الحكم باسم الدين مطية سياسية أم خلافة شرعية؟
بقلم: عبد الجبار عماري.
عرفت جزيرة العرب دين التوحيد في زمن سيدنا إبراهيم عليه السلام، واستمر ذلك بعده إلى زمن بعيد حتى حرف هذا الدين وأصبح العرب عبدة أوثان، لكن بقيت فيهم منظومة أخلاقية كريمة، وهذا ما أكده حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما بعثت على تمام محاسن الأخلاق) [أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 4711ـ].
يفضي هذا الحديث على أن العرب قبل الإسلام كانوا على مستوى رفيع من الأخلاق، لكن جهلهم بالدين السمح جعلهم يضيعون بين شتات كلمتهم وعصبيتهم القبلية وتناحرهم حول مسائل الدنيا كالرياسة والجاه والشرف، حتى بعث الله عز وجل فيهم نبيا يعرفون نسبهم وصدقه وأمانته، فدعاهم إلى دين التوحيد الإسلام جمعهم فيه على صعيد واحد، وصاروا به خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كما سادوا بهذا الدين بلادهم وبلاد الروم والفرس؛ بعدما كانوا تحت رحمتهم.
إلا أن هذا الحال الجديد لم يدم طويلا حتى عادوا سيرتهم الأولى، لكن هذه المرة بزي مختلف، فحب الشرف وطلب السلطة والجاه وجمع المال لم يغادر أهواءهم، كبرت المطامع فكبرت معها وسائل الطلب، فبعد أن كانت بالعصبية القبلية سارت باسم الدين، فهنا لا نعمم في الذكر كل العرب المسلمين إنما نخص منهم من طلب السلطة وبلغها بتكفير خصومه من خلال إحداث دعوة دينية جديدة تناهض معتقدهم وتؤسس لفكر سياسي جديد، وخير دليل على هذا ما أحدثه محمد بن تومرت المصمودي مهدي الموحدين ( ت 524هـ) ضد خصومه المرابطين، فقد أحدث ضدهم ثورة في بلاد المغرب الإسلامي في المنتصف الأول من القرن السادس للهجرة، فأورد في حقهم أي المرابطين نصوصا تكفيرية موحشة نعتهم فيها بالكفر وفساد العقيدة، ومما جاء في إحدى رسائله التي وجهها لهذا الغرض، "واعلموا وفًقكم – يعني أتباعه – أن المجسمين والمكابرين وكل من نسب إلى العلم، أشد في الصد عن سبيل الله من إبليس اللعين فلا تلتفوا إلى ما يقولون فإنه كذب وبهتان وافتراء على الله ورسوله"، بالإضافة إلى هذه الصفات التي قال بها ابن تومرت ضد دولة المرابطين، فإن القارئ لكتاب أعز ما يطلب يدرك أن ابن تومرت قد شحنه بالطعن فيهم، بل إنه قد أفرد فصولاً خاصة منه لهذا الغرض.
هذا نموذج حي في العصور الوسطى وقد سبق ذلك تجارب عدة في التكفير والإدعاء بالمهدي المنتظر مثل ثورة الفاطميين الشيعية الرافضية بالمغرب الإسلامي في أواخر القرن الثالثة للهجرة، كل ذلك من أجل تحقيق مطية سياسية هدفها مسح وجود من قبلهم والاستيلاء على عرش الزعامة بالقطر الإسلامي، ظلت الدعوات المذهبية لعهود طويلة تنظر لتأسيس دول جديدة وتتعهد بنصرة المسلمين وإخراجهم من دائرة الغبن والضعف، فمنها من كانت صادقة ومنها من جاءت تحمل أطماع سيادية لا غير، وكل هذا دائما باسم الدين؛ فأصبح الدين وسيلة لبلوغ الغايات الدنيوية الدنيئة بعدما كان منهج حياة وطريق نجاة وتشريعا قويما لحياة الأمم والشعوب.
بعد تعدد التجارب وفشلها ظهرت العلمانية الحديثة التي تدعوا إلى التجرد من الدين في دواليب السياسة وتسيير مؤسسات الدولة، لكن ظهرت بعد ذلك أحزاب تحمل مشروع الإسلام السياسي لا بمفهوم العصور الوسطى بل قصد التجديد والاعتماد على الإسلام كمنظومة سياسية حاكمة ضمن نطاق ديمقراطي، لكن الأمر في هذه الحالة معتدل ومشروع، ولو أنه شيطنته أطراف معادية لحكم الإسلام، حيث ترى في الإسلام السياسي رجعية وتخلف وتراجع، وذلك ناتج عن سوء فهم لهذا المشروع.
مع تقدم السنين وطي المراحل ظهرت حركات جهادية باسم الإسلام؛ كحركة طالبان في أفغانستان، وما عاشته الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، ولكن ما نعيشه الساعة تحت مسمى دولة الإسلام في الشام والعراق ( داعش)، هو الطامة الكبرى وهو الجهل الحقيقي لمعنى الدين وهو المفهوم التام لجاهلية التدين، حيث أصبح القتل والتعذيب والذبح جهادا باسم الإسلام أبشع جماعة إرهابية عرفها التاريخ، قمة الوحشية في حق الإنسانية، أي صورة للإسلام يتم تسويقها، الإسلام براء من تدينهم المخادع...
زالت من التاريخ مملكات عربية كمملكة كندى ومملكة المنادره حليفة الفرس، ومملكة الغساسنة حليفة الروم، ثم زالت بعد ذلك إمبراطورية الفرس وبعدها إمبراطورية الروم..ولكن بقيت جاهلية العرب إلى اليوم، جاهلية تسببت في تتابع النكبات ثارة باسم الدين، وثارة أخرى بفعل السياسة.