مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/09/11 17:44
بين الركود التاريخي والتجديد الحضاري

بين الركود التاريخي والتجديد الحضاري

الثلاثاء, 09 سبتمبر 2014 21:55

السيد يسين

 كثرت في الآونة الأخيرة الدعوات التي انطلقت من اتجاهات متعددة لأهمية تجديد الخطاب الديني. وإذا كنا قد عرضنا في مقالنا الماضي «تشريح التخلف الثقافي» للمقال المهم الذي نشره الإعلامي المعروف الأستاذ «إبراهيم عيسى» في يوميات جريدة الأخبار بتاريخ «8 أغسطس 2014»
الذي قام فيه بالتشريح الدقيق لظاهرة الجمود الديني ومقاومة المشايخ التقليديين لتجديد الخطاب الديني نتيجة عوامل متشابكة، فإنني أريد اليوم أن أعرض لمقالة أخرى مستنيرة للكاتب الصحفي المعروف الأستاذ «أحمد الجمال»، حلل فيها عقبات تجديد الخطاب الديني، مطبقاً فيها بمقدرة فذة المنهج التاريخي لعرض الصراع الذي دار في مصر المحروسة الذي بدأ قبل عهد «محمد علي» بين مشروعيه، الأول مشروع الركود الفكري، والثاني مشروع التجدد الحضاري (راجع مقال الجمال في الأهرام بتاريخ 9 أغسطس 2014 بعنوان تجديد الخطاب الديني).
 
