شعب الجبارين
فهمي هويدي
أشهد أن أهل غزة يستحقون منا الحفاوة والاكبار، بأكثر مما يستحقون من الرثاء أو الاعذار
(1)
أدري أننا مسكونون هذه الأيام بمشاعر اللوعة والحزن، جراء ما شاهدناه على شاشات التلفزيون من صور سجلت بشاعة البربرية الاسرائيلية التي فتكت بالبشر، وحولت القطاع الى خرائب وانقاض. كأن ما جرى لم يكن اجتياحاً عسكرياً، وانما كان حملة انتقام وترويع استهدفت تدمير القطاع، وذبح أهله والتمثيل بهم، حتى يكونوا أمثولة وعبرة لغيرهم ممن يتحدون العجرفة والاستعلاء الاسرائيليين. ادري ايضا ان الجرح اكبر من ان يلتئم لاجيال مقبلة. و ان شعورنا بالخزي و العار لا يمكن انكاره، سواء لاننا لم نستطع اغاثة الفلسطينيين و هم يذبحون، في حين وقفت انظمتنا متفرجة عليهم، او لان بعضنا كان عليهم و ليس معهم او لهم.
ذلك كله صحيح لا ريب. لكن من الصحيح أيضاً أن دماء فلسطيني غزة التي نزفت واشلاءهم التي تناثرت وصرخات أطفالهم التي ألهبت ضمائرنا ومازالت أصداؤها تجلجل في اعماقنا، هذه كلها اذا كانت قد سجلت أسطر المأساة، الا أن وقفة الشعب، وصموده الرائع ومقاومته الباسلة، هذه أيضاً سجلت صفحات مضيئة في تاريخ أمتنا لا ينبغي أن نبخسها حقها. يكفي أن شعب الجبارين هذا رغم كل ما تعرض له من حمم أمطرته بها آلة الحرب الاسرائيلية بكل جبروت وقسوة، ظل رافضاً للركوع والتسليم، وها هو سيل الشهادات التي سمعناها بعد وقف المذبحة على ألسنة الأطفال والنساء والشيوخ، كلها تجمع على أن طائر الفينيق التي تحدثت عنه الأسطورة، ذلك الذي يخرج حياً من تحت الرماد، ثبتت رؤيته في غزة.
لأنهم لم يركعوا ولم يرفعوا رايات التسليم فانهم نجحوا وأفشلوا خطة عدوهم. صحيح أن هذا كلام لا يروق لبعض الساسة والمثقفين من بني جلدتنا ممن يرون أن شرف الأمة لا يستحق أن يموت المرء من أجل الدفاع عنه، الا أن المعلومة تظل صحيحة، أعجبت أصحابنا هؤلاء أم لم تعجبهم. تشهد بذلك كتابات أغلب المعلقين الاسرائيليين، التي سجلها تقرير نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» في 1/19، تضمن خلاصة لتلك الكتابات. منها مثلاً أن رون بن بشاي المعلق العسكري لصحيفة يديعوت احرونوت، ذكر في النسخة العبرية للصحيفة في (1/18)، أن اسرائيل فشلت بشكل واضح في تحقيق الهدف الرئيسي المعلن للحرب، المتمثل في تغيير البيئة الأمنية في جنوب اسرائيل. وهو ما لم يتحقق حين تبين أن حركة حماس مستمرة في اطلاق صواريخها. وهو نفس المعنى الذي أكده المعلق السياسي الوف بن، وكرره جاكي كوخي معلق الشؤون العربية في صحيفة «معاريف» الذي قال أن اسرائيل فشلت في توفير صورة النصر في معركة غزة، وأن ما تبقى من هذه الحرب هو صور الأطفال والنساء والقتلى. التي أوصلت الى عشرات الملايين في العالم رسالة أكدت تدني الحس لدى الجيش الاسرائيلي. منها أيضاً ما قاله يوسي ساريد الرئيس السابق لحركة ميرتس في مقال نشرته صحيفة «ها آرتس» أن عملية القتل البشعة التي انهت بها اسرائيل مهمتها في غزة تدل على أنها هزمت في هذه المعركة ولم تنتصر. اما المعلق عوفر شيلح فقد ذكر ان القيادة الاسرائيلية حين قررت تدمير غزة فانها تاثرت في ذلك بالنهج الذي اتبعه رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين مع شيشينا و جورجيا، ثم اضاف: «اذا كنا نريد ان نظهر كمنتصرين باستخدام هذا النهج، فويل لنا».
