د.نبيل الفولي
مع أن نفي وقوع ما وقع بالفعل أمرٌ معتاد في عالم السياسة، فإن الاتكاء على الشائعات المختلقة كثير فيه أيضا، ومقصود هذا وذاك هو الضغط على مشهد سياسي ما من نقطة حساسة فيه لتوجيهه والتحكم في مساراته.
ويبدو أن عالم السياسة قد أخذ في هذا بنصيحة ميكافيلي حتى قبل أن يقول بنظريته التي تفصل الأخلاق عن السياسة، فالميكافيلية موقف قبل أن تكون شخصا!
وتبدو القضايا السياسية المعقدة -أكثر من غيرها- مسرحا واسعا لهذه الألوان من السلوك، حتى إن الخطوط تتداخل وتتزاحم في نقاط معينة، ويتتابع النفي والإثبات على الحدث الواحد بدرجة محيِّرة، ويبقى تمييز الحقيقة من الزيف في هذا الظرف خاضعا لفهم طبيعة الحدث، ومدى تكرار ادعاء وقوعه في مسارات معينة لقضية ما، وقد تفاجئنا الأحداث -حين ينكشف المخبوء- بما يحسم الأمر، ويقطع قول كل خطيب.
’’ردود أفعال النظام إزاء الأخبار المتعلقة بالوساطة تأتي في صورتين: نفي وجود أي تفاوض أو وساطة من الأصل، أو ادعاء وجودها مع اتهام الإخوان بعرقلة كل محاولة لحل الأزمة والخروج بمصر من مأزقها المستحكم’’
ويبدو هذا الأمر مشكلة أمام المؤرخ، حتى وهو يطبق أدق المناهج الممكنة في تسجيل أحداث التاريخ، وأما المحلل السياسي للحدث الآني فقد يبدو الأمر بالنسبة له يسيرا من جهة، لكنه صعب من أخرى، فأما سهولته فتأتي من شعوره المباشر بمسارات الحدث الذي يتطور أمام ناظريه، وأما الصعوبة فتأتي من أن أحكامه قد تُبنَى عليها تصرفات ومواقف وفقا للقناعة التي يمكن أن يحققها التحليل، ومن هنا لزم مراعاة الدقة والأمانة في هذا اللون من الكتابة.
شائعات الحدث
جرى في نهر الحدث المصري ماء كثير منذ انتفض الشعب في وجه مبارك، وأصر على عدم مبارحة الميادين إلا وقد زال الرئيس السابق عن كرسيه، وهو ما حدث بالفعل يوم 11 فبراير/شباط 2011، وإن كان السيناريو الذي استجاب للمطلب الشعبي ما هو إلا خطة التفافية على الزئير الشعبي في وجه الاستبداد والفساد.
وفي هذا المشهد الملتهب نافست الشائعاتُ الحقائق بجدارة، بل نافستْ إخفاءَ الحقائق وطمرها في رمال الإعلام الموجَّه باحتراف أيضا، حتى إننا نستطيع أن نزعم أن الشائعات والأكاذيب هي التي فتحت الطريق بقوة أمام نظام 3 يوليو/تموز ليمر على جثة ثورة الخامس والعشرين من يناير.
وقد ظلت مسألة الوساطة والتفاوض بين النظام الجديد أو نوابه، وبين الإخوان المسلمين منذ الغارة على الديمقراطية من المسائل الأساسية التي دارت حولها شائعات كثيرة، وأُخفيت كذلك حقائق كثيرة تتعلق بها، فأين الصواب في هذه المسألة؟
أحسب أن الإجابة على هذا السؤال تتضح أكثر حين نحدد بدقة طرفي المعادلة الفاعلَينِ على الحقيقة في الحالة المصرية، وطبيعة كل طرف منهما، حتى نفهم موقفيهما من قضية التفاوض والوساطة:
- أما الطرف الأول، فيتمثل في النظام القائم على إدارة الدولة في مصر الآن، وهو نظام عسكري يتحرك بغطاء سياسي مدني يملأ فراغات المشهد ولا يحرِّك الحدث في الحقيقة، وقد تأكد ذلك لمن كان شاكا بعد بروز أكبر مرشحي الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في مايو/أيار القادم من المؤسسة العسكرية، مع انحياز أجهزة الدولة الرسمية وإعلامها له بصورة فجة، حتى بدت وكأنها تتولى الدعاية له، أو هي قد تولتها بالفعل.
