مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الدعوة الإسلامية إلى توطيد دعائم الأمن والسلم في العالم
الدعوة الإسلامية إلى توطيد

دعائم الأمن والسلم في العالم

لقد أساء كثير من الناس فهم رسالة الإسلام ذات النزعة العالمية وأشاعوا كلمات، وقرروا أفكاراً عائمة، وأعلنوا شعارات مغرضة، منها أن الإسلام انتشر بحد السيف، ولايعترف بحرية الاعتقاد والفكر والانتماء الإقليمي وأن الجهاد في الإسلام وسيلة لقهر الشعوب والأمم الأخرى، وأنه عدوان مستمر ودائم، وأن علاقات المسلمين بغيرهم هي علاقة متوترة وعدائية وفوقية وتسلط.

وهذا كله إما جهل بحقيقة دعوة الإسلام السلمية، أو تشويه مغرض نابع من نار التعصب والحقد والكراهية على المسلمين، أو تفسير مغلوط لحقائق التاريخ، أو تأويل سطحي لبعض النصوص التشريعية وعبارات بعض الفقهاء الرامية إلى الحفاظ على قوة المسلمين وتأكيد هيبتهم، وضرورة صمودهم واستماتهم في قهر العدو الذي بدأ العدوان، واخترق حرمات المسلمين وديارهم وأوطانهم، واغتصب بعض أجزاء بلادهم، وقاوم بشدة وظلم وتحدّ كل مقومات الحرية الطبيعية في اختيار العقيدة الصالحة والدين الأقوم.

والواقع أن الإسلام في جوهره ووسائله وغاياته أشدّ الأديان حرصاً على إقرار الأمن والسلم في العالم، سواء في أوطانه، أو في أوطان الآخرين، لايختلف اتجاهه في التاريخ بدءاً من بزوغ فجر دعوته، ومروراً بسياسة دوله وحكّامه وعلى مر العصور، وانتهاءً بتحقيق الغاية الأساسية له، وهي: تحقيق الاستقرار والاطمئنان في العالم، وتوطيد دعائم السلم في كل وقت، واحترام أصول الحرية والعدالة والمساواة في كل مكان وزمان، ومع كل شعوب العالم.

ومنشأ التشويه والخطأ في فهم رسالة الإسلام السلمية أن المسلمين في كل العصور، وفي الماضي والحاضر والمستقبل كانوا ومازالوا هم المعتدى عليهم والمهددة مصالحهم، والمتآمر على وجودهم وكيانهم، ومحاولة القضاء على وطنهم ودعوتهم، واستلاب خيراتهم ومحاولة تركيعهم لنفوذ وهيمنة غيرهم من أولئك الذين ينتمون إلى الثالوث المدمر ألا وهو: الشرك أو الوثنية، واليهودية أو الصهيونية الغادرة، والصليبية الحاقدة.

لقد خاض النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ثلاث عشرة سنة بل قرابة خمس عشرة سنة بعد إعلان نبوته ونشر دعوته سبعاً وعشرين معركة مع العرب وغيرهم ممن جاورهم في شبه جزيرة العرب من الفرس والرومان كان المشركون واليهود والصليبيون هم البادئين بالعدوان على المسلمين، ولم يشرع القتال في القرآن الكريم إلا بعد أن استفحل عدوان هؤلاء، فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 22/39].

واستمر الأعداء في الحقب التاريخية، بعد الهجرة إلى المدينة المنورة سنة (13هـ)، في عدوانهم وممارسة اعتداءاتهم على البلاد والأشخاص، مما استدعى المسلمين أن يزأروا، ويردوا العدوان، ويقمعوا عدوان المعتدين، ويمارسوا حق الدفاع الطبيعي عن وجودهم وكرامتهم وعزتهم، أو يقوموا بمقتضى الخطة الاستراتيجية الطبيعية في فتح بلاد، أو ابتداء معارك في أجزاء من البلاد الخاضعة لنفوذ الرومان في الوسط والغرب كما في مصر وتركيا وشمال بلاد المغرب العربي، أو لنفوذ الفرس في الشرق في العراق وبلاد فارس، وفي غير هذه المناطق كإندونيسيا وماليزيا وبلاد جنوب شرق آسيا، بل وفي الهند، وفي القارة الإفريقية والعالم برمته، انتشر الإسلام ودعوته بالسلم والإقناع والدعوة الهادئة العقلية والحوار البناء.

