د. عبدالعزيز المقالح
لا يحتاج تعبير متداول كهذا التعبير، الذي صار عنواناً لموضوع هذه الزاوية إلى تأكيد معاصرته ودلالة حداثته، فقد ظهر في مجال الكلام أولاً ثم في مجال الكتابة ثانياً مع ظهور فن السينما ومهنة الإخراج السينمائي. ومنذُ وقت غير قصير خرج هذا التعبير عن مجال السينما؛ ليكون دلالة على معان أوسع كإخراج المشاريع أو إخراج الحلول لبعض القضايا، ومنها إخراج الكوارث والحروب أو الترتيب والإعداد لظهورها. وما يحدث في الوطن العربي الآن ليس انعكاساً أو تعبيراً عن تفاعلات محلية واستجابة لدواعي التغيير المطلوب، وإنما هو من صنع مخرج عالمي خارجي استغل التراكمات الموروثة والمستحدثة في واقع هذا الوطن، واندفع بلا ضمير ولا إحساس؛ ليُخرج الكارثة الراهنة بالطريقة التي يريد والصورة التي يراها مناسبة لمصلحته.
ومن الواضح أنه مخرج فاشل ودموي وغير إنساني، وأن إخراجه الفاسد سينعكس عليه؛ لكن بعد نجاحه في تدمير مقومات الحياة، والعبث بقيم الأخوة والتعايش في الأقطار العربية، التي دخل إليها مخرجاً سرياً ثم أصبح مخرجاً علنياً.
ويذهب عدد من الباحثين في الشأن العربي إلى القول إن هناك أكثر من مخرج، وأنهم إلى كونهم جميعاً طامعين فهم على درجة من الجهل بمقتضيات الإخراج وفن التعامل مع الشعوب المغلوبة على أمرها سواء تحت سيطرة الأنظمة الباطشة أو تحت سيطرة الفوضى، والدليل على ما يذهب إليه الباحثون المشار إليهم عن تعدد المخرجين وتعدد أساليب الإخراج هذه الأوضاع المرعبة الناتجة عن تضارب وجهات النظر وتضارب المصالح، وهو ما جعل الأقطار المبتلاة بالإخراج الخارجي ساحة تتناثر فيها الأشلاء ويقطر فيها الدم. وإذا كان المخرج أو المخرجون قد اختاروا لهم مساعدين من أبناء هذا الوطن، فهم مساعدون على الورق وفي نشرات الأخبار ليس لهم أي حق أو رأي في تغيير «منظر» أو «تصحيح مشهد» فالمخرج أو المخرجون يحتكرون كل شيء في الكارثة من البداية وحتى الختام هذا الذي لم يحن وقته بعد، فما يزال الاقتتال يجري على قدم وساق وتزداد فعالياته يوماً بعد يوم، ويزيد معها نشاط المخرجين وسلبية المساعدين.
وأعود إلى التأمل في مفهوم عبارة «المخرج عاوز كده» لكي أتبين أنها عبارة سلبية جداً بالنسبة لنا نحن القرّاء أو المشاهدين، فقد أعطت المخرج كل الحق في اتخاذ ما يراه مناسباً لوجهة نظرة بينما سحبت من الآخرين كل حق في الاعتراض على الرأي الواحد ووجهة النظر الواحدة. واللافت للاهتمام والمثير للقلق أيضاً أن هذه العبارة وعمرها لا يقل عن مئة عام هو عمر السينما لم تترك مساحة لمعادل مقابل مثل «مشاهد مش عاوز كده». ورغم أحاديث الديمقراطية التي ملأت الأرض والفضاء فإنها لم تتمكن من التحريض على المخرج الفرد والدعوة إلى محاسبته على فشله في الأسلوب وطريقة الإخراج. وكثيرة هي العبارات المتداولة في حياتنا، التي تزيد من رصيد السلبية واللامبالاة والاستسلام للأمر الواقع. وبما أن المخرج «عاوز كده» فلا بد من أن ننصاع لطلبهِ ونتقبل كل ما يفرضه علينا من مشاهده بما فيها تلك الواقعية الغارقة في الدم والمغطاة بالأشلاء.
إن الرواية الدامية التي يتم إخراجها واقعياً على ساحة الوطن العربي لم تعد قابلة للإطالة، ولا لمزيد من الضحايا. والغريب أن المخرج أو مجموعة المخرجين لم يفهموا بعد أن الأمور وصلت إلى أقصاها، والأغرب من ذلك ألَّا تخرج الملايين الصامتة لتقول لهؤلاء جميعاً كفى تدميراً وقتلاً، وكفى تشريداً ونزوحاً، وكفى هذه الأرض الطيبة ما دفعته حتى الآن من دماء أبنائها وما شربته حتى الآن من دموعهم.