ديمة طارق طهبوب
خبطت كل كياني صورة أم الشهيد عامر أبو عيشة و هي تتقدم جموع المشيعين و تحمل جثمان ابنها إلى قبره بين قمة الإعجاب و الانبهار و قمة الحزن و المأساة .
يوم حملت أم عامر أبو عيشة ابنها لأول مرة بعد ولادته لم تكن تحلم أو تتمنى أن يأتي اليوم الذي تحمل جثمانه.
ليس باستطاعة أم أن تتمنى هذا المشهد...فلقد وصفها الحديث النبوي كما وصف كل أم "حملتك و هي ترجو حياتك" و لكن ما يحصل من مشاهد صبر تخر لها الجبال هو حصيلة لشيء يسير أو بالأحرى أمر عظيم هو الإيمان الذي لولاه لفاضت العيون بحرا من دموع لا تجف، و تقطعت النفس على إثرهم، و لحقت بهم، و عاشت الموت في الحياة!
عجيب هذا الإيمان الذي يقذفه الله في قلوب عباده الذين اصطفاهم ليضربوا المثل؛ و لذا لا يمكن أن يُفهم المشهد بدونه، فهذا الصبر و هذا التحمل و هذا التجلد لا يمكن أن يكون قوة بشرية صرفة، إنه تأييد الله و وعده لكل أم آمنت و وثقت بقضاء ربها من يوم أم موسى بالربط على قلبها لتكون من المؤمنين و أن يرزقها قرة العين.
فهل كان الدرس اليوم في الشهيد عامر على فضله أم في أمه؟ من استخدم الله لضرب المثل للذين آمنوا عامرا أم أمه؟ عامر روح طاهرة انضمت إلى كوكبة الشهداء؛ و لكن كم في النساء بل كم في البشر بل كم في الأمهات بل كم في الآباء يطيق مثلما طاقت أم عامر؟
من يجرؤ اليوم يا أم عامر و قد تقدمت ببنات حواء خطوات نحو العلياء أن يشكك في دور النساء في الجهاد، و صناعة النصر في مقدمة الصفوف الأمامية؟ من يجرؤ أن يشكك أن النساء قلب هذه الأمة؛ إذا نبض للأمة ضخ الدماء في عروق الرجال فيصبح الموت في سبيل الله بحق أسمى أمانيهم؟
ليس كل نساء الأمة يطقن ما أطقت يا أم عامر غير أنك بهذا المشهد، و بهذه الوقفة ستبقين منارة في وعي الأمة، النساء تحديدا، تؤرق القلوب و الهمم الحية نحو مزيد من العمل و التضحية و تلطم كل مذل لنفسه و أمته و مقل بجهده و مقصر عن بلوغ غايته.
لقد صنع الله موقفك و مشيتك على عينه لتكوني لمن معك و من خلفك آية؛ بأننا لا نبكي الشهداء في بيوتنا حسرة و لوعة نخفيها عن الناس بل نرفعهم على أكتافنا أقمارا لنضيء بهم دروب العزة و الكرامة.
شكرا لكل النساء اللواتي ساهمن في تمكيننا لأن نرفع عقيرتنا بفخر و نقول: هذه هي المرأة المسلمة، هذه حريتها، هذا عطاؤها، هذا دورها و لا يمكن لأحد أن يحدها.
شكرا لكل النساء اللواتي يثبتن أن روح خديجة لم تمت فينا، و أن شجاعة أم عمارة قابلة للتكرار، و أن الخنساء قوية الجينات؛ ما انفكت تتوالد في نسائنا.
لسنا بحاجة أن نعرف كثيرا كيف بلغ عامر منزلة الشهداء يكفي فقط أن ننظر إلى فعل أمه لنقرأ القصة من أولها إلى آخرها.
سلام عليك يا حاملة الجثمان، سلام عليك يا زفة الشهيد، سلام عليك يا حادية الركب، سلام عليك يا رافعة الراية، سلام على قلبك الحزين، سلام على دمعك الحبيس و فؤادك الكسير، و إنا و إياك لفي انتظار جبر الله نصرا مؤزرا يشفي صدور قوم مؤمنين.
ابنتك