إن دعوة الإسلام إلى الأمن والسلم الدوليين، والأمن الداخلي بين أبناء المجتمع في مطالبة تعددية مذهبية ودينية وطائفية هي من جوهر رسالة الإسلام وغايته الأساسية، لأن الإسلام دين العقل والفكر، وأبسط المبادئ العقلية أن ما فرض بالقوة أو أكره عليه ولاسيما العقيدة، سرعان ما يزول بزوال ظرف الإكراه أو القوة، وقد صرح القرآن الكريم بمنع الإكراه في الدين، أو إقرار الحرية الدينية، فقال الله تعالى: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 2/256]. وهذا دليل قاطع على أن المسلمين لم يكرهوا ولن يكرهوا أحداً على الدخول في الإسلام، وقد دلت وقائع التاريخ على هذا، فلم يثبت في أي حقبة زمنية في الماضي السحيق أن المسلمين أكرهوا أحداً على الإسلام، وتثبت هذه الحقيقة الأولى وهي: أن الإسلام لم ينتشر بالسيف.

والحقيقة الثانية: أن الإسلام حريص كل الحرص من أجل ضمان حرية انتشاره في العالم على إشاعة السلام والاستقرار، ومحاربة الإرهاب، إلا إذا توافرت حالة الحرب، أو اعتدي على بلاد المسلمين، ودعاة الإسلام إلى إعلاء كلمة الله وهي كلمة الحق والتوحيد والعدل والفضيلة، وإعلان حق المساواة أمام الله والعبودية (الطاعة التامة) له تعالى.

وأول دلالة على هذا أن المسلمين في صدر الإسلام صبروا على أذى المشركين الوثنيين ومن وراءهم من الحاقدين فترة تقارب 15 سنة، دون إذن بردّ الاعتداء، ومع الإصرار على الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة، مثل قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن} [النحل: 16/125]، وقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 15/94]، وقوله سبحانه: { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 5/13]، وقوله عز وجل: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 43/89]، وقوله تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 15/85].

وفيما بعد مرحلة الإذن بالقتال وتقرير مشروعيته، أمر الله تعالى المسلمين بان يؤثروا السلام والتفاهم والحوار وحل المشكلات بالصلح والمعاهدة، فقال تعالى: { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء: 4/94]، {يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ} [البقرة: 2/208]، {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 8/61].

وكانت تحية الإسلام على الدوام: السلام عليكم، والجنة: دار السلام، {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دارِ السَّلامِ} [يونس: 10/25].

ولكن من العبث والهزء أن يدعو المسلمون غيرهم في أثناء نشوب المعارك إلى قبول السلام، وعلائم النثر وهزيمة الأعداء المعتدين ظاهرة للعيان، لذا قال تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد: 47/35].

وإذا قبل الأعداء قبل البدء في القتال الاحتكام إلى السلام والصلح والتفاهم والمعاهدة الموطدة لدعائم السلام، فإن المسلمين على الفور يستجيبون لنداء السلام الآمن المستقر غير القائم على المكر والخداع، ونية العودة إلى القتال، والاستعداد للمعارك في المستقبل، فمن الخطأ الفادح وصف المسلمين أنهم متعطشون لإراقة الدماء، فهذا صنيع أو شيمة من لايخشى الله، ولايعتقد بأن البشرية كلها عباد الله، وصبغته وصنعه: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ} [البقرة: 2/138].

ويصرح النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بقوله - في الصحيحين عن أبي هريرة: ((لاتتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا)).

وبناء عليه، تكون الحقيقة الثالثة وهي أن الأصل (القاعدة أو المبدأ العام) في العلاقات الخارجية أو الدولية بين المسلمين وغيرهم هو السلام، والحرب استثناء أو ضرورة طارئة، وهذا مقرر لدى مختلف الفقهاء من المذاهب: أهل السنة وغيرهم، بدءاً من أواخر القرن الهجري الأول والقرن الثاني: عصر الاجتهاد الفقهي.

