مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الأزمة التركية والكاريزما الأردوغانية
أحمد أبو دقة
يواجه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان ضغطا سياسيا غير مسبوق على الصعيد الداخلي والخارجي لإنهاء حكمه، وعلى الرغم من فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الرئاسية والبلدية لثلاث فترات متتالية منذ العام 2002، إلا أن أردوغان يناضل هذه الأيام من أجل روح تركيا.

الزعيم التركي أردوغان يخوض هذه الأيام مواجهة عسيرة من أجل الخلاص من فضيحة الفساد التي تورطت فيها حكومته سواء كان ذلك بشكل مفتعل حسب تعبيره، أو أن بقايا الأتاتوركيين المتأصلين في مؤسسات الدولة لا يزالون يمارسون الفساد كسابق عهدهم.

أردوغان من خلال مواقفه السابقة أكد امتلاكه كاريزما قوية جعلته يتخطى الكثير من الأزمات ويواجه بقوة معارضيه من العلمانيين، وجاء صعود حزبه إلى السلطة ليلعب دورا محوريا داخل تركيا وخارجها، وكان يحمل أجندة سياسة واقتصادية واجتماعية واضحة، أهمها:

· رفض العلمانية الأتاتوركية التي جعلت البلاد ترزح تحت نسبة ضخمة من الفساد الاقتصادي الكبير، حيث بلغت ديون تركيا الداخلية عام 1999، مائة مليار دولار وبفائدة سنوية قدرت بخمسة مليارات دولار، كما تسبب التبذير والإسراف الحكومي من (1990-2000) في ضياع 195.2 مليار دولار.

· على وقع الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم عام 2000، والتي تسببت بفقدان الليرة التركية نسبة 40 % من قيمتها أمام الدولار، أغلقت العديد من المصانع وزادت نسبة التضخم في البلاد بالإضافة إلى فقدان مئات الآلاف وظائفهم؛ جاء أردوغان بأجندة اقتصادية جديدة جعلت تركيا تسجل أرقاما قياسية في حجم الصادرات، حيث بلغت عام 2012 وحده 152.5 مليار دولار، كما عزز من قوة الصناعات الثقيلة داخل البلاد وأنشأ بنية تحتية متطورة في المدن التركية.

· ومن النقاط المهمة التي سعى إلى علاجها أردوغان في تركيا، مشكلة اندماج الأقليات وإعادة توزيع الخارطة الديمغرافية لتركيا، فقد أجرى مفاوضات مكثفة مع الأكراد لحل قضيتهم ونجح بشكل كبير في ذلك، ومنحهم المزيد من الحقوق والحريات، وكانت استراتيجيته معهم غايتها الحفاظ على الأمن الداخلي التركي وإحلال السلم الأهلي بعد فترة طويلة من العنف.

· كذلك سعى أردوغان إلى أسلمة المجتمع التركي من خلال فرض قيود على شرب الخمور وعزز من دور المؤسسات الإسلامية العاملة في تركيا وفتح دور التحفيظ والمساجد، وأكد بذلك هوية تركيا الإسلامية وعاد بالأتراك إلى عهد الإمبراطورية العثمانية التي قضت عليها الأتاتوركية، كما صعّد الكثير من الشخصيات الإسلامية إلى وظائف رفيعة في الدولة، بالإضافة إلى أسلمة البنوك من خلال تولي شخصيات إسلامية إدارة عدد منها.

· على الصعيد الخارجي كذلك، اتجه أردوغان إلى التصادم مع الكيان الصهيوني، ودافع عن حقوق الفلسطينيين ووقف مواقف مشرفة مع قطاع غزة لم نكن نراها من الدول العربية، وجعل من مواقفه اتجاه الكيان بوصلة تحرك سياسة تركيا الخارجية، وبالرغم من الموقف الغربي القاسي تجاه تركيا بسبب مواقفها من الكيان الصهيوني، إلا أن الموقف التركي زادت حدته من خلال ما صرح به وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو خلال زيارته للعراق قبل عدة أيام، حيث أكد أن بلاده تفكر بالانسحاب من حلف الأطلسي ’’ناتو’’.

· مع الطفرة الاقتصادية التي عاشتها تركيا، أخذ حزب العدالة والتنمية بزعيمه التقليدي أردوغان يقلل من أهمية الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، ولا يظهر مبرر لذلك سوى الطموح العثماني لدى أردوغان، فهو يرى تركيا إمبراطورية لها ثقافتها الخاصة وهويتها الإسلامية وقوميتها الغنية بالإرث الحضاري والثقافي، ولا حاجة للعودة إلى فساد العلمانية من خلال البوابة الأوروبية.