- في حين أن الطرف الثاني هو ’’التحالف الوطني لدعم الشرعية’’، الذي يضم أطيافا سياسية ووطنية كثيرة، ويضم كذلك كثيرا من المصريين الذين لا ينتمون إلى تشكيل سياسي بعينه، وإن كان الإخوان المسلمون يمثلون أكبر كيان منظم في هذا التحالف عموما.
وقد بدا تأثير الصراع بين الحقيقة الثابتة والإشاعة المرسلة والأكذوبة المختلقة محتدما حتى في بيان حقيقة هذه الأطراف التي تتنافس في الحالة المصرية، سواء أكان هذا بإخفاء الوجه العسكري لنظام 3 يوليو، أم بادعاء أن الإخوان وحدهم هم الذين يقفون في وجه مصر الجديدة التي جاءت لتنقذ الشعب من شرورهم!
موقف النظام
وحين نلقي نظرة على تصريحات كل من الطرفين السابقين إزاء ما يتسرب من أخبار حول التفاوض الذي يجري أو الوساطات التي تتم منذ بدء الأزمة، سنجد أن ردود أفعال النظام التي تنشرها الصحف ووسائل الإعلام الموالية له وغير الموالية في هذا الصدد تأتي في صورتين:
الأولى: نفي وجود أي تفاوض أو وساطة من الأصل مع ’’الإخوان المسلمين’’، وهو ما صرح به الرئيس المؤقت في بعض الحوارات التلفزيونية في مارس/آذار الماضي، كما اتفقت عليه أحزاب جبهة الإنقاذ، الغطاء السياسي للانقلاب، بل يصرح به بعض الوزراء من وقت إلى آخر.
الصورة الثانية: ادعاء وجود وساطات -سواء أكان هذا الادعاء صحيحا أم لا- مع اتهام الإخوان بأنهم يعرقلون كل محاولة لحل الأزمة والخروج بمصر من مأزقها المستحكم، وأنهم يسعون إلى التضحية بمصر الدولة في مقابل الحفاظ على الجماعة ومصالحها.
وهذا ما يمكن الاطلاع على نماذج كثيرة منه على الصفحات الإخبارية التي نُشرت طوال الشهور الماضية، ولكن لا ننسى في هذا الصدد ما أعلنه عبد الفتاح السيسي من أنه حمل الدكتور سليم العوا في 3 يوليو/تموز رسالة إلى الرئيس محمد مرسي يطالبه فيها بعمل استفتاء على رئاسته للدولة، وهو ما نفاه العوا بصراحة، وبدا أن الهدف من المسألة هو إظهار الرئيس في صورة المتعنت، وأن ما جرى له لم يكن ظلما ولا تجاوزا في حقه، ولا حتى تعديا على القوانين والدستور!
’’يؤكد تحالف دعم الشرعية في حديثه عن الوساطات أنه لن يتنازل عن أي من حقوق الشعب وممثليه الشرعيين، وقد لخصوا هذه الحقوق في أغلب الأحيان برباعيتهم الشهيرة’’
وهذا في جملته يعني أنهم يفاوضون ويوسِّطون، ويسعون في هذه الناحية كما يسعون في غيرها ضمن خطوط متآزرة هدفها هو حسم الموقف بصورة تضمن بقاءهم، أو على أقل تقدير لا تدينهم بأي جريمة مما يتهمهم به غرماؤهم السياسيون في التحالف والإخوان ومن الشخصيات العامة الرافضة للانقلاب.
