مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
تآكل العرب
إذا ما ألقي المرء نظرة فاحصة علي المشهد العربي‏،‏ فسوف يروعه لأول وهلة ماتقع عليه عيناه‏،‏ إذ يري أمامه أمة تذوي وتتآكل ماديا ومعنويا‏،‏ علي نحو غير مسبوق‏،‏ وتلك كارثة لاريب‏،‏ أما الكارثة الكبري فان ذلك يحدث أمامنا ونحن لاهون أو ساكتون‏!‏

‏(1)‏
استفزني ما قرأته ذات صباح للكاتب الأمريكي توماس فريدمان من أنه بعد احتلال العراق بات لدينا الآن الولاية رقم‏51‏ ذات الـ‏23‏ مليون نسمة‏،‏ وقد تبنينا للتو طفلا يدعي بغداد‏22‏ ـ‏(‏ الشرق الأوسط ـ‏5/5)‏ ولا أعرف ان كان صاحبنا هذا قال ما قاله عن استعلاء أو عن جهل‏،‏ أو عن الاثنين معا‏،‏ فهذه الولاية الجديدة التي ادعي دخولها في العصمة الأمريكية‏،‏ وذلك الطفل الذي تبنته الولايات المتحدة في آخر الزمان‏،‏ يمثلان عناوين عريضة في سجل الحضارة الإنسانية‏،‏ حتي كانت بغداد عاصمة الدنيا قبل عشرة قرون من ميلاد الولايات المتحدة ذاتها‏،‏ التي لم تكن شيئا مذكورا قبل‏250‏ عاما‏.‏
الاسلوب الذي تحدث به المعلق الأمريكي يعكس نظرة وطريقة تفكير تيار المتطرفين النافذ في السياسة والادارة الأمريكية‏،‏ وهو تيار لايقيم للعرب وزنا‏،‏ ويتعامل معهم باستعلاء وازدراء شديدين‏،‏ معتبرا ان مايعنيه في المنطقة أمران‏:‏ النفط وإسرائيل‏،‏ وهو ما عبر عنه صراحة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون في كتابه انتهزوا الفرصة‏.‏

هذا التيار يعتبر إسرائيل حليفا وشريكا‏،‏ بينما تعامله مع العالم العربي تحكمه في أحسن فروضه رؤية فوقية وأبوية‏،‏ تمارس الوصاية والتأديب‏،‏ ولا تقبل منه سوي الركوع والانصياع‏،‏ وهو ماتجلي في إصدار الكونجرس قانوني سلام السودان وحرية العراق وتبني بعض أعضائه مشروعا ثالثا محاسبة سوريا في حين وقع أكثر من‏400‏ عضو مذكرة طالبت الرئيس بوش بعدم الضغط ـ مجرد الضغط ـ علي اسرائيل لكي تقبل خريطة الطريق هو ذاته التيار الذي ألقي بكل ثقله لغزو العراق بحجة امتلاكه أسلحة الدمار الشامل‏(‏ التي فشلت الادارة الأمريكية في إثبات وجودها‏)،‏ في حين غض الطرف عن اسرائيل التي تملك سلاحا غير تقليدي يفوق بقوته الفتاكة أكثر من سبعة أضعاف السلاح الذي لدي العرب‏(‏ يديعوت أحرونوت‏2003/4/15).‏
العالم العربي عندهم بقعة جغرافية‏،‏ أو مكان خارج التاريخ‏،‏ أما المكانة فهي حظ اسرائيل‏،‏ التي يعتبرونها في قلب التاريخ وشريكا في صناعته‏.‏
مفترون وظلمة هم لاريب‏،‏ ومتآمرون ما في ذلك شك‏،‏ لكن العرب ليسوا مظلومين بالمطلق‏،‏ ولا كل الذي أصابنا كان بفعل المؤامرة وإذ لاينكر أنهم بذلوا الكثير لتهوين العرب‏،‏ وإخضاعهم إلا أننا يجب ان نملك شجاعة الاعتراف بأن بعض الوهن من جانبنا كان تفريطا منا‏،‏ وليس كل ما اصابنا كان رغما عنا ومفروضا علينا‏،‏ وإذا كانوا قد أرادوا لنا ان نبقي في حدود الجغرافيا‏،‏ ونخرج من التاريخ فلا ينبغي أن ننسي أننا حررنا بأنفسنا في مجالات عدة شهادة الاستقالة من الاثنين‏!‏