(2)
صحيح أن المقاومة لم تستطع أن تفعل شيئاً يذكر أمام الغارات التي أطلقت فيها اسرائيل أقوى طائراتها النفاثة لأسباب مفهومة، الا أن معركتها الحقيقة كانت على الأرض، حيث فاجأت المقاومة خلالها اسرائيل بما لم تتوقعه.
لم تهزم المقاومة القوات الاسرائيلية، لكن كل الشواهد دلت على أنها صمدت أمام تلك القوات، ووجهت اليها ضربات موجعة، أسهمت في افشال مهمتها. ولا تنس أن يوفال ديكسين رئيس المخابرات الداخلية الاسرائيلية كان قد توقع أن يسقط القطاع خلال 36 ساعة، ولكن بسالة المقاومة أطالت من أجل الحرب، حتى اضطرت اسرائيل الى وقف اطلاق النار من جانبها في اليوم الثاني والعشرين.
ليلة الاثنين 1/12 والاجتياح في أسبوعه الثاني، فوجئ الجنرال يو آف بيليد قائد لواء الصفوة (جولاني) والعشرات من جنوده بأن النيران فتحت عليهم عندما كانوا يقومون بتمشيط المنطقة الريفية التي تقع شرق مخيم «جباليا» للاجئين شمال قطاع غزة. فما كان منه الا أن اندفع مع جنوده للاحتماء ببيت أحد الفلسطينيين في المنطقة، كان قد تم اخلاؤه من سكانه. لكن ما ان تجمع الجنود والضباط في قلب المنزل، حتى دوى انفجار كبير انهار على أثره المنزل؛ فقتل ثلاثة جنود وجرح 24 منهم بيليد نفسه، وعرف أن ستة من الجرحى في حالة ميئوس منها. وكانت تلك احدى صور الاستدراج التي لجأت اليها المقاومة. ذلك أن اطلاق النار أريد به دفع الجنود للاحتماء بالمنزل الذي تم تفخيخه بالمتفجرات في وقت سابق.
موقع صحيفة يديعوت احرنوت على الانترنت تحدث باقتضاب عن قصة ضابط آخر هو الرائد ميكي شربيط، الذي يرقد في احدى المستشفيات للعلاج من اصابته في اشتباك مع رجال المقاومة الفلسطينية في شمال القطاع. هذا الضابط الذي خدم كقائد سرية بسلاح المدرعات في حرب لبنان الثانية، استهجن تجاهل الاعلام الاسرائيلي الاشارة الى شراسة المقاومة التي واجهتها القوات الاسرائيلية. وفي الحديث الذي أدلى به الى النسخة العبرية لموقع الصحيفة وصف الحرب الدائرة وقتذاك بأنها «حرب أشباح لا نرى فيها مقاتلين بالعين المجردة، لكنهم سرعان ما يندفعون صوبنا من باطن الأرض. لقد كنا نتحرك في الشوارع ونحن ندرك أن أسفل منا مدينة خفية تعج بالشياطين».
فوجئ الاسرائيليون بكل ذلك. واعترف روني دانئيل المعلق العسكري لقناة التلفزة الاسرائيلية الثانية بأن قوات الجيش الزاحفة واجهت مقاتلين أشداء، وقال على الهواء ان الابداع العسكري الذي يواجه به نشطاء حماس الجيش الاسرائيلي فاجأ قادته بشكل صاعق. ونوّه الى أنه محظور عليه التحدث عن المفاجآت التي تعرض لها الجنود الاسرائيليون في غزة، التي تفسر عدم قدرة هؤلاء الجنود على التقدم في كل القطاعات رغم مضي 19 يوماً على الحملة، ورغم القاء الطائرات الاسرائيلية مئات الأطنان من القنابل الفتاكة لتقليص قدرة المقاتلين الفلسطينيين على المقاومة.
في هذا السياق نقل اليكس فيشمان المعلق العسكري لصحيفة يديعوت احرنوت عن عدد من الجنود في ساحة المعركة أن الهاجس الذي سيطر عليهم طول الوقت هو الخوف من الوقوع في الأسر. وأشار هؤلاء الى أن مقاتلي حماس أعدوا شبكة من الانفاق للمساعدة في محاولات أسر الجنود.