إن الإستراتيجية المعمول بها لضمان بقاء النظام الحاكم في مصر الآن - سواء بصورته العسكرية الصريحة أم المتوارية- تقوم على ثلاثة محاور رئيسية:
1- توظيف القبضة الحديدية: وهي التي يتعامل بها النظام مع المظاهرات التي تجعله متوترا دائما، وتصيبه بهستيريا تتجلى بوضوح عند التعامل مع رافعي شعار رابعة الشهير.
وهي إلى الآن ما زالت وسيلة بلا سقف، فإطلاق الرصاص الحي لم يتوقف منذ بدايات الانقلاب، وهو دائما خيار مطروح حتى في خلاف جانبي مع مواطن عادي على حاجز للشرطة أو الجيش، وكذلك القبض على المعارضين وتعذيبهم، والاعتداء على أعراض الذكور والإناث الذي أثبتت بعضه أخيرا جهات حقوقية وإعلامية محايدة.
2- الدعم الدولي: الذي يهدف إلى إشعار أطراف المعادلة والمتابعين لفصولها -مؤيدين ومعارضين- بأن الواقع الغليظ يقول إن ’’خريطة الطريق’’ تمشي بخطى ثابتة، وإنها في طريقها إلى الاكتمال، وإن ما يجري في الشارع وعلى مواقع التواصل لن يغير من واقع الأمر شيئا.
وقد نفهم من هذه الزاوية الزيارة الأخيرة لكاترين أشتون -الممثلة العليا للشؤون الخارجية والسياسة والأمنية للاتحاد الأوروبي- لمصر ولقاءها المرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي، إضافة إلى أن الزيارة قد تعكس نجاحا -على هذا المستوى- للدبلوماسية المصرية الساعية إلى دعم الواقع القائم في مصر دوليا، حتى يؤدي إلى الاستقرار بنفس التركيبة السياسية الحاكمة الآن.
3- الوساطة والتفاوض: وهو محور متوارٍ شيئا ما، إلا أن الإلحاح عليه واضح من خلال المبادرات الكثيرة التي خرجت -مثل مبادرات أحمد كمال أبو المجد ومحمد سليم العوا وحسن نافعة وبعض كتابات فهمي هويدي وغيرها- وتدعو الإخوان أو التحالف الوطني عموما إلى التنازل بدرجة أو أخرى -خاصة عن عودة الدكتور محمد مرسي إلى سدة الحكم- من أجل الحفاظ على مصر.
ولو سألنا عمن له مصلحة في هذه المبادرات، فسنجد أنه النظام في الدرجة الأولى، حيث إن أقل ما سيحصل عليه هو تبرئته من دماء آلاف قتلتهم ’’يد ما’’ منذ الثالث من يوليو/تموز من العام الماضي.
وإن ادعيْنا أنها مبادرات شخصية دعت إليها وطنيةُ هؤلاء المفكرين، وأنهم كانوا واقعيين في طرحهم هذا تماما، فالقوة المادية تحسم الموقف لصالح الانقلاب، وأنه لا جدوى لمواجهته بهذه المظاهرات مهما امتد بها الزمان، وحلُّ استخدام العنف سيسوقنا إلى سوريا أخرى. لو ادعينا هذا كله، فإنه سيعني ببساطة تامة أن أولي الرأي عجزوا عن بلوغ الأفق الذي وصلت إليه الجماهير، ولم يتجاوبوا مع آمالها، ولم يترجموا صمودها بصورة كافية، وإن لم يفيقوا فستتجاوزهم شعوبهم إلى آفاق أوسع وأرحب من الحدود التي تسبح فيها أفكارهم وتصوراتهم.
أما إن افترضنا أن النظام كانت له يد في الإيعاز إلى بعض هؤلاء -على الأقل- للخروج بهذه المبادرات، فهو أمر ليس بعيدا، خاصة بعد التصريح الذي أدلى به للجزيرة المفوض السابق للعلاقات الدولية عن جماعة الإخوان المسلمين يوسف ندا من أن النظام سعى إلى توسيطه لوقف الأعمال المناهضة للانقلاب لأجل مصلحة مصر، فإن كانوا يتواصلون مع إخوان الخارج أنفسهم لتهدئة الأوضاع، فغيرهم من رموز الداخل التي تلقى احتراما أولى.