‏(2)‏
الكتاب المهم الذي صدر في القاهرة قبل أشهر قليلة بعنوان التعليم العلمي والتكنولوجي في إسرائيل للدكتورة صفا عبدالعال‏،‏ وهو أحدث شهادة عربية تضمنت عرضا لما حققته اسرائيل في ذلك المجال‏،‏ مع اشارات مقارنة لاوضاع العالم العربي‏،‏ الأمر الذي يجيب ضمنا علي السؤال‏:‏ كيف يسعون لاستيفاء عناصر البقاء في التاريخ‏،‏ وكيف تقاعس العرب حتي هيأوا لانفسهم أسباب البقاء خارج التاريخ‏.‏

من المعلومات التي أوردها الكتاب مايلي‏:‏
‏*‏ قبل أن تقوم دولة اسرائيل علي أرض فلسطين في عام‏1948،‏ أقام الصهاينة مؤسسات وبرامج التعليم والبحث والتطوير التكنولوجي ـ فأسسوا جمعية الثقافة والعلم سنة‏1819‏ م والجامعة العبرية بالقدس‏(‏ عام‏1918)‏ ومعهد التخنيون‏(‏ الهندسة التطبيقية‏)‏ عام‏1924،‏ ومعهد وايزمان للعلوم عام‏1925.‏

‏*‏ تخصص إسرائيل للبحث والتطوير حوالي‏2،3%‏ من دخلها القومي‏،‏ وهي من أعلي النسب في العالم‏،‏ وتبلغ تكلفة الفرد في سن التعليم حوالي‏2500‏ مليون دولار في السنة‏،‏ في حين انها لم تتجاوز في المتوسط‏350‏ دولارا فقط في العالم العربي‏(‏ لاتزيد التكلفة علي‏1300‏ دولار في الدول الخليجية النفطية‏).‏

‏*‏ في عام‏1995‏ نشر العلماء الاسرائيليون عشرة الاف و‏206‏ أبحاث في حين بلغ اجمالي البحوث المنشورة للباحثين والعلماء العرب في العام ذاته‏6665‏ بحثا وبذلك يكون مانشرته اسرائيل حوالي ضعف مانشره العالم العربي بأسره‏،‏ كما ان ما أنجزته الجامعة العبرية وحدها يفوق ما أنجزته الجامعات العربية كلها‏.‏

‏*‏ في عام‏1977‏ سجلت البلدان العربية‏188‏ علامة تجارية لبراءات الاختراع‏(‏ توزع علي أربع دول هي المغرب وسوريا والجزائر والسعودية‏)‏ بينما وصل عدد البراءات المسجلة في إسرائيل‏1266‏ علامة‏.‏

‏*‏ في الحقبة الممتدة من أوائل الثمانينيات حتي أوائل التسعينيات حققت اسرائيل قفزتها التكنولوجية في القطاعات المرئية والعسكرية‏،‏ وتركزت تلك القفزة في ثلاثة مجالات رئيسية هي تكنولوجيا المعلومات والالكترونات الدقيقة‏(‏ منتجات ذلك القطاع مثلت‏30%‏ من جملة الصادرات الصناعية المصدرة من اسرائيل عام‏96‏ وهي نسبة أعلي من الدول الصناعية السبع‏)‏ وتكنولوجيا صناعة الفضاء ـ وتكنولوجيا الصناعات العسكرية‏.‏

‏(3)‏
لعلنا لسنا بحاجة لأن نقف طويلا أمام اجابة السؤال‏:‏ لماذا يذوي العالم العربي ويتآكل‏،‏ وإنما الذي يهمنا في السياق الذي نحن بصدده هو كيف؟

قلت في البداية ان التأكل حاصل علي الصعيدين المادي والمعنوي واذا أردت ان تتحقق مما هو مادي‏،‏ فما عليك إلا ان تبسط الخريطة أمامك وتطوق بعينيك أرجاء الوطن العربي من أقصاه إلي أقصاه‏،‏ وأحسب أنك لن تخطيء في ملاحظة مايلي‏:‏
‏*‏ ان الاحتلال الاسرائيلي جاثم في فلسطين‏،‏ ولايزال يساوم الفلسطينيين ويذلهم لكي يسمح لهم باقامة دولة هزلية علي‏6%‏ من مساحة وطنهم التاريخي‏.‏

‏*‏ ان العراق انتزع من الرقعة العربية‏،‏ وأصبحت تحت الاحتلال الأمريكي البريطاني المباشر‏،‏ ويراد له أن يخاصم محيطه العربي وينفتح علي اسرائيل‏،‏ ويلحق بالمركبة الأمريكية علي النحو الذي رأيت قبل قليل‏،‏ ثم ان محاولات تفتيته جارية علي قدم وساق علي الاقل فيما بين العرب والأكراد وبين السنة والشيعة‏.‏