· حاول أردوغان من خلال مؤازرته الإسلاميين في مصر وتونس وغزة وليبيا، بث الروح الإسلامية على قضايا المنطقة، ومن خلال موقفه من الأزمة السورية واستضافة بلاده مئات الآلاف من اللاجئين السوريين ومعاملتهم معاملة حسنة، استطاع أن يحصد شعبية كبيرة على الصعيد الداخلي والخارجي، حيث أصبح في نظر الكثير من المسلمين بطلا إسلاميا في زمن الخنوع العربي، وفتح أبواب تركيا لتكون مقرا للكثير من نشاطات الأحزاب والقيادات الإسلامية والعربية، وعزز من دور وكالة أنباء الأناضول الحكومية في التعايش مع الحدث الإسلامي والتواصل مع العالم الإسلامي، كما فتح مقرات ومستشفيات في البلدان الفقيرة لتكون بمثابة سفارات تركية تمد جسور التواصل مع ولايات الإمبراطورية العثمانية سابقا.

قدمت تركيا خلال ما يعرف بالربيع العربي نفسها كنموذج ناجح لتجربة حكم حزب إسلامي، سواء من خلال تجاوز الأزمات السياسية أو الاقتصادية، وأضحت نموذجا ينظر إليه بفخر واقتداء من قبل الأحزاب الإسلامية الصاعدة في تونس وليبيا وحتى مصر في عهد الرئيس محمد مرسي، حيث وقعت اتفاقيات عديدة مع الحكومة المصرية بغرض مساعدة مصر في النهوض من كبوتها.

لم يقف أعداء التجربة التركية عن محاولات الإطاحة بحكومة أردوغان بعد أن تمكنت الأخيرة من السيطرة على الجيش، فقد كانت أحداث ميدان تقسيم في إسطنبول فرصة كبيرة لجهود العلمانية التركية من أجل إسقاط العدالة والتنمية مستغلة الأقليات العلوية المناوئة لأردوغان والكارهة لمواقفه من النظام السوري من أجل إشعال الفوضى وإجبار الحكومة على الاستقالة، لكن المحاولة باءت بالفشل بسبب شدة أردوغان وحكمته، وقال في حينها إنه مستعد لإجراء استفتاء حول مصير حكومته.

قبل عدة أشهر أصدر رئيس الحكومة التركية قرارا خاصا بإغلاق مدارس تابعة لتيار الزعيم الصوفي فتح الله غولن، ومنذ تلك اللحظة اشتعلت أزمة كبيرة راهن البعض على أن تكون القشة التي تقسم ظهر أردوغان، لكن حكمة أردوغان ونبرة التحدي الذي أظهرها مؤخرا في مواجهة فضيحة الفساد الحكومي الذي افتعلها تيار غولن بحسب حزب العدالة والتنمية، تبين أن أردوغان يسير حتى الموت في الحفاظ على روح تركيا الإسلامية.

فغولن الذي يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1999 كان من المتحالفين مع العدالة والتنمية في البرلمان التركي، لكن تضاربت المصالح بعد معارضة غولن سياسات أردوغان تجاه الكيان الصهيوني، وكذلك دعمه جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وأداء الحكومة التركية في معالجة أزمة ميدان تقسيم، والتأثير التركي في قضايا العالم الإسلامي.

بعد أن تخلص أردوغان من تدخلات الجيش التركي في الأداء الحكومي، يحاول الآن التخلص من خصومه السياسيين أمثال غولن لإدراكه حجم حركته الاقتصادي والسياسي داخل الساحة التركية، بالإضافة إلى مواقفه من السياسة التركية الخارجية والتي يمكن أن يتم الترويج لها داخليا من خلال وسائل الإعلام الذي يمتلكها تيار غولن، إضافة إلى علاقات غولن مع الولايات المتحدة واعتماده سياسة التصالح معها.

بالرغم من توقعات الكثيرين بأن تكون الانتخابات البلدية القادمة في مارس 2014 مرحلة اختبار بالنسبة للعدالة والتنمية، إلا أن تركيا اليوم يحكمها حزب سياسي لديه الخبرة الكافية لتخطي الأزمة الراهنة، وكذلك الحلفاء الكبار في المجتمع الاقتصادي، لا سيما بعد النمو الذي ساد تركيا خلال سنوات حكم أردوغان، بالإضافة إلى قاعدة كبيرة من المتدينين الذين يجدون تركيا بروح إسلامية أفضل حالا من التجربة العلمانية.
*البيان
أضافة تعليق