مهما يكن، فلا أحد يستطيع أن ينفي صادقا خروج مبادرات وقيام وساطات كثيرة في الحالة المصرية طوال الأشهر العشرة الماضية، ولكن لابد من التأكيد بخصوصها على النقاط المهمة التالية:
- أن المبادرات والوساطات تنشط وتفتر من وقت إلى آخر دون أن يتجاوز أكثرها الطرح الإعلامي الذي يقصد جس نبض الأطراف المعنية أولا، وحين تواجه بهجوم من هذا الطرف أو ذاك يتوقف أصحابها عن طرحها -كما حدث في مبادرة الدكتور حسن نافعة مثلا- ربما بسبب عدم واقعيتها، أو لتجاوز الأحداث لها، أو عدم تلبيتها المستوى الأدنى من مطالب أحد طرفي الأزمة، أو حتى بضغوط خارجية وداخلية.
’’بدت -وما زالت- الوساطات ومبادرات الصلح بديلا لدى الطرفين غير مهمَل، ولكنه أيضا ليس أصلا، فالتحالف يتحرك ما بين حل سياسي وحل ثوري، والنظام يتحرك بين حل عسكري وآخر سياسي’’
- لم يبد العسكريون في مشهد التفاوض مباشرة، وإن ترجح أنهم يدفعون ببعض الأطراف -خاصة من السياسيين الموالين لهم- إلى القيام بهذا الدور من وقت إلى آخر، أو دفعوا بعض الوجوه المجتمعية من خارج النظام برمته للقيام به.
- ركز النظام في أوراق التفاوض على الإخوان أكثر من تحالف دعم الشرعية الذي يجمعهم وغيرهم في الصف المناوئ للانقلاب، ولا يعني هذا أن النظام لا يدرك أن المناوئين له ليسوا فقط الإخوان، ولكن يبدو أنهم يحاولون التأثير على الحلقة الأقوى في تحالف دعم الشرعية عملا على تفريق كلمته وتفتيته، أو على الأقل إضعافه.
موقف التحالف
وأما تحالف دعم الشرعية، والإخوان في القلب منه، فإن تصريحاته الخاصة بهذا الموضوع قد خرجت هي الأخرى في صورتين أيضا:
الأولى: التأكيد أنه لن يتنازل عن أي من حقوق الشعب وممثليه الشرعيين، وقد لخصوا هذه الحقوق في أغلب الأحيان برباعيتهم الشهيرة: عودة الدستور الذي استُفتي عليه الشعب عام 2012، وعودة الرئيس المنتخب محمد مرسي، وعودة مجلس الشورى الذي اختاره الشعب في انتخابات حرة، وأخيرا محاكمة المتهمين بسفك دماء المصريين في الميادين والجامعات أثناء المظاهرات التي خرجت محتجة على ’’الانقلاب’’ العسكري الذي وقع في الثالث من يوليو/تموز 2013.
الصورة الثانية: مبادرات للحل مستعدة للتنازل عن بعض المطالب والحقوق، في مقابل الحفاظ على الدولة وحمايتها من الانهيار. إلا أن هذه المبادرات كانت فردية في كل أحوالها، وقوبلت أيضا بموجة شديدة من الاعتراض، كما هو الحال في مبادرات أو حتى تصريحات الدكتور محمد علي بشر والدكتور محمد جمال حشمت.
مهما يكن، فقد بدت وما زالت الوساطات ومبادرات الصلح -باعتبارها حلا سياسيا- بديلا لدى الطرفين غير مهمَل، ولكنه أيضا ليس أصلا، فالتحالف يتحرك ما بين حل سياسي وحل ثوري، والنظام يتحرك بين حل عسكري وآخر سياسي، والذي يؤخر رتبة السياسي/التفاوض لدى الفريقين هو أن المبادرات والوساطات لا يمكنها الجمع بين المتناقضات!!
