لكن السنوات القليلة الماضية شهدت صورا جديدة من صور الحسم الباتر كانت غائبة تماما في ما مضى، وقد تصاعدت الأهمية النسبية لبعض هذه "الأسلحة" على جانبي كل صراع، فلم تقف هذه الأسلحة مع الحق على طول الخط ولا هي وقفت ضده على طول الخط أيضا.
لكن السمة المشتركة في أدائها أنها رفعت من قيمة الفهم المستقصي أو المتعمق الذي كانت الصراعات والحروب تغيبه تماما أو على الأقل بنسبة كبيرة، وهنا تبدو الحروب بالرغم من عصبيتها أقل جهلا كما تبدو أكثر ارتباطا بالربح من ارتباطها بالمبدأ، وإن لم تخل أي حرب من العصبية والمبادئ: حسنة كانت أم سيئة.
وسنتناول بعض هذه الأسلحة بقدر من التحليل، وسنصوغ أفكارنا فيها من خلال سؤالين مبلورين لنشأة الإشكالية وتطورها الراهن.
"أصبحت الرؤية الخبيثة الحاكمة للموقف الأميركي من الصراع في سوريا واضحة وضوح الشمس، حتى إن الجماهير غير المسيسة أصبحت تقيس الآن التوقعات في النزاعات المتوقعة على ما شهدت تفصيلاته في ما حدث في سوريا وعلى أرضها"
السؤال الأول: هل يفيدنا كمحاربين الوضع الجديد الذي سينشأ عن المعارك؟
من الإنصاف أن نقول أولا؛ إن بدايات هذا التفكير بزغت في القرارات والتوجهات والتحركات العسكرية للولايات المتحدة الأميركية في نهاية الحرب العالمية الثانية، وساعد على هذه القرارات أن أميركا دخلت الحرب متأخرة فلم تنهك قواتها ومواردها.
وهكذا بدأت تفكر تفكير رجل الأعمال الانتهازي، فشنت حربها النووية على اليابان تعويقا وإذلالا لحضارة بازغة، كما طبعت قيود سياساتها الهجومية على العاصمة الألمانية برلين بما يحقق لها فائدة لن تتحقق في الأجزاء التي ستؤول بحكم الجغرافيا إلى سيطرة الاتحاد السوفياتي، وقل مثل هذا بدرجة ما في الحروب الكورية والفيتنامية واللاتينية ثم حروب الخليج.
لكن إدمان حب اللعبة قاد السياسة الأميركية (بدبلوماسيتها وإستراتيجتها على حد سواء) إلى تبني موقف في غاية المفارقة في الثورة السورية كان عماده الخوف الأساطيري (ولا نقول الخوف الأسطوري عن قصد، لأنه ليس خوفا لم يحدث في حجمه الكبير، وإنما هو خوف أساطيري المنبع، وإن غذته بعض المعطيات أو التوقعات القائمة).
وهكذا قادت قوى الشر توجهات سياسة أميركا في سوريا بهذا الخوف العميق والمبرر من انتصار الفكرة الإسلامية الوضيئة في بلد متحضر كسوريا، وبلغ الأمر في هذا الصدد حدا مضطربا من الأفعال، وردود الأفعال التي دهورت الأوضاع على الأرض بما كاد أن يبيد الأطفال السوريين والشعب السوري بدرجة لم يحدث لها نظير من قبل.
كذلك بلغ الأمر حدا مفارقا تمثل فيما قادته الولايات المتحدة بطريقة غير مباشرة من دفع بشار الأسد دفعا إلى التمادي للنهاية في تدمير شعبه وقواته على حد سواء، في الوقت الذي أصبح فيه بشار نفسه يحصل فيه على احترام أو مهابة لم ينلها هو ولا أبوه على مدى الخمسين عاما.