لكن إذا اغتصب الأعداء أرضاً إسلامية، أو تآمر غير المسلمين الخاضعين لمظلة الدولة الإسلامية على إجداث الفتن الداخلية أو محاولة الانفصال والانشقاق، فلايصح للمسلمين اللجوء إلى المسالمة، بل لابد من استرداد الحق بالقوة، والحفاظ على وحدة البلاد ووحدة الأمة من المسلمين وغير المسلمين، لأن القبول بالغضب ذلة ومهانة، والرضوخ لأراجيف الأعداء ومؤامراتهم وتحركاتهم المشبوهة لون من الهزيمة والضعف أو الاستضعاف، وهذا مناف لمبدأ الكرامة الإنسانية، وعزة النفس، وصون الحقوق والمكاسب، وحينئذ ينقض عهد المعاهدين، ويحتكم إلى السلاح بإشراف الدولة، لا بالمجازر الدموية الشخصية أو الفئوية أو الطائفية، فهذا وهو إدارة الحروب وإعلانها، وإنهاء المعاهدة، وترتيب استراتيجية الدفاع، منوط بإرادة الحاكم أو الدولة، وليس للأفراد بل ولا يحق لهم شرعاً اللجوء إلى الفتن الداخلية والاقتتال المحلي، لما فيه من فوضى، وهمجية، وتخريب وتدمير، وقتل بغير حق، وارتكاب الظلم، وإلحاق الأذى بالناس من غير زاجر ولا رداع ولانظام، فالنظام والتزامه أساس لإقرار الحريات والحقوق واحترام العدل، ومنع الظلم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسانِ} [النحل: 16/90]، وقال سبحانه: {ِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} [المائدة: 5/8]، أي لايحملنَّكم بغض قوم على ترك العدل معهم.

ونبذ العهد، أي نقضه مشروط بظهور أمارات الخيانة من الأعداء، لقوله تعالى: {وَإِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ} [المائدة: 8/58] أي أعلمهم بانتهاء المعاهدة، حتى يكونوا أنتم وهم متساويين في العلم بنقض العهد، وإنهاء السلام، والاحتكام إلى القتال، وهذه حالة طارئة لاتعكر ضرورة العودة، إلى مائدة المفاوضات، وإيثار السلام على الحرب، ففي السلام صون الدماء، والحفاظ على حق الحياة للمسلم وغير المسلم مطلب ضروري ومقصد مهم جداً من مقاصد الشريعة ومن أصولها وقواعدها الكبرى.

والحقيقة الرابعة: أن الإسلام دعوة الحق والخير والتوحيد والعدل والإحسان والفضيلة هو: دعوة ذات نزعة عالمية، يود الانتشار في العالم، من أجل خير البشرية نفسها، ومن أجل إنقاذ الشعوب والأمم من حمأة الفوضى والكفر، والضلال والانحراف، وليس هو ذا نزعة عنصرية أو إقليمية، أو استعمارية لسلب خيرات الأمم، قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ((إن الله بعث محمداً بالحق هادياً، ولم يبعثه جابياً)). ولكن الرغبة في الامتداد العالمي لاتعني مطلقاً فرض نظامه بالقوة أو القهر أو الإكراه، وإنما بالإقتناع الذاتي، والقبول المنطقي، والرضا بقواعد الإسلام ومبادئه الإنسانية العظمة في الحرية والمساواة، وإشاعة الحب والود، ونشر ألوية السلام في العالم، كما جاء في آية قرآنية كريمة: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 3/104].

والرغبة في نشر الإسلام ليس كنظام العولمة المعاصرة: الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة على الاستكبار وإنكار وجود الآخرين، وإلحاق الجور والظلم بالضعفاء والمستضعفين، وإنما هي عرض مضامين الوحي الإلهي المتمثل بالقرآن والسنة النبوية، بالأسلوب الحسن والحوار البنّاء، والجدل بالتي هي أحسن، لقوله تعالى: {وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 29/46] فمن شاء آمن ومن شاء كفر وبقي على دينه وتقاليده ومعتقداته، فلايمس ولا يلحق به أدنى جور أو ظلم.