*الجزيرة نت
مع أن نفي وقوع ما وقع بالفعل أمرٌ معتاد في عالم السياسة، فإن الاتكاء على الشائعات المختلقة كثير فيه أيضا، ومقصود هذا وذاك هو الضغط على مشهد سياسي ما من نقطة حساسة فيه لتوجيهه والتحكم في مساراته.
ويبدو أن عالم السياسة قد أخذ في هذا بنصيحة ميكافيلي حتى قبل أن يقول بنظريته التي تفصل الأخلاق عن السياسة، فالميكافيلية موقف قبل أن تكون شخصا!
وتبدو القضايا السياسية المعقدة -أكثر من غيرها- مسرحا واسعا لهذه الألوان من السلوك، حتى إن الخطوط تتداخل وتتزاحم في نقاط معينة، ويتتابع النفي والإثبات على الحدث الواحد بدرجة محيِّرة، ويبقى تمييز الحقيقة من الزيف في هذا الظرف خاضعا لفهم طبيعة الحدث، ومدى تكرار ادعاء وقوعه في مسارات معينة لقضية ما، وقد تفاجئنا الأحداث -حين ينكشف المخبوء- بما يحسم الأمر، ويقطع قول كل خطيب.
’’ردود أفعال النظام إزاء الأخبار المتعلقة بالوساطة تأتي في صورتين: نفي وجود أي تفاوض أو وساطة من الأصل، أو ادعاء وجودها مع اتهام الإخوان بعرقلة كل محاولة لحل الأزمة والخروج بمصر من مأزقها المستحكم’’
ويبدو هذا الأمر مشكلة أمام المؤرخ، حتى وهو يطبق أدق المناهج الممكنة في تسجيل أحداث التاريخ، وأما المحلل السياسي للحدث الآني فقد يبدو الأمر بالنسبة له يسيرا من جهة، لكنه صعب من أخرى، فأما سهولته فتأتي من شعوره المباشر بمسارات الحدث الذي يتطور أمام ناظريه، وأما الصعوبة فتأتي من أن أحكامه قد تُبنَى عليها تصرفات ومواقف وفقا للقناعة التي يمكن أن يحققها التحليل، ومن هنا لزم مراعاة الدقة والأمانة في هذا اللون من الكتابة.
شائعات الحدث
جرى في نهر الحدث المصري ماء كثير منذ انتفض الشعب في وجه مبارك، وأصر على عدم مبارحة الميادين إلا وقد زال الرئيس السابق عن كرسيه، وهو ما حدث بالفعل يوم 11 فبراير/شباط 2011، وإن كان السيناريو الذي استجاب للمطلب الشعبي ما هو إلا خطة التفافية على الزئير الشعبي في وجه الاستبداد والفساد.
وفي هذا المشهد الملتهب نافست الشائعاتُ الحقائق بجدارة، بل نافستْ إخفاءَ الحقائق وطمرها في رمال الإعلام الموجَّه باحتراف أيضا، حتى إننا نستطيع أن نزعم أن الشائعات والأكاذيب هي التي فتحت الطريق بقوة أمام نظام 3 يوليو/تموز ليمر على جثة ثورة الخامس والعشرين من يناير.
وقد ظلت مسألة الوساطة والتفاوض بين النظام الجديد أو نوابه، وبين الإخوان المسلمين منذ الغارة على الديمقراطية من المسائل الأساسية التي دارت حولها شائعات كثيرة، وأُخفيت كذلك حقائق كثيرة تتعلق بها، فأين الصواب في هذه المسألة؟
أحسب أن الإجابة على هذا السؤال تتضح أكثر حين نحدد بدقة طرفي المعادلة الفاعلَينِ على الحقيقة في الحالة المصرية، وطبيعة كل طرف منهما، حتى نفهم موقفيهما من قضية التفاوض والوساطة:
- أما الطرف الأول، فيتمثل في النظام القائم على إدارة الدولة في مصر الآن، وهو نظام عسكري يتحرك بغطاء سياسي مدني يملأ فراغات المشهد ولا يحرِّك الحدث في الحقيقة، وقد تأكد ذلك لمن كان شاكا بعد بروز أكبر مرشحي الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في مايو/أيار القادم من المؤسسة العسكرية، مع انحياز أجهزة الدولة الرسمية وإعلامها له بصورة فجة، حتى بدت وكأنها تتولى الدعاية له، أو هي قد تولتها بالفعل.