(3)
هؤلاء المقاومون البواسل لم يهبطوا على غزة من السماء، ولكنهم أحفاد وأبناء شعب الجبارين، الذي لايزال منذ مائة عام متشبثاً بأرضه التي رواها بدمه. لقد راقبت أبناء غزة الذين ظهروا على شاشات التلفزيون طوال المذبحة وبعدها، فلم أسمع واحداً منهم أعلن تمرده أو سخطه على الأوضاع في القطاع. كانوا جميعاً ودون استثناء أكثر نضجاً ونزاهة من كل الأصوات التي حاولت تمييع الموقف وإلقاء تبعة ما جرى على وقف التهدئة تارة أو على حكومة القطاع تارة أخرى. لم يروا الا عدواً واحداً ومجرماً واحداً هو اسرائيل. وانعقد اجماعهم على أن حماس ليست الهدف، وانما رأس المقاومة هو المطلوب وتركيع الفلسطينيين هو الهدف.
رغم الجحيم الذي عاشوا في ظله والمآسي التي لحقت بهم، فانهم لم يفقدوا صبرهم الأسطوري. وكشفت محنتهم عن معدنهم الحقيقي، بالتحامهم وتكافلهم واصرارهم على الاستمرار والثبات على الأرض. القصص التي تروى عن المدى الذي بلغه الالتحام والتكافل لا تكاد تصدق، وكلها تثير الدهشة والاعجاب، يتحدث القادمون عن الموسرين الذين كانوا يشترون شاحنات الخضار وأكياس الدقيق ويوزعونها على المعوزين. يتحدثون أيضاً عن البيوت التي فتحت لمن دمرت مساكنهم، وعن الثياب والبطانيات التي جمعت لتوزع على الذين لاذوا بالخيام احتماء من البرد. وعن السيدات اللاتي أصبحن يخبزن يومياً مئات الأرغفة لجيرانهم، وآخريات كن يتناوبن طبخ العدس والبقول ويبعثن بالوجبات الساخنة الى أماكن تجمعات الفارين من الجحيم. يتحدثون أيضاً عن الكيروسين الذي كانوا يتقاسمونه فيما بينهم يوماً بيوم، لاشعال المصابيح والمواقد البدائية التي أصبحت تهرب من مصر، بعدما اختفت هناك منذ عقود.. الخ.
الذي لا يقل ادهاشا عن ذلك هو حالة الانضباط الشديد التي مر بها القطاع، فقد كانت أجهزة السلطة تتولى طول الوقت الاشراف على توزيع الخبز والبطانيات والكيروسين. ورغم أن الدوائر كانت معطلة، الا أن رواتب الموظفين كانت تصل اليهم في بيوتهم. ورغم أن القصف المكثف كان يمكن أن يدفع ألوف البشر الى الاتجاه صوب الحدود المصرية ومحاولة عبورها هرباً من الموت، الا أن ذلك لم يحدث، ووقفت شرطة القطاع تحرس الحدود وتؤمنها. وفور اعلان وقف اطلاق النار، سجلت الفضائيات كيف تحركت الأجهزة لضبط المرور وازالة ركام الأبنية المدمرة، والتخلص من النفايات. وقبل هذا وبعده، رفع الأنقاض بحثاً عن الأحياء وانتشال بقايا الجثث. لقد دبت الحياة في طائر الفينيق.
(4)
لقد كان المقاومون يعرفون جيداً أنهم سيواجهون العدو في واحدة من معارك كسر العظم، لذلك أطلقت كتائب عز الدين القسام على المعركة اسم «الفرقان»، باعتبارها اشتباكاً مصيرياً يفرق بين الحق والباطل. وحسب مصادر الحركة، فان المقاومة لم تخسر أكثر من %10 من مقاتليها، في حين أن قدرتها التسليحية مازالت جيدة، وبوسعها أن تواصل اطلاق صواريخها التي تكدر حياة العدو لشهر آخر على الأقل. بل انها لم تستخدم الطاقة القصوى لمدى الصواريخ، لأنها أرادت أن تحتفظ به للتوقيت الذي تختاره. وأغلب الظن أن اسرائيل أدركت ذلك جيداً، وذلك هو التفسير الوحيد للوثة التي أصابتها وهي تستنفر أمريكا وأوروبا وبعض العرب لكي يهبوا جميعاً لأجل وقف تهريب السلاح الى غزة.
غزة لم تهزم، وما حدث في القطاع ليس مأساة ولكنه ملحمة. لكن الهزيمة الحقيقية والمأساة التي يندى لها جبين الشرفاء، هي من نصيب الواقفين على الضفة الأخرى من المنسوبين الى الأمة العربية، الذين تقاعسوا وولوا الأدبار حين جد الجد. وهم الذين وصفهم القرآن بأنهم: ?ويحلفون بالله انهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون.
uk27/01/2009الوطن الكويتية