامعي والنائب السابق لرئيس البنك الدولي للشؤون الاقتصادية، والحاصل على جائزة «نوبل» في الاقتصاد.

لقد أدى اتباع هذه السياسات إلى زيادة في مستويات الفقر في العديد من الدول العربية، لا سيما في ظل انخفاض مخصصات الحماية الاجتماعية والتعليم والصحة وتأثير ذلك على إنتاجية الفرد، فما زالت الأمية في الدول العربية مرتفعة، حيث تقدر نسبتها بين البالغين (15 سنة فما فوق) في عام 2016م بحوالي 19.5%، وبذلك تفوق مثيلتها في جميع الأقاليم بالعالم، كما أن نسبة الإنفاق على التعليم إلى الدخل القومي الإجمالي وإن كانت تمثل نسبة 4.5% في عام 2015م وهي قريبة من النسبة العالمية التي تقدر بحوالي 4.6%، فإن العالم العربي يعاني من انخفاض جودة التعليم وعدم إيلاء العناية الكافية بالبحث العلمي، حتى خلت جامعاته من أفضل 100 جامعة على مستوى العالم، وفقاً لتصنيف شنغهاي للعام 2016م.

وبالنسبة للصحة، فقد بلغت نسبة الإنفاق عليها من إجمالي الناتج المحلي في الدول العربية في عام 2015م حوالي 5.3%، وهي نسبة تقل كثيراً عن المتوسط العالمي البلغ حوالي 9.9%، وما زالت الخدمات الصحية تفتقر في العديد من الدول العربية إلى توافر الجودة والمهارة، وهو ما يدفع السكان العرب للسفر للعلاج بالخارج.

ومن العجب أن نجد بعض المتفيقهين ما زالوا يحمّلون الإخفاق في التنمية للزيادة السكانية، هذه الزيادة التي لو نظر إليها الإنسان بمنظور اقتصادي سليم لوجدها نعمة لا نقمة، فالكون كله مسخر للإنسان، وفيه من الموارد ما يكفيه، وما عليه إلا السعي، أما الرزق فهو وعد من الرحمن للساعين، كما أن الله تعالى خلق للإنسان فماً واحداً ويدين، واليدان لهما القدرة على إطعام الفم بالسعي، كما أن الإنسان هو من يكتشف آلاف الأفكار التي يمكنها أن تخلق قدرة علـى فتح مجالات للعمل والإنتاج وتحقيق قيمة مضافة لا يستهان بها.

لقد آن لتجارب الإصلاح في الدول العربية أن تخرج من سجن التركيز على الطلب والسياسة النقدية والمالية إلى رحاب السياسة الهيكلية بتنويع الهياكل الاقتصادية، والتركيز على القطاعات عالية القيمة المضافة والقطاعات التصديرية وقطاع الاقتصاد المعرفي، وفتح المجال للقطاع الخاص لممارسة دوره التنموي بمسؤولية، والاستفادة من الاستثمار الأجنبي وتقنيته وفقاً للمصالح المتبادلة دون التفريط في الثروات وسيادة البلاد والعباد، مع توفير حاضنة حقيقية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة بصورة تمكنها من المساهمة بفعالية في التصدير وخلق فرص عمل، مع إصلاح التعليم وربطه بمخرجات سوق العمل، وتفعيل البحث العلمي، والخدمات الصحية، وكل هذا لا بد أن يكون في ظل حاضنة كبرى تحترم الحرية السياسية ومن ثم الحرية الاقتصادية، وترسي مبادئ العدالة والشفافية والنزاهة والحوكمة.


أضافة تعليق