- في حين أن الطرف الثاني هو ’’التحالف الوطني لدعم الشرعية’’، الذي يضم أطيافا سياسية ووطنية كثيرة، ويضم كذلك كثيرا من المصريين الذين لا ينتمون إلى تشكيل سياسي بعينه، وإن كان الإخوان المسلمون يمثلون أكبر كيان منظم في هذا التحالف عموما.
وقد بدا تأثير الصراع بين الحقيقة الثابتة والإشاعة المرسلة والأكذوبة المختلقة محتدما حتى في بيان حقيقة هذه الأطراف التي تتنافس في الحالة المصرية، سواء أكان هذا بإخفاء الوجه العسكري لنظام 3 يوليو، أم بادعاء أن الإخوان وحدهم هم الذين يقفون في وجه مصر الجديدة التي جاءت لتنقذ الشعب من شرورهم!
موقف النظام
وحين نلقي نظرة على تصريحات كل من الطرفين السابقين إزاء ما يتسرب من أخبار حول التفاوض الذي يجري أو الوساطات التي تتم منذ بدء الأزمة، سنجد أن ردود أفعال النظام التي تنشرها الصحف ووسائل الإعلام الموالية له وغير الموالية في هذا الصدد تأتي في صورتين:
الأولى: نفي وجود أي تفاوض أو وساطة من الأصل مع ’’الإخوان المسلمين’’، وهو ما صرح به الرئيس المؤقت في بعض الحوارات التلفزيونية في مارس/آذار الماضي، كما اتفقت عليه أحزاب جبهة الإنقاذ، الغطاء السياسي للانقلاب، بل يصرح به بعض الوزراء من وقت إلى آخر.
الصورة الثانية: ادعاء وجود وساطات -سواء أكان هذا الادعاء صحيحا أم لا- مع اتهام الإخوان بأنهم يعرقلون كل محاولة لحل الأزمة والخروج بمصر من مأزقها المستحكم، وأنهم يسعون إلى التضحية بمصر الدولة في مقابل الحفاظ على الجماعة ومصالحها.
وهذا ما يمكن الاطلاع على نماذج كثيرة منه على الصفحات الإخبارية التي نُشرت طوال الشهور الماضية، ولكن لا ننسى في هذا الصدد ما أعلنه عبد الفتاح السيسي من أنه حمل الدكتور سليم العوا في 3 يوليو/تموز رسالة إلى الرئيس محمد مرسي يطالبه فيها بعمل استفتاء على رئاسته للدولة، وهو ما نفاه العوا بصراحة، وبدا أن الهدف من المسألة هو إظهار الرئيس في صورة المتعنت، وأن ما جرى له لم يكن ظلما ولا تجاوزا في حقه، ولا حتى تعديا على القوانين والدستور!
’’يؤكد تحالف دعم الشرعية في حديثه عن الوساطات أنه لن يتنازل عن أي من حقوق الشعب وممثليه الشرعيين، وقد لخصوا هذه الحقوق في أغلب الأحيان برباعيتهم الشهيرة’’
وهذا في جملته يعني أنهم يفاوضون ويوسِّطون، ويسعون في هذه الناحية كما يسعون في غيرها ضمن خطوط متآزرة هدفها هو حسم الموقف بصورة تضمن بقاءهم، أو على أقل تقدير لا تدينهم بأي جريمة مما يتهمهم به غرماؤهم السياسيون في التحالف والإخوان ومن الشخصيات العامة الرافضة للانقلاب.
