ثقافة التسامح والسمو على الضغائن
عبدالعزيز المقالح
من الواضح جداً أن المنطقة العربية، بل والإسلامية تعيشان حالة فراغ ثقافي منقطع النظير وهذا الفراغ هو الذي فتح الأبواب لصراعات ما كان لها أن تتم أو تحدث في حضور ثقافة جامعة بمعناها الروحي والوطني والإنساني.
لقد غابت الثقافة أو أنها غُيّبت لكي يتعرّى الواقع وليظهر بهذه الصورة المقزّزة حيث تحللت كل وشائج القربى ومشاعر الأخوة ليس داخل الإطار الكبير عربياً وإسلامياً وإنما داخل الأقطار التي كانت جزاءاً من أمة ذات حضارة رائدة وثقافة تحترم الإنسان، وتحترم في الوقت ذاته قيم الحق والخير والجمال.
ولا عجب بعد ذلك ان لا ينمو في واقع مفرغ من ثقافته الرصينة سوى كل ما هو قبيح وبشع ومتوحش، وفي مناخ كهذا لا عجب أيضاً أن يتحول الأخوة إلى أعداء والوطن إلى غنيمة يتقاسمها المتنازعون وقد يفوز بها كاملة الأكثر إيغالاً في التوحش واستخدام القوة.
وربما يكون قد سبق تغييب الثقافة بمعناها الوطني الإنساني تضييق مفهومها وحصره في الأدب شعراً ونثراً، رواية ومسرحاً، في حين أن مفهوم الثقافة أشمل وأوسع ولا يقبل التضييق وفيه مساحة واسعة للسلوك والارتقاء بمواقف الإنسان وتصرفاته، وتربيته على احترام الحياة، حياته هو وحياة الآخرين ممن يشاركونه العيش على هذه الارض في مكان قريب أو بعيد.
ومن يتأمل أمراض الواقع وما تفرزه من ردود أفعال عنيفة، يشعر بأهمية ثقافة التسامح والسمو على الأحقاد والضغائن، ثقافة المصالحة مع النفس أولاً، فالنفس العربية تعاني من انفصام ذاتي فاجع ومن تخلف مريع في النظرة إلى الواقع المحلي والإنساني وقد ترافق ذلك كله مع ضعف واضح في الالتزام بالمبادئ الدينية، والقيم الوطنية، وما يترتب على غياب ذلك الالتزام من غياب الوازع الداخلي من تبلد في الإحساس الوطني ومن الاستهانة بكل شيء نبيل ومفيد.
لقد نجحت الأنظمة العربية التي تعاقبت على الحكم في اقصاء الثقافة عن مدارها الصحيح، وفي إفراغها من دورها الفاعل في حياة الناس، كما نجحت في شحنها بكل ما ليس وطنياً ولا إنسانياً، ثقافة لا تقاوم الظلم ولا تدين العنف ولا تدعو إلى المحبة والمواطنة والتضحية في سبيل الوطن لا في سبيل الاشخاص مهما كان دورهم رائعاً ومميزاً.
ولم يكن هذا الواقع المتخلف والمزري ليظهر فجأة على سطح الواقع، لو لم تسبقه ارهاصات وتراكمات سياسية، وثقافية عدوانية قاتلة تحّرض المجتمع على المجتمع وتحّرض الإنسان على أخيه الإنسان، ولا يمكن في يوم وليلة في عام أو عامين أن تنمو مثل هذه الثقافة المنحرفة وتأخذ مكانتها في واقع الناس على هذا النحو المدمر غير المسبوق.
والسؤال الذي لا نسأله لأنفسنا، وهو من الخطورة بمكان، هو: ماذا ينتظرنا وينتظر أقطارنا المتنازعة من الجيل الجديد، الجيل الذي يتكون على أصوات المدافع وأنين الطائرات؟ أي مهمة تنتظر هذا الجيل وأي دور يمكن أن يقوم به وهو نتاج طبيعي للأحداث الراهنة وثقافتها المنحرفة؟ إن الصورة لتبدو قاتمة تجترّ ما هو قاتم وتعكس مخلفاته وأثاره.
والإجابة على سؤال كبير وخطير كهذا متروك للأيام، وللزمن الذي لا تتوقف حركته مهما كان الواقع بائساً وجامداً.