مكائد السفهاء وحكم أهل الأهواء (1 - 2)
شريف قاسم
حفِظَ اللهُ دينَه القويم من كيد الكائدين، ومن مكر السفهاء أعداء الدين، الذين خلعوا لباس الهدى وارتدوا ألبسة الضلالة والفساد في الأرض، فشجعوا الجهلة على ارتكاب المحرمات، وزيَّنوا لهم أنواع المفاسد، فأبعدوا الناس عن حقيقة الإيمان بالله، وعن حياض التوحيد، فشاعت في المجتمع الإسلامي الضلالات، وانحاز الشباب إلى التحزب الأعمى للأفكار المستوردة من شيوعية واشتراكية وحداثة وعلمنة وغيرها من أنواع أبواب الخسران، وانساب هؤلاء الشباب من خلال هذه الأفكار إلى مواطن الفساد والمخدرات والملاهي، واستحلوا ما حرَّم الله من السفور والفجور وكبائر الذنوب وصغائرها، وحاربوا شريعة الله استكباراً وعُلواً بغير حق. فانغمسوا في مراتع الأهواء والإغواء، فوقعوا أسرى الشهوات والملذات الدنيوية، ونسوا حقوق أمتهم عليهم، فقد جاذبتهم تلك المخازي وغلبتهم، فهم على شفا جرف هار، بل لقد انهار بهم في وديان الفوضى والتخبط الأعمى، وهذه نتيجة حتمية لاتباع الهوى، وثمرة مُرَّة يجنيها أهل الأهواء الضَّالة، فهم في لهاث مميت، وما أدق تشبيه الله لهم في هذا المضمار: (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث) (الأعراف:176)، حيث الخبث والخسة والدناءة التي يتمتع بها كلاب الدنيا المعرضون عن نداء الآخرة - والآخرة خير وأبقى، لو كانوا يعلمون - وهل يبقى متسع في قلوب هؤلاء لحقِّ أمةٍ، أو مكان لضمير حيٍّ يشعر بما في المجتمع الذي يعيشون فيه من آلام وأوجاع، ومن تطلعات وآمال يرتقبها الناس من حكامهم؟! ولقد وصل هؤلاء إلى حكم البلاد والعباد بهذا الجهل والعجز والتخبط، فذاق العباد على أيديهم أنواع الويلات والشدائد، وتلاشى ما يجب أن يكون للحاكم من تشمير عن ساعد المجد والسؤدد، ومن تصدٍّ لِما تعاني منه الأمة، ومن قدرة على مواجهة تقلبات الأيام وغوائلها وكيد الأعداء وما يبيِّتون لها، وإنما أحدثوا في سلوكهم وتصرفاتهم ما لا يليق بحاكم مسلم، متبعين أهواءَهم، ضاربين بهَدْيِ دينهم عرض الجدران: (فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى) (النساء:135)، ولقد يُخيَّل للناظر إليهم وهو يستقصي أحوالهم أنهم في حالة من الضياع، وأنهم غارقون في زينة الحياة الدنيا، وقد غفلت قلوبهم عن حقيقة ما تقلدوه من مسؤوليات جِسام تجاه الأمة، وتجاه شرائح المجتمع التي تحتاج إلى طعام وتعليم وصحة وأمن.. . قال الله تعالى مخاطباً نبيَّه صلى الله عليه وسلم.. قائد الأمة (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً {28}) (الكهف). فأين الحاكم الذي يتلمس معاناة الناس، ويسهر على دفع أعباء الحياة عنهم، ويتأسَّى بسيرة الخليفة الراشدي العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يوم حمل الزاد على ظهره ومضى به إلى بيت تلك العجوز التي يتضور أولادها من الجوع؟ وأين الحاكم الذي يجب أن يصغي للعلماء وأهل الحكمة والمشورة، ويُبعد عنه بطانة السوء والفحشاء والمنكر لكيلا يضل ويُفتتن، ويتبع أهواء الذين لا يخافون الله ربَّ العالمين؟ يقول الله عزَّ وجلَّ محذراً أهل الحكم والحل والعقد من هؤلاء: (فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى {16}) (طـه)، فالهوى سفير الشهوات إلى النفس، يقتل الحمية والمروءة، ويقود صاحبه إلى التبار والخسران، وينأى به عن مواطن السداد والتوفيق، ولقد استعاذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من المرديات وعدَّ منها اتباع الأهواء، فقال صلى الله عليه وسلم في دعائه: ’’اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء’’. لم تُبتلَ الأمةُ ببلاء أعظم من حكم أهل الأهواء لها، فهم البطَّالون في أسواق الخذلان، لا يرون إلا ما به يتمتعون، من مال ونساء، ومن مراكب البهرج السَّيئ السمعة، على عيونهم غشاوة، وفي آذانهم وقر، فلا يسمعون نداء مصلح ناصح، ولا مشورة مَن يخشى الله، فكيف لهؤلاء أن يقودوا أمة ذات مجد وتاريخ، وهي مكلفة بأن تقيم الحقَّ والعدل وتقضي على أسباب الشقاء لدى الأمم يقول الله سبحانه وتعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ {23}) (الجاثية)، إن الإنسان الذي تمتطيه أهواؤُه ينعكس ضررُها عليه، ولكن المصيبة إذا كان صاحب الأهواء حاكما أو مسؤولاً عن قطاع كبير في المجتمع، فهذا يعود ضررُه على الناس، وتقع المصيبة الكبرى عليهم، وهيهات لهذه الأصناف أن تندم وتتوب، وتستجيب لصوت دين أو ضمير أو لأمر الله ربِّ العالمين: (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ) (القصص:50)، وهؤلاء كما معلوم لدى الناس اليوم مشغولون ببطونهم وفروجهم وبمضلات الفتن كما ورد في الآثار. وهؤلاء هم الذين أشرعوا أبواب الفساد للسفهاء العاجزين عن تقويم أنفسهم، وعن الرقي بها على مدارج رضوان الله تبارك وتعالى، فامتطى ظهورَهم إبليس للتخريب والتدليس، وللفتن التي تعج بها بلاد المسلمين اليوم، وهؤلاء وأسيادهم لم يفكِّروا لِما بعد موتهم - هذا إن كان بعضهم يؤمنون باليوم الآخر - ولقد صدق النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين وصف الكيِّسَ من الناس والعاجز ذا الأهواء، فعن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ’’ (رواه الترمذي). فإذا كانت العلاقة القائمة بين الحاكم وبين أهل العلم والنصيحة والمشورة على الصدق والإخلاص، فإنها علاقة مباركة كريمة، وإن كانت قائمة على المداهنة والخداع فبئست تلك العلاقة التي ستعود بالشر والأذى على جميع الأطراف، ففي بعض الآثار: ’’مَنْ أَرَادَ أَنْ يُكْرَمَ دِينُهُ، فلا يَدْخُلْ عَلَى السُّلْطَانِ، وَلا يَخْلُوَنَّ بِالنِّسْوَانِ، ولا يُخَاصِمَنَّ أَصْحَابَ الأَهْوَاءِ’’. فالسفهاء هم أصحاب المكائد والنقائص، وهم الذين بسبب تصرفاتهم وأهوائهم يهلك الناس، وتضيع قيم أخلاقهم، ويتلاشى ما لديهم من قوة ووفاء وإخلاص لبناء أوطانهم والرقي بها، وحسبنا استفسار المهددين الذي يوجع القلوب: ’’أتهلكنا بما فعل السفهاء منا’’! وهم أهل التعاملات المتقلبة الذين لا يقيمون للأخلاق وزناً في تعاملاتهم، وإذا فقد الإنسانُ الخُلُق الحميد فلا خير فيه، ولذلك فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كان يسأل ربَّه عزَّ وجلَّ حسنَ الخُلُق، وقد روى الإمام عن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كان يقول إذا قام في صلاته: ’’وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ..’’ (رواه مسلم).*مجلة المجتمع