إن الإستراتيجية المعمول بها لضمان بقاء النظام الحاكم في مصر الآن - سواء بصورته العسكرية الصريحة أم المتوارية- تقوم على ثلاثة محاور رئيسية:
1- توظيف القبضة الحديدية: وهي التي يتعامل بها النظام مع المظاهرات التي تجعله متوترا دائما، وتصيبه بهستيريا تتجلى بوضوح عند التعامل مع رافعي شعار رابعة الشهير.
وهي إلى الآن ما زالت وسيلة بلا سقف، فإطلاق الرصاص الحي لم يتوقف منذ بدايات الانقلاب، وهو دائما خيار مطروح حتى في خلاف جانبي مع مواطن عادي على حاجز للشرطة أو الجيش، وكذلك القبض على المعارضين وتعذيبهم، والاعتداء على أعراض الذكور والإناث الذي أثبتت بعضه أخيرا جهات حقوقية وإعلامية محايدة.
2- الدعم الدولي: الذي يهدف إلى إشعار أطراف المعادلة والمتابعين لفصولها -مؤيدين ومعارضين- بأن الواقع الغليظ يقول إن ’’خريطة الطريق’’ تمشي بخطى ثابتة، وإنها في طريقها إلى الاكتمال، وإن ما يجري في الشارع وعلى مواقع التواصل لن يغير من واقع الأمر شيئا.
وقد نفهم من هذه الزاوية الزيارة الأخيرة لكاترين أشتون -الممثلة العليا للشؤون الخارجية والسياسة والأمنية للاتحاد الأوروبي- لمصر ولقاءها المرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي، إضافة إلى أن الزيارة قد تعكس نجاحا -على هذا المستوى- للدبلوماسية المصرية الساعية إلى دعم الواقع القائم في مصر دوليا، حتى يؤدي إلى الاستقرار بنفس التركيبة السياسية الحاكمة الآن.
3- الوساطة والتفاوض: وهو محور متوارٍ شيئا ما، إلا أن الإلحاح عليه واضح من خلال المبادرات الكثيرة التي خرجت -مثل مبادرات أحمد كمال أبو المجد ومحمد سليم العوا وحسن نافعة وبعض كتابات فهمي هويدي وغيرها- وتدعو الإخوان أو التحالف الوطني عموما إلى التنازل بدرجة أو أخرى -خاصة عن عودة الدكتور محمد مرسي إلى سدة الحكم- من أجل الحفاظ على مصر.
ولو سألنا عمن له مصلحة في هذه المبادرات، فسنجد أنه النظام في الدرجة الأولى، حيث إن أقل ما سيحصل عليه هو تبرئته من دماء آلاف قتلتهم ’’يد ما’’ منذ الثالث من يوليو/تموز من العام الماضي.
وإن ادعيْنا أنها مبادرات شخصية دعت إليها وطنيةُ هؤلاء المفكرين، وأنهم كانوا واقعيين في طرحهم هذا تماما، فالقوة المادية تحسم الموقف لصالح الانقلاب، وأنه لا جدوى لمواجهته بهذه المظاهرات مهما امتد بها الزمان، وحلُّ استخدام العنف سيسوقنا إلى سوريا أخرى. لو ادعينا هذا كله، فإنه سيعني ببساطة تامة أن أولي الرأي عجزوا عن بلوغ الأفق الذي وصلت إليه الجماهير، ولم يتجاوبوا مع آمالها، ولم يترجموا صمودها بصورة كافية، وإن لم يفيقوا فستتجاوزهم شعوبهم إلى آفاق أوسع وأرحب من الحدود التي تسبح فيها أفكارهم وتصوراتهم.
أما إن افترضنا أن النظام كانت له يد في الإيعاز إلى بعض هؤلاء -على الأقل- للخروج بهذه المبادرات، فهو أمر ليس بعيدا، خاصة بعد التصريح الذي أدلى به للجزيرة المفوض السابق للعلاقات الدولية عن جماعة الإخوان المسلمين يوسف ندا من أن النظام سعى إلى توسيطه لوقف الأعمال المناهضة للانقلاب لأجل مصلحة مصر، فإن كانوا يتواصلون مع إخوان الخارج أنفسهم لتهدئة الأوضاع، فغيرهم من رموز الداخل التي تلقى احتراما أولى.