والحقيقة الخامسة: أن الباعث على قتال الأعداء ليس هو بسبب مخالفتهم للإسلام في العقيدة أو الكفر، وإنما بسبب محاربتهم المسلمين، واعتدائهم المستمر على حرمات الإسلام وديار المسلمين، فلايباح قتل إنسان لمجرد مخالفتهم للإسلام، وإنما يقتل بسبب اعتدائه أو عدوانه أو تحديه أو تآمره على المسلمين، كتآمر جيوش الصليبيين على المسلمين ومحاولة استئصال الوجود الإسلامي في القرن السادس الهجري أو الثاني عشر الميلادي، وكذلك حروب التتار والمغول ووحشية أهلها الضارية وإسقاط الخلافة الإسلامية في بغداد عام 656هـ، ومثل مجازر الصهاينة في فلسطين العربية المسلمة في النصف الثاني من القرن العشرين وعلى مدى 53سنة وإلى الآن، وحروب الهنود ضد المسلمين في كشمير وبنغلاديش والباكستان، ومحاولة تفتيت الأعداء وحدة بلاد أو جزر إندونيسيا من طريق التنصير وتأليب غير المسلمين على المسلمين، ومحاولة الانفصال كما حدث في ولاية تيمور الشرقية منذ عامين، وكما حصل في السنوات الأخيرة في البوسنة والهرسك وكوسوفو ومقدونيا وأرتيريا.

وليس أدل على هذا الاتجاه الفقهي لدى أغلبية الفقهاء المسلمين في تقرير هذه الحقيقة من احترام مبدأ التعايش الديني بين المسلمين وغيرهم في مظلة دولة واحدة، وتحريم الاعتداء على المدنيين من نساء وأطفال ورهبان وفلاحين، ومنع كل مايدمر مظاهر الحضارة والمدنية من تهديم المنازل، وقطع الأشجار، ومصادرة أراضي المسلمين ظلماً وبهتاناً، وتشريد السكان كالحاصل الآن في فلسطين المحتلة.

والحقيقة السادسة: أن التوصل إلى السلام مع المسلمين يكون إما بالدخول في الإسلام، وإما بتنظيم أصول السلام العادل بمعاهدة كمعاهدة الانضمام إلى الدولة الإسلامية تحت مظلة (عقد الذمة) أي الضمان والعهد والأمان، ومعاهدة الصلح المؤقت (الهدنة) أي الصلح المتجدد لمدة طويلة كعشر سنوات فأكثر مثل صلح الحديبية، وإما بالوقوف على الحياد، كحالة أثيوبيا (الحبشة) في العهد النبوي، وحالة بلاد النوبة (السودان بالمعنى الواسع) في عهد حاكم أو والي مصر عمرو بن العاص، وحالة قبرص في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه عام (28هـ/648م).

ويحترم المسلمون أشد احترام بنود المعاهدات مع الأعداء إلى أن ينقضوها، أو يحاربوا المسلمين، أو يناصروا دولة معادية للإسلام. ولانجد كالإسلام نظاماً يقدس المعاهدات، للوصايا القرآنية المتكررة في هذا الشأن مثل قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ} [النحل: 16/91]، وقال تعالى واصفاً المؤمنين: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ} [الرعد: 13/20]، وأشد من هذا تقديم الوفاء بالعهد على مناصرة فئة إسلامية تعرضت لعدوان، وذلك في قوله سبحانه: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} [الأنفال: 8/72]. ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحكم القاطع بقوله محذراً من نقض العهد أو الغدر فيما يرويه الترمذي والبيهقي وغيرهما: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته، ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة)). وأقر النبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثته ما تحالف عليه أهل الجاهلية العربية في حلف الفضول الإنساني لنصرة المظلوم، وحماية زائري مكة المكرمة وحجاج البيت الحرام، فقال: ((لقد شهدت في دار عبد الله بن جُدْعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعي به في الإسلام لأحببت))(1).

وعلى الصعيد الداخلي أبرم النبي صلى الله عليه وسلم مع طوائف المدينة المنورة بعد الهجرة ميثاق الصحيفة لتحقيق الأمن والاستقرار والتعايش الديني، ومما جاء في نص هذه المعاهدة الرائعة: ((وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم...))(2).

وحينئذ لايحل شرعاً الإخلال بمقتضى العهد أو إيذاء معاهد، أو إلحاق الظلم به، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو داود والبيهقي: ((ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة)).