أصبحت الرؤية الخبيثة الحاكمة للموقف الأميركي من الصراع واضحة وضوح الشمس، حتى إن الجماهير غير المسيسة أصبحت تقيس الآن التوقعات في النزاعات المتوقعة على ما شهدت تفصيلاته في ما حدث في سوريا وعلى أرضها.
مع هذا وعلى غير توقع، فقد كان من المفارقات التي لم يحسب الأميركيون حسابها أن مفاوضيهم (من كل الأطراف المتحاربة أو المتنازعة على حد سواء) قد أصبحوا يواجهونهم صراحة بما هم مدركون له من أهداف الأميركيين من التفاوض أو اللقاء.
"ساعد الانكشاف التام للسياسات الأميركية الحالية كل من لعب دور الطرف غير الأميركي في حالات كثيرة، كان أبرزها ما حدث في المفاوضات الأميركية الإيرانية التي لعب فيها الإيرانيون على أهداف أميركا الحقيقية أو المضمرة، من قبيل استنزاف أموال الخليج والتلاعب العنيف والدوري بأسعار البترول"
وقد ساعد الانكشاف التام للسياسات الأميركية الحالية كل من لعب دور الطرف غير الأميركي في حالات كثيرة، كان أبرزها بالطبع ما حدث في المفاوضات الأميركية الإيرانية التي لعب فيها الإيرانيون على أهداف أميركا الحقيقية أو المضمرة في استنزاف كل ما هو ممكن من أموال الخليج في شراء أسلحة، وفي التلاعب العنيف والدوري بأسعار البترول تنكيدا على روسيا مرة وتحكما في إيران نفسها مرة ثانية، وفي المرة الثالثة تحجيما للخليج الذي بدأ يوظف احتياطاته ليكون مع أميركا رأسا برأس في بعض القرارات الإقليمية.
ولم يقف الأمر عند مفاوضي أميركا الذين أفادوا من اكتشاف سياستها عند حدود دولة كاملة كإيران، وإنما تعداه بمنطق الانتهازية إلى صعيد ثان يتمثل في أنظمة انقلابية تدين بوجودها الفعلي وغطائها الدولي وتمويلها الخليجي للولايات المتحدة، لكنها بدأت تبتز أميركا بإخلاصها (ولا تزعم نجاحها) في تحقيق الأهداف الأميركية، وبأن بديلها الطبيعي -على الرغم من معقوليته- سيكون مؤذيا معنويا للحكومة الأميركية على المديين القصير والطويل.
وبحكم طبائع الأشياء انتقلت كرة المفارقة أيضا إلى صعيد ثالث يتمثل في محاولات انقلابية غير ناضجة (أبرزها تجربة حفتر) يقودها متجنسون أميركيون بما يزيد من دلائل وإيحاءات واحتمالات استمرارية التورط الأميركي الرسمي.
بل إن البؤر الانقلابية الصغيرة التي تعودت أميركا على التعاون السري المحسوب معها، بدأت -على صعيد رابع- تتململ وتطلب لنفسها بصوت مسموع حقوق الزوجة العلنية.
قادت كل هذه التداعيات السياسة الدولية إلى أفق جديد من حروب الشوارع في السياسة، وهو نوع شبيه تماما بحروب الشوارع المعروفة في التاريخ العسكري.
السؤال الثاني: هل تأهلت حروب الشوارع السياسية لدورها المحوري في التاريخ العسكري:
تتمثل حروب الشوارع السياسية في ما ازدهر على نحو غير مسبوق من صناعة الفكر السياسي الراهن وتطويره من خلال الحوارات الآنية الحية والمتفاعلة عبر وسائل الاتصال الاجتماعي، وهو إنجاز لم يسبق له مثيل في سرعته وفعاليته فضلا عن أنه لم يتم استيعابه حتى الآن بدرجة كافية من أرباب القرار في السياسة الدولية.