ونتيجة لقراءة «الجمال» الدقيقة للتاريخ الفكري المصري الحديث، أشار إشارة صائبة إلى أن رائد التجديد الحضاري كان هو الشيخ «حسن العطار» أستاذ «رفاعة رافع الطهطاوي» الذي أصبح بعد عودته من البعثة التي أرسلها محمد علي إلى باريس رائد الفكر العربي الحديث. والواقع أن «الطهطاوي» هذا الصعيدي العصامي يمثل بتاريخ حياته الحافل أسطورة فكرية مصرية!
فهذا الأزهري الذكي الذي عينه محمد علي إماماً للبعثة التي أرسلها إلى فرنسا ليكتسب أعضاؤها أصول الصنائع الغربية ومبادئ العلم الحديث في مجال الفنون العسكرية والصناعة والتكنولوجيا، سرعان ما ظهر أنه كان أنبغ أعضاء البعثة. وقد استطاع نتيجة قراءاته الموسوعية في الفكر الغربي ومشاهداته الثقافية لأساليب الحياة في المجتمع الفرنسي، أن يقدم للقارئ في عصره في كتابه الشهير «تخليص الإبريز في وصف باريس»، الذي تضمن مذكراته عن حياته في باريس، والنموذج الفكري الفرنسي الذي كان يقوم في الواقع على مبدأ أساسي من مبادئ الحداثة الغربية، وهو أن «العقل هو محك الحكم على الأشياء وليس النص الديني». وذلك لأن أوروبا تحت تأثير تطورات حضارية شتى، فصلت بين الدين والدولة بتأثير العلمانية، وحكمت العقل في إدارة شؤون الدولة والمجتمع، واعتمدت أساساً في التنمية على العلم والتكنولوجيا.
ولكن «الطهطاوي» لكونه مدركاً إدراكاً عميقاً أنه يكتب لقراء في بيئة محافظة ومتخلفة ويهيمن عليها النص الديني التقليدي، حاول بذكاء نادر أن يقرب المبادئ المعرفية الغربية إلى أذهان المصريين الذين سيطرت عليهم مبادئ العقل التقليدي الديني، وذلك بإيراد نصوص من القرآن الكريم والسُنة النبوية، تؤكد المبادئ المعرفية الغربية. وكأنه كان يريد أن يقول – كما قال الشيخ «محمد عبده» من بعد في كتابه المعروف «الإسلام والعلم»- إنه ليس هناك تناقض حتمي بين المبادئ المعرفية العقلية والنصوص القرآنية.
ويفرق «الجمال» تفرقة واضحة بين مشروعي الركود التاريخي والتجدد الحضاري اللذين مازال الصراع بينهما محتدماً حتى اللحظة الراهنة، بالإضافة إلى أن مشروع التخلف والركود الذي يتمثل في الحفظ والتلقين والتسميع والاكتفاء بما هو متوافر من نتائج السلف ومعاداة إنجازات العصر، بما في ذلك أدوات البحث العلمي وتطبيقاته، يقف ضد مشروع «التقدم والتجديد» بإعمال العقل وبذل الجهد وإفراغ الوسع ليس فقط فيما يتصل بالدين والفقه وأصولهما، وإنما في كل ما يتصل بالحياة.
وهنا لابد أن يُثار سؤال من أين استمد الشيخ «حسن العطار» اتجاهاته التجديدية التي كانت تعتبر ثورية في عصره؟
يجيب «الجمال» على هذا السؤال بذكر حقائق تاريخية ثابتة، أهمها أن الشيخ «العطار» لم يقنع بدراسة العلوم المعروفة في عصره، ولكنه درس الهندسة والرياضة وتعمق في دراسة الفلك ودرس الطب.
والشيخ «العطار» الذي أصبح شيخاً للأزهر هو الذي قاد حملة تجديدية كبرى في مجال التدريس في الأزهر، وسانده في ذلك «الزبيدي» صاحب كتاب «تاج العروس»، ويقرر الباحث الأمريكي المعروف «بيتر جران» في كتابه الشهير «الجذور الإسلامية للرأسمالية» أن الشيخ العطار والزبيدي «هما اللذان قاما بالتجديد الفكري في الأزهر».
ومن المعروف أن «بيتر جران» له نظرية مضادة لنظريات المستشرقين، وبعض الكُتاب العرب الذين تأثروا بكتاباتهم، والتي تذهب إلى أن الحملة الفرنسية هي - بما حملته معها من أفكار غربية وممارسات سياسية ومعامل علمية- التي بدأت التجديد في سياق المجتمع المملوكي المتخلف الذي كان راسفاً في الجمود والنقل عن السلف، وعدم متابعة التطورات الفكرية والعلمية الكبرى في العالم.
على العكس من ذلك يرى «جران» أنه نشأت في مصر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر رأسمالية تجارية نشطة، صاحبتها نهضة فكرية تجديدية، ويستدل على ذلك بتحليل مخطوطات متعددة لم يدرسها أحد من قبل.
وعلى ذلك يمكن القول إن مشروع التجدد الحضاري بدأ مبكراً في الواقع، ويستمد أصوله من مشروع الشيخ «حسن العطار»، غير أنه تعثر تعثراً شديداً عبر الزمن نتيجة ظروف تاريخية وسياسية وفكرية واجتماعية معقدة، بحيث ضاعت معالمه الأساسية وغرقنا في ضباب مشروع الركود التاريخي الذي أسهمت في صنعه نظم الحكم السلطوية والمشايخ التقليديين الذين أغلقوا باب الاجتهاد، وقنعوا باجترار المرويات الخرافية والتفسيرات الرجعية للنصوص الدينية، ما جعل الدين مفارقاً لروح العصر. ويصل الأستاذ «الجمال» في تشخيصه الدقيق إلى لب المشكلة ومبناها، أن آفة التخلف والركود بالحفظ والتلقين والتسميع منتشرة وبائياً في مختلف جنبات حياتنا.
وهكذا فلا فرق بين عقم التعليم الأزهري وتدهور التعليم المدني في المدارس والجامعات، فالعملية التعليمية تعادي روح الابتكار وتحرص على تشكيل «عقول اتباعية» وليست عقولاً نقدية تقوم على البحث والمساءلة، وتطبيق منهج الشك بصورة إبداعية للوصول إلى الحقيقة.
غير أنه ينتقل في المناقشة نقلة كيفية، حين يقرر في ملاحظة نافذة أن «الحفظ والتلقين والتسميع سمة غالبة في مجال السياسة تنتشر في الأحزاب والحركات المدنية أيضاً». وهو بهذا يشير مباشرة إلى سر تدهور النخب السياسية المصرية الراهنة التي عجزت عن التجدد المعرفي، وهو يقرر ساخراً «هناك من يحفظ ويستظهر متون الليبرالية كما جاءت في كتبها التقليدية، وهناك من يفعل الشيء نفسه مع المتون الماركسية والمتون القومية».
ومعنى ذلك، أننا في الواقع لسنا في حاجة فقط إلى تجديد الخطاب الديني، ولكن لا بد أن نسعى لتجديد الخطاب الفكري المصري بوجه عام، حتى نستطيع أن نقرأ نقدياً تحولات العالم المعاصر في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، وأهم من ذلك الفهم العميق لمنطق هذه التغيرات. هذا هو الطريق الذي لا طريق غيره لبدء النهضة المصرية الجديدة.
*التجديد
أضافة تعليق