وليس المعاهدون الذميون مواطنين أو رعايا من الدرجة الثانية كما يزعم بعض المستشرقين، وإنما هم في الحقوق والواجبات التي تقتضيها المواطنة سواء مع المسلمين.

والحقيقة السابعة: أن مشروعية الجهاد في الإسلام ليست كما قد يتوهم الأعداء قائمة على الحروب الدائمة أو الهجوم الظالم، وإنما هي مقيدة بوجود مقتضيات القتال ومسوغاته (أو مبرراته) من عدوان، ونقض عهد، وإيذاء الدعاة المسلمين أو قتلهم، ونصر المستضعفين، وتكاد تكون حالات مشروعية الجهاد محصورة في حالات الدفاع الوقائي وهي أربع:

1- كفالة حرية العقيدة ومنع الفتنة في الدين.

2- مناصرة المظلوم فرداً كان أو جماعة.

3- الدفاع عن النفس والبلاد.

4- استرداد الأجزاء أو الديار المغتصبة كفلسطين، حيث لايجوز شرعاً أو مصلحة إقرار العدو المغتصب، طال الزمن أو قصر.

وتكاد تكون هذه الحالات داخلة في قوله تعالى: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 2/190]، وقال العلامة ابن تيمية رحمه الله: فإباحة القتال من المسلمين مبنية على إباحة القتال من غيره(1)، وقال ابن القيم: وفرض القتال على المسلمين لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم(2).

وأما الآيات العامة المطلقة الأخرى الواردة في شأن القتال من غير تقييد بوجود مقتضيات الجهاد أو قتال من قاتلنا، فهي محمولة على مضمون الآية السابقة التي تقرر أن القتال لمن قاتلنا، فقوله تعالى مثلاً: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ...} [البقرة: 2/191] واردة في تعقب فلول الأعداء، ومطاردة سراياهم، وملاحقة جيوشهم بعد نشوب المعركة، وآية: {ْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كافَّةً} [التوبة: 9/36] واضح أنها تقرير لحال المعاملة بالمثل.

وهكذا كما يقول علماء أصول الفقه: يحمل المطلق على المقيد، أي إن الآيات المطلقة عن قيد وجود مقاتلة الأعداء لنا، يراد بها ما هو مقرر في آية: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 2/190].

وخير مايعبر عن اتجاه جمهور الفقهاء في تبيان مسوغات الجهاد هو العلامة ابن الصلاح في فتاويه حيث قال: إن الأصل هو إبقاء الكفار وتقريرهم، لأن الله تعالى ما أراد إفناء الخلق، ولا خلقهم ليقتلوا، وإنما أبيح قتلهم لعارض ضرر وجد منهم، لأن ذلك جزاء على كفرهم، فإن دار الدنيا ليست دار جزاء، بل الجزاء في الآخرة، فإن دخلوا في الذمة (الأمان والعهد والضمان) والتزموا أحكامنا، انتفعنا بهم في المعاش في الدنيا وعمارتها، فلم يبق لنا أرب في قتلهم، وحسابهم على الله تعالى، ولأنهم إذا مكنوا من المقام في دار الإسلام، وبما شاهدوا بدائع صنع الله في فطرته وودائع حكمته في خليقته.. وإذا كان الأمر بهذه المثابة لم يحز أن يقال: إن القتل أصلهم(3).

يتضح من هذا المقال المقتضب أن الإسلام حريص على توطيد دعائم السلم والأمن الدوليين، وقد نص ميثاق الأمم المتحدة على مشروعية الحرب الدفاعية فلايختلف الإسلام في الجملة عن مضمون هذا الميثاق، ويكون السلام في الإسلام أصلاً عاماً أو قاعدة عامة مشروعة، وليس الجهاد إلا لرد العدوان، ومقابلة التحديات، والاعتداء على حرمات الديار والدين والقيم العليا.






*عن موقع الشيخ
-------------------------------------------------------------

(1) سيرة ابن هشام 1/134، والبداية والنهاية لابن كثير 2/291.

(2) سيرة ابن هشام 1/503، الأموال لأبي عبيدة ص204.

(1) رسالة القتال لابن تيمية، 144.

(2) زاد المعاد لابن القيم، 2/58.

(3) مخطوط فتاوى ابن الصلاح، ورقة 224.

أضافة تعليق