ومن المسلمات التي لا خلاف عليها في العلوم الإستراتيجية أن قوة السلاح تتضاعف بقدر ما يجهله العدو المواجه له، والعكس صحيح أيضا، فإن السلاح الجديد مهما كانت قوته يبدأ في فقد مضائه وقوته التدميرية متى بدأ العدو المجابه له في استيعابه ومن ثم في إنتاج ترياقاته ومضاداته.
بيد أن الفكر السياسي المتولد من وسائل الاتصال الاجتماعية لا يزال يحظى بقدرة عالية على الصدقية بدرجة لم تحدث في أية مرحلة من مراحل الفكر الإنساني لا السياسي فحسب، وذلك بفضل قدرات لا محدودة من التفوق الدائب في عناصر الاستدعاء، والتذكر، والمقارنة، والتمحيص، والفحص، والدعم الإحصائي والطبوغرافي، والجغرافي، وبفضل ما هو متاح من القدرة على الإفادة من تآزر توظيفات وتطبيقات نظم المعلومات الجغرافية والترجمة والوسائط المتعددة وتقنيات الاتصالات والتصوير والبث الفائقة السرعة والجودة والتأمين.
"تتمثل حروب الشوارع السياسية في ما ازدهر على نحو غير مسبوق من صناعة الفكر السياسي الراهن وتطويره من خلال الحوارات الآنية الحية والمتفاعلة عبر وسائل الاتصال الاجتماعي، وهو إنجاز لم يسبق له مثيل في سرعته وفعاليته"
وبفضل هذا كله أصبح من رابع المستحيلات أن تصمد الأكاذيب الرسمية أيا كانت حبكتها لأكثر من ساعات معدودة ريثما يتم أخذ خيطها وتمحيص صناعة الكذب فيها والوصول إلى الحقيقة التي كشفتها -بدون قصد- كل الصناعات أو الصياغات التقليدية لما هو معتاد من الأكاذيب الرسمية.
ويكفي في هذا الصدد أن أنقل عن أحد كبار الانقلابيين في مصر ما صرح به من اندهاش وانبهار بقدرة "شباب النت" -على حد تعبيره- للوصول إلى تاريخ التحويرات الإنشائية واللافتاتية (نسبة إلى اللافتات الاصطناعية التي أنجزت للتضليل) التي تمت على مكان احتجاز الرئيس مرسي من أجل إلحاقه بمصلحة السجون بعملية تزوير احترافية ممن يملكون الدفاتر، فإذا بشباب النت يحبطون هذا كله على حد تعبير الانقلابي والقانوني الكبير جدا بما يعجز عنه كل خبراء وزارات العدل منذ نشأتها لو اجتمعوا في صعيد واحد من أجله.
هكذا انتقلت مؤثرات الرأي العام في صناعة القرار مما سمي بمراكز بحوث الرأي العام إلى آفاق أكثر علانية وعقلانية وحساسية ومصداقية، وأصبحت الأفكار الإستراتيجية تمضي في طريقها لأن تكون كأسعار تبادل العملات تخضع لآليات دينامية بصورة لحظية وعلنية ومعلنة ومراقبة ومبثوثة في الوقت نفسه.
ومن الطريف أن الرئيس باراك أوباما نفسه لم يستوعب بعد هذه الحقيقة بصورة معقولة، وهو الذي كان فخورا (قبل ثماني سنوات) بقدرته على التفاعل الحي مع الشباب الأميركي عبر الفيسوك، فإذا به اليوم متأخر بخطوات واسعة وربما شاسعة عما وصل إليه الشباب المرتبط بداعش (تنظيم الدولة الإسلامية) على سبيل المثال.
وهو الأمر الذي يمكن أن يلخصه مساعدو المرشحين للرياسة الأميركية في جملة واحدة يضعونها أمام ناظري المرشح لتنبهه إلى أن داعش -على سبيل المثال- أصبحت فكرة متقدمة حتى إن ظن أو تيقن من حقيقة أن أفكارها ليست بالقدر ذاته من التقدم.