‏*‏ اسرائيل تتحدث عن حلف بغداد جديد يضم معها الأردن والعراق‏.‏

‏*‏ السودان تلوي ذراعه لكي يدخل بالتدريج في بيت الطاعة الأمريكي عبر دعم واشنطون لرجل الغرب ومجلس الكنائس العالمي جون قرنق‏،‏ الذي يهييء الجنوب للانفصال‏،‏ مطالبا بعملة مستقلة وبنك مركزي خاص‏،‏ وبنصف مقاعد الحكم في الخرطوم‏،‏ وثمة قانون أمريكي يعاقب حكومة الخرطوم إذا لم تستجب لما يريد‏!‏

‏*‏ في الخليج أصوات عالية تدعو إلي الطلاق من العروبة‏،‏ ولهذه الأصوات تأثيرها علي توتير علاقة أغلب دول الخليج مع الجامعة العربية‏،‏ حتي امتنعت بعض تلك الدول عن دفع حصتها في الالتزامات المالية للجامعة‏.‏

‏*‏ ليبيا جمدت عروبتها‏(‏ الليبيون يقولون إنهم أجلوا فقط انسحابهم من الجامعة العربية‏)،‏ والتحقت بالمحيط الأفريقي والعقيد القذافي أعلن في تونس في‏(5/23)‏ سحب رهانه علي القومية العربية وتعلقه بالأمل الافريقي‏،‏ ودعا إخوانه العرب للالتحاق به‏.‏

‏*‏ موريتانيا بعثت برسالة الانسلاخ النسبي حينما أعلنت فجأة وبغير مقدمات ودون أي مبرر عن اقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل‏،.‏ وأصبحت الدولة الوحيدة في المغرب العربي التي ذهبت إلي ذلك المدي‏،‏ واتخذت تلك الخطوة رسميا‏.‏

‏*‏ فضلا عن كل ماسبق‏،‏ فقد انتشرت القواعد الأمريكية في أرجاء العالم العربي علي نحو لم تعرفه في تاريخها‏،.‏ وسط قبول مذهل من جانب بعض النخب العربية‏،‏ وهو أمر حافل بالدلالات‏،‏ التي من بينها كون تلك القواعد من تجليات التآكل المادي‏(‏ باعتبار ان القاعدة تعد أرضا أمريكية‏)‏ ناهيك عما تدل عليه من تآكل سياسي‏.‏

لانستطيع ان نسمي ماسبق انحسارا او انكسارا وانما هو تآكل بالمعني المادي للكلمة‏،‏ بعضه سلخ والبعض الآخر انسلاخ‏،‏ الأمر الذي يضيف إلي الاستقالة من التاريخ التي أشرنا اليها‏،‏ استقالة تدريجية من الجغرافيا‏!‏

‏(4)‏
هذا التآكل المادي استصحب تآكلا اخر بالغ الخطورة علي الصعيد المعنوي‏،‏ كنت قد وصفته في مقال سابق‏(‏ نشر في‏5/6)‏ بانه أم الكوارث وعنيت به تلك الهجمة الشرسة التي استهدفت تقويض كل ثوابت الامة وقيمها‏،‏ والتبشير بالهزيمة والانبطاح امام الولايات المتحدة واسرائيل بدعوي الواقعية والتعامل مع مستجدات العصر ومتغيرات خرائط المنطقة‏.‏
مايدهشني في هذا الجانب من المشهد ليس مجرد العداء لثوابت الامة وقيمها النبيلة‏،‏ فأولئك الاعداء كانوا موجودين علي الدوام‏،‏ ولكن مبعث الدهشة هو تلك الجرأة التي صاروا يتمتعون بها بحيث اصبحوا يجهرون بمواقفهم الداعية لاقتلاع الثوابت وإهدار القيم علي صفحات الصحف ومن خلال قنوات البث التليفزيوني والاذاعي‏،‏ الأمر الذي اضفي علي خطابهم شرعية نسبية‏،‏ وجعل من ارتكاب الفاحشة السياسية أمرا عاديا تألفه الأذن والعين‏.‏

قرأت يوم الثلاثاء الماضي‏(5/27)‏ افتتاحية تصدرت الصفحة الأولي لاحدي الصحف العربية دعا فيها الكاتب إلي ضرورة الدخول في سباق الارتماء في الأحضان الأمريكية‏،‏ بعد زوال ما سماه بـ الحاجز النفسي الذي كان يحول دون الاحتفاظ بعلاقة متميزة مع واشنطون‏،‏ وانتقد الكاتب بلاده لانها استنزفت جهودها خلال العقود الاربعة الماضية في اطار العلاقات العربية قائلا انه آن لها ان تجدد في سياستها‏،‏ وتتجاوز تلك الدائرة لكي تجرب حظها في الالتحاق بالمركبة الأمريكية‏.‏
هذه الفكرة أصبحت محورا لخطاب عالي الصوت في الاعلام العربي‏،‏ يقول بصريح العبارة‏:‏ كفاكم مراهنة علي العرب والعروبة‏،‏ واتركونا نجرب حظنا مع الولايات المتحدة ونلتحق بثقافة العالم الحر وهذا المصطلح الأخير الذي روجت له المخابرات الأمريكية عقب الحرب العالمية الثانية لتضييق الخناق علي الاتحاد السوفيتي ودول الستار الحديدي عاد للظهور مجددا في خطاب الأبواق الأمريكية في الاعلام العربي‏.‏