مهما يكن، فلا أحد يستطيع أن ينفي صادقا خروج مبادرات وقيام وساطات كثيرة في الحالة المصرية طوال الأشهر العشرة الماضية، ولكن لابد من التأكيد بخصوصها على النقاط المهمة التالية:
- أن المبادرات والوساطات تنشط وتفتر من وقت إلى آخر دون أن يتجاوز أكثرها الطرح الإعلامي الذي يقصد جس نبض الأطراف المعنية أولا، وحين تواجه بهجوم من هذا الطرف أو ذاك يتوقف أصحابها عن طرحها -كما حدث في مبادرة الدكتور حسن نافعة مثلا- ربما بسبب عدم واقعيتها، أو لتجاوز الأحداث لها، أو عدم تلبيتها المستوى الأدنى من مطالب أحد طرفي الأزمة، أو حتى بضغوط خارجية وداخلية.
’’بدت -وما زالت- الوساطات ومبادرات الصلح بديلا لدى الطرفين غير مهمَل، ولكنه أيضا ليس أصلا، فالتحالف يتحرك ما بين حل سياسي وحل ثوري، والنظام يتحرك بين حل عسكري وآخر سياسي’’
- لم يبد العسكريون في مشهد التفاوض مباشرة، وإن ترجح أنهم يدفعون ببعض الأطراف -خاصة من السياسيين الموالين لهم- إلى القيام بهذا الدور من وقت إلى آخر، أو دفعوا بعض الوجوه المجتمعية من خارج النظام برمته للقيام به.
- ركز النظام في أوراق التفاوض على الإخوان أكثر من تحالف دعم الشرعية الذي يجمعهم وغيرهم في الصف المناوئ للانقلاب، ولا يعني هذا أن النظام لا يدرك أن المناوئين له ليسوا فقط الإخوان، ولكن يبدو أنهم يحاولون التأثير على الحلقة الأقوى في تحالف دعم الشرعية عملا على تفريق كلمته وتفتيته، أو على الأقل إضعافه.
موقف التحالف
وأما تحالف دعم الشرعية، والإخوان في القلب منه، فإن تصريحاته الخاصة بهذا الموضوع قد خرجت هي الأخرى في صورتين أيضا:
الأولى: التأكيد أنه لن يتنازل عن أي من حقوق الشعب وممثليه الشرعيين، وقد لخصوا هذه الحقوق في أغلب الأحيان برباعيتهم الشهيرة: عودة الدستور الذي استُفتي عليه الشعب عام 2012، وعودة الرئيس المنتخب محمد مرسي، وعودة مجلس الشورى الذي اختاره الشعب في انتخابات حرة، وأخيرا محاكمة المتهمين بسفك دماء المصريين في الميادين والجامعات أثناء المظاهرات التي خرجت محتجة على ’’الانقلاب’’ العسكري الذي وقع في الثالث من يوليو/تموز 2013.
الصورة الثانية: مبادرات للحل مستعدة للتنازل عن بعض المطالب والحقوق، في مقابل الحفاظ على الدولة وحمايتها من الانهيار. إلا أن هذه المبادرات كانت فردية في كل أحوالها، وقوبلت أيضا بموجة شديدة من الاعتراض، كما هو الحال في مبادرات أو حتى تصريحات الدكتور محمد علي بشر والدكتور محمد جمال حشمت.
مهما يكن، فقد بدت وما زالت الوساطات ومبادرات الصلح -باعتبارها حلا سياسيا- بديلا لدى الطرفين غير مهمَل، ولكنه أيضا ليس أصلا، فالتحالف يتحرك ما بين حل سياسي وحل ثوري، والنظام يتحرك بين حل عسكري وآخر سياسي، والذي يؤخر رتبة السياسي/التفاوض لدى الفريقين هو أن المبادرات والوساطات لا يمكنها الجمع بين المتناقضات!!
*الجزيرة نت