في النموذج العراقي وجدنا شخصيات عراقية استجلبت من الخارج علي الدبابات الأمريكية‏،‏ لكي تحتل مراكز القيادة في العراق المحرر وأفاضت وسائل الاعلام في تقديم تلك الشخصيات‏،‏ التي عرفنا أن بينها من أعدتهم وربتهم المخابرات المركزية الأمريكية‏،‏ كما عرفنا ان هناك آخرين رعتهم ومولتهم الخارجية الأمريكية‏،‏ وأمثال هؤلاء جيء بهم في أفغانستان بعد تحريرها من حكم طالبان‏،‏ وفي الحالة الفلسطينية قرأنا أن ثمة قيادات احتلت مواقعها لأن الأمريكيين يفضلونها‏،‏ وثمة قيادات أخري في حكومة السلطة الوطنية سلمت حقائب بذاتها بناء علي رغبة إسرائيلية‏،‏ وبمضي الوقت ألفت اسماعنا مثل هذه الأخبار المذهلة وكأنها أشياء عادية‏،‏ لا غضاضة فيها ولا غبار عليها الأمر الذي أضفي علي العملاء شرعية نسبية‏،‏ وجعل الولاء لغير الوطن قيمة ترفع من شأن المرء وترشحه لمواقع الصدارة والقيادة‏.‏
وإذا انقلبت المعايير علي ذلك النحو المشين‏،‏ فان ذلك أنعش دوائر العملاء والمهزومين الذين لم يكفوا عن هجاء العرب والعروبة وازدراء حلم الامة في الوحدة والحط من شأن مناضليها الذين وصفوا بأنهم حربجية وتحقير العمل الاستشهادي ووصفه بأنه انتحاري الأمريكيون اعطوا تعليمات أخيرة باعتباره قتلا ولن نعدم استجابة سريعة من جانب المتعاونين في اعلامنا تصف الشهداء بأنهم قتلة‏!‏ اما الجهاد فقد صار في خطابهم عملا مشينا يتعارض مع قيم ثقافة العالم الحر‏،‏ وأما اسرائيل فلم تعد غاصبة ولامحتلة‏،‏ وإنما غدت قوة اقليمية مهمة يفترض احتضانها ومن الضروري ادماجها في النظام الاقليمي ومن الطبيعي والأمر كذلك ان تصبح مقاومة احتلالها‏(‏ المزعوم؟‏!)‏ عملا غير حضاري‏،‏ يتعين البراءة منه والاقلاع عنه حتي لاتعكر صفو السلام‏،‏ ونصبح مؤهلين للانخراط في ثقافة العالم الجديد‏!‏

‏(5)‏
يكاد المرء يستسلم للاكتئاب والاحباط‏،‏ من جراء الغم الذي ينتابه وهو يري تلك الصور المفجعة للمشهد العربي‏،‏ لكن ما ان تقع عيناه علي أخبار العمليات الاستشهادية الباسلة في الأرض المحتلة‏،‏ والمقاومة الشجاعة في مدن العراق حتي تعود إليه الروح ويشعر ان يدا قوية انتشلته من السقوط في هوة اليأس إذ لايلبث ان ينتبه إلي حقيقة ان هؤلاء الابطال المجهولين‏،‏ الذي يتصدون للاحتلال في فلسطين والعراق‏،‏ هم الوجه الحقيقي للامة المحجوب والمطموس‏،‏ أما أولئك الذين يحتلون المنابر والواجهات مبشرين بالهزيمة وداعين إلي الانبطاح فهم ليسوا سوي قشرة فاسدة طفت علي السطح في ظروف بائسة‏،‏ ولانه لايصح إلا الصحيح‏.‏
ان المستقبل يصنعه الشهداء وأضرابهم من أهل الصمود والمقاومة‏،‏ وليس العملاء والمهزومون‏،‏ ومادام الأولون لايزالون يثبتون حضورهم بيننا حينا بعد حين‏،‏ فان ثقتنا في المستقبل ستظل بلا حدود ـ وهي ثقة نابعة من ايماننا بأن الله ينصر من ينصره وأن الله أكبر من كل كبير‏.‏
